عبد الله السناوي *
لم يُحسم السباق المحتدم إلى البيت الأبيض بعد، لكنه دخل أخطر منعطفاته بعد المناظرة الرئاسية التي جمعت المرشحين: الديمقراطية «كامالا هاريس» والجمهوري «دونالد ترامب».
يقال- عادة- إن الصورة أقوى من الحقيقة، أو أن ما يستقر من انطباعات في الرأي العام أهم من البرامج في تقرير التداعيات ومسارها.
بقوة الانطباع العام، الذي عكسته الأغلبية الساحقة من استطلاعات الرأي العام وتعليقات كُبريات الصحف والمواقع الأمريكية، حدث ما لم يكن متوقعاً.
خسر «ترامب» المناظرة رغم ما يقال عن خبرته الطويلة في هذا المجال وكسبتها «هاريس» التي يفترض أنها بلا خبرة.
نجحت «هاريس» أن تقدم نفسها للرأي العام الأمريكي كمرشحة جدية قادرة على الوفاء بمهام المنصب الرئاسي.
بالوقت نفسه نسخت صورة «مرشحة ملء الفراغ»، إثر الخروج الاضطراري لـ«جو بايدن» على خلفية أوضاعه الصحية والذهنية الكارثية، التي بدا عليها في المناظرة السابقة مع «ترامب».
اختلفت الأجواء والنتائج في المناظرة الجديدة، التي عُقدت في بنسلفانيا، إحدى أهم الولايات المتأرجحة في تقرير لمن الفوز في النهاية.
احتشدت أثناء المناظرة أعداد كبيرة خارج القاعة ترفع الأعلام الفلسطينية وتدعو إلى وقف فورى للحرب على غزة.
كانت تلك رسالة مباشرة إلى «هاريس» بالذات تحمل نقداً عنيفاً لسياسات الرئيس الحالي «بايدن».
كما كانت رسالة مباشرة أخرى إلى العالم العربي أن يقرأ بجدية التفاعلات الأمريكية وما قد يحدث بعدها من تداعيات تمس وجودنا نفسه.
وفق استخلاص عام، سائد وصحيح، فإن المناظرة لا تحسم الانتخابات، لكنها تعزز الروح المعنوية عند طرف وتربك الطرف الآخر.
حسب تقدير قيادات جمهورية عديدة: «أداء ترامب لم يكن جيداً، لكنه ليس مدمراً».
بصيغة أكثر وضوحاً قال السيناتور الجمهوري «ليندسي جراهام» أوثق حلفاء «ترامب» و”بنيامين نتانياهو” معاً: «كان كارثياً، لكن لم تفت بعد فرصة المراجعة».
إلى أي حد تمكن تلك المراجعة والتصحيح فى صورة «ترامب»، التي تضررت بصورة بالغة على غير ما كان متوقعاً.
أخطر عائق «ترامب» نفسه.
بعد المناظرة أعلن انتصاره فيها، على عكس الحقيقة الماثلة في استطلاعات الرأي العام.
عندما دعته حملة «هاريس» إلى مناظرة ثانية رفض أن يدخل التجربة من جديد خشية أن تُلحق به قبيل الانتخابات الرئاسية مباشرة هزيمة أخرى، تكون قاتلة هذه المرة.
قال كمن يداري هزيمته، لقد كسبتُ الأولى ولا داعي للثانية!
كان ذلك تعبيراً عن تقوض ثقته في نفسه.
بدا منعزلاً عن الواقع، كما اتهمته «هاريس» أثناء المناظرة.
بصورة أخرى بدا كمن ينكر الحقائق وفق أهوائه، كخسارته الانتخابات الرئاسية السابقة وتورطه في حصار مبنى «الكابيتول» لمنع اعتماد نتائجها!
اهتزت صورة «ترامب» بعمق بالتورط في ادعاءات غير صحيحة ومفرطة في عنصريتها دون أن يكون لها ظل من حقيقة، أو شبه ظل.
فيما قاله وجرى تكذيبه على الهواء مباشرة من مُنظمي المناظرة ومن السلطات في ولاية أوهايو إن المهاجرين يأكلون الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب!
كان ذلك سحباً على المكشوف من أي رصيد صدقية، أو فيما يطلقه من تصريحات وأحكام.
