صلاح الدين الجورشي *
كتابان يُفترض ألا تخلو منهما مكتبة أي شخصٍ حريصٍ على فهم خضوع المجتمعات للقهر والتعسّف. أولهما “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبد الرحمن الكواكبي. ولعل أهم ما ميز هذا الكتاب التركيز على مسألتَين: اعتقