معقل زهور عدي
لعله أصبح من الضروري تناول النقاش الدائر ضمن التيار العروبي السوري والفلسطيني حول الحرب في غزة والموقف من حماس, ونقل ذلك النقاش من حيز التعبير عن المشاعر إلى حيز مناقشة الموقف السياسي الذي ينبغي أن لا يكون إسقاطاً لبعض المشاعر الآنية سواء جاءت تلك المشاعر من هنا أو هناك .
لن يكون هناك متسع في هذا المقال لنقاش انحراف بعض النخب السورية والتي هي خارج التيار العروبي في موقفها المُعلن من غزة بل من القضية الفلسطينية برمتها, لكن ما يهم هذا المقال هو النقاش داخل تيار سياسي- فكري واحد هو التيار العروبي في سورية .
فكيف يمكن تصور الموقف السياسي من الحرب الصهيونية على غزة، ومن حماس، الآن؟.
وفي حين أنه لا داعي لنقاش ضرورة التضامن المطلق مع غزة في مواجهة حرب الابادة الصهيونية ونقد مواقف بعض النخب السورية التي وقفت موقفاً بارداً من العدوان الصهيوني الوحشي على غزة, وكأنها تُعاقب بذلك حماس أو تستغل الفرصة لغسل اليد من القضية الفلسطينية باعتبار أن للسوريين اليوم قضية مماثلة للقضية الفلسطينية (البعض يقول إن القضية السورية أصبحت أكبر من القضية الفلسطينية!) فإن النقاش العقلاني داخل التيار العروبي هو وحده القادر على إنهاء التشويش الحاصل داخل ذلك التيار في تدقيق الموقف السياسي من حماس وليس من حملة الإبادة الوحشية على غزة والتي لا يمكن أن تكون محل خلاف داخل التيار العروبي .
فحماس ليست المقاومة الفلسطينية التي نشأت منذ ما قبل نشوء الكيان الصهيوني وليس عبثاً تسمية قواتها المقاتلة بكتائب عز الدين القسام الذي انخرط في القتال ضد المشروع الصهيوني قبل العام 1936 وكان المحرض والممهد لثورة 1936 .
ومن المهم النظر للجوهر هنا أكثر من النظر للمظهر، فالمسألة مسألة مقاومة عربية فلسطينية متجددة سواء لبست في وقت من الأوقات ثوب فتح أو ثوب حماس أو ثوب انتفاضة الحجارة, وعدم أخذ هذه الحقيقة بالاعتبار يعني الابتعاد عن وعي القضية الفلسطينية في بعدها التاريخي الأوسع .
فمن يقاتل اليوم في غزة ليست حماس وإنما هو الشعب الفلسطيني المقاوم, وذلك لا ينفي دور حماس ولا سياستها لكنه يعيد الأمور إلى نصابها كي لا ننزاح كثيراً عن جوهر الصراع مما لا يليق بالتيار العروبي في سورية .
نأتي بعد ذلك لحماس ذاتها وسياستها وتحالفاتها. وفي ذلك يمكن القول إن قيادة حماس بتوجهها لعقد ما يشبه التحالف (هو في الواقع أقل من تحالف وأكثر من مجرد تقاطع مصالح) مع المشروع الإيراني في المنطقة أمر لا يمكن تبريره تحت أية ذريعة .
فالمشروع الإيراني ليس مشروع تحرير القدس بل اتخاذ راية القدس طريقاً للتمدد واختراق الدول والمجتمعات العربية وتفتيت بنيتها الاجتماعية والسياسية من الداخل تمهيداً لوضعها تحت الهيمنة القومية الفارسية باستخدام السلاح المذهبي أيضاً وهو مشروع مكمل للاختراق الصهيوني وليس مشروعاً مضاداً له من وجهة النظر الاستراتيجية .
لقد سقطت حماس في امتحان وعي تلك الحقيقة, ومدت يدها لعدو الأمة العربية الذي لعب الدور الأكبر بالتشارك مع الحملة العسكرية الأمريكية- الصهيونية لتدمير الدولة العراقية وقتل ما يزيد عن مليون عراقي بينهم المئات من أفضل الكوادر العلمية والعسكرية العربية وتهجير حوالي أربعة ملايين عربي عراقي ضمن عمل منهجي لإجراء تغيير ديمغرافي في العراق وقامت في سورية ومازالت تقوم بعمل مشابه, لقد كانت لإيران اليد العليا في تدمير مقدرات الشعب السوري وقتل ما يقرب من مليون سوري, وتهجير نصف الشعب السوري فهل يُعقل أن يتم التغاضي عن كل ذلك ومصافحة تلك اليد المُجرمة بحق الأمة العربية بل وتزكية قياداتها المجرمة والانضواء تحت ما يسمى زوراً بحلف المقاومة وهو الذراع العسكري السياسي للسياسة الايرانية ومشروعها في المنطقة؟
ذلك ليس خطأً تكتيكياً, ولا يمكن تبريره تحت أية ذريعة مهما كانت, والسقوط فيه لا يمكن تفسيره سوى بقصور الوعي السياسي الذي يصل لدرجة الغباء .
أما نتائج ذلك الانحراف الكبير فهو ابتعاد السوريين عن حماس, والنظر لقادتها السياسيين بكثير من الاستنكار والألم والمرارة, وذلك ينبغي أن يكون مفهوماً ومبرراً .
لكن لنبتعد قليلاً عن انحراف سياسة حماس وتموضعها وراء المشروع الإيراني, وللنظر من زاوية القرار الذي اتخذ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بإطلاق عملية طوفان الأقصى وما نتج عنه .
من الواضح أن السياسة الإيرانية كانت وراء اتخاذ ذلك القرار وتلك العملية التي تم التخطيط لها مسبقاً بصورة مشتركة بين الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وحماس, وكان الهدف التكتيكي منها هو ايقاف عملية التطبيع بين الدول العربية واسرائيل, أما الهدف الاستراتيجي من وجهة نظر المشروع الإيراني فهو ارباك التحالف الأمريكي- الصهيوني وامتلاك ورقة مساومة جديدة وهامة في عملية التفاوض والأخذ والعطاء بين المشروع الإيراني بما في ذلك جزئيته النووية والاعتراف بالنفوذ الإيراني في المنطقة تمهيداً لعقد صفقة تاريخية تعطي لإيران اليد العليا في المنطقة العربية إلى جانب اسرائيل .
منذ الأيام الأولى التي أعقبت عملية طوفان الأقصى ظهر واضحاً أن إيران وحزب الله ليسا مستعدين لدعم حماس الدعم الذي تم الوعد به عندما تم التخطيط المشترك لعملية طوفان الأقصى, وقد كان معبراً وذا دلالة ظهور القائد العسكري المتحدث باسم كتائب الأقصى مناشداً حلف المقاومة تقديم الدعم بعد أن أحست حماس بأن “حلف المقاومة” قد تخلى عنها فعلياً, وأنه ليس مستعداً للمعركة التي كان الجميع يعلم بأبعادها مسبقاً .
لكن الأيام والأحداث التي تعاقبت وصولاً لما هو عليه الوضع اليوم أثبتت بصورة جلية أن إيران تلاعبت بحماس في حين لم تكن مستعدة للانخراط في دعمها بمستوى المعركة الدائرة بل بدعم أقل من ذلك بكثير حتى إنها ليست مستعدة للرد على اغتيال اسماعيل هنية في قلب طهران وفي رعاية وحماية الحرس الثوري الإيراني .
إذن فلم تخطئ حماس في تحالفها مع السياسة الإيرانية من وجهة النظر الأخلاقية تجاه الشعبين العراقي والسوري فقط ولكنها أخطأت من وجهة النظر الاستراتيجية في اعتمادها على إيران في معركة مصيرية كبرى اندفعت نحوها وحدها واثقة من دعم حلفاء ليسوا في الواقع أمناء على القضية الفلسطينية بمقدار ما إن همهم يكمن في خدمة المشروع الإيراني في المنطقة .
هكذا يمكن للتيار العروبي نقد سياسة حماس وتحالفها مع إيران وأذرعها ليس من وجهة نظر أخلاقية فقط ولكن من وجهة نظر سياسية واستراتيجية, لقد كان طوفان الأقصى عملاً يتعدى مجرد إيقاع خسائر عسكرية وبشرية وأسر جنود ومستوطنين لمبادلتهم مع الأسرى في سجون الإحتلال الصهيوني, وهذا على الأرجح ما كان متوقعاً من قادة حماس وكتائب عز الدين القسام, لقد كان عملاً مصمماً لاستفزاز الدولة الصهيونية لفتح معركة كبرى ينخرط فيها حلف المقاومة بكل إمكاناته وراء حماس بما في ذلك حزب الله وقواته التي تُعد مئة ألف مقاتل وصواريخه البالستية وكذلك إيران وحتى سورية واليمن, لكن تلك الصورة لم تكن حقيقية بقدر ما كانت عملاً من أعمال الخداع السياسي لتوريط حماس وجني ما يمكن الحصول عليه في النهاية من مكاسب لصالح المشروع الايراني .
نقدنا لحماس إذن ليس نقداً أخلاقياً مجرداً, بل هو نقد لسياسة قصيرةَ النظر, تعكس وعياً سياسياً منخفضاً, ومقامرة بمصير غزة وشعبها المقاوم .
ومثل هذا النقد يقع ضمن التضامن التام مع المقاومة الفلسطينية في غزة ومع الالتزام التام بالقضية الفلسطينية, فمثل ذلك التضامن والالتزام لا يعني السكوت عن الأخطاء الكبرى وتبريرها بل الكشف عنها ونقدها من أجل تصحيحها مستقبلاً .