في تفسيره للصورة التي كان عليها في المناظرة اتهم منظميها بالتحيز ضده.. «كانوا ثلاثة ضد واحد».
كان ذلك شرخاً عميقاً آخر بالإمعان في نظرية المؤامرة.
ارتكبت «هاريس» بدورها أخطاء معلوماتية عن أعداد القوات الأمريكية في مسارح القتال بالخارج، أو عن أعداد العاطلين عن العمل.
كل ما جرى في المناظرة أُخّضِع للبحث والتقصي وقراءة لغة الجسد وقدرة كل مرشح على تحمل الاستفزازات من الطرف الآخر.
تعمدت «هاريس» استفزازه بإهانات مقصودة كالقول إن تجمعاته الانتخابية يغادرها الناس سريعاً تخلصاً من الملل.
شُرخت صورة «ترامب» كأنها بلا حد أو نهاية عند مناقشة القضايا الدولية، التي طرحت نفسها بإلحاح غير مسبوق في الانتخابات الرئاسية الحالية.
لم يكن لديه ما يقوله عن حربي أوكرانيا وغزة غير كلام عام أقرب إلى التهويمات دون أن تكون لديه خطة، أو تصور واضح لما سوف يتبعه من سياسات.
«لو كنتُ رئيساً لما جرت الحرب الأوكرانية»، «باتصال هاتفي واحد مع بوتين سوف أنهي الحرب بالوساطة قبل أن أدخل البيت الأبيض».
أفلتت منه بالمبالغات في غير موضعها فرصة توجيه ضربات قاتلة لنائبة «بايدن» بشأن الانسحاب العشوائي من أفغانستان والحرب المُكلفة اقتصادياً واستراتيجياً في أوكرانيا.
لم يبدِ الكرملين ارتياحاً للطريقة التي جرى بها الحديث عن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» ولا التصورات الساذجة التي رددها «ترامب».
حسب تصريح رسمي روسي فإن هذا الكلام «لن يغيرَ شيئاً»، فموسكو الآن تدافع عن أمنها القومي الذي تهدده سياسات وتحالفات على الأرض وامدادات سلاح لا تتوقف من حلف «الناتو».
كان «بايدن» الغائب الحاضر في المناظرة.
بنى «ترامب» استراتيجيته على الهجوم المتصل عليه بمناسبة، أو دون مناسبة.
اضطرت «هاريس» أن تذكره أنها هي التي تنافسه.
بنفس الوقت حاولت التخفف من عبء «بايدن» دون إساءة إليه.
اتسمت إدارته، التي كانت شريكاً رئيسياً فيها، بالعسكرة الزائدة في حرب أوكرانيا وغزة.
مع ذلك اتهمها «ترامب» بكراهية إسرائيل، والعرب أيضاً!
قال من باب المبالغة المُفرطة: «إنها إذا أصبحت رئيسة فإن إسرائيل سوف تختفي بغضون عامين» متماهياً مع «نتنياهو» واليمين الإسرائيلي المتطرف.
بدت «هاريس» كمن وقع بين فكي كماشة، بتوصيف «توماس فريدمان» في الـ«نيويورك تايمز».
إذا تماهت مع إسرائيل على طريقته فسوف تخسر أصوات الجاليات العربية والإسلامية ويسار الحزب الديمقراطي القريبة منه.
وإذا أدانت العدوانية الإسرائيلية وجرائم الحرب، التي ترتكبها فسوف تخسر أصوات اللوبيات اليهودية النافذة في بنية ذلك الحزب.
كلاهما «هاريس» و«ترامب» أعلن التزاماً كاملاً بالأمن الإسرائيلي، لكن وطأتها بدت أقل بما لا يقاس مع المرشح الآخر.
حاولت أن توازن ما بين تبني الرواية الإسرائيلية، التي ثبت عدم صحتها، عن أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحقها في الدفاع عن نفسها.. «لكن ليس بالأسلوب الذي اتبعته وأفضى إلى سقوط الكثير من الضحايا الأبرياء».
ثم أخذ خطابها يرتفع بصورة محدودة لكن ملموسة عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير وأن تكون لهم دولة وضرورة وقف الحرب في غزة وإجراء صفقة تبادل أسرى ورهائن فوراً.
في النهاية الحقائق سوف تعلن عن نفسها أياً ما كانت حدة حروب الصور.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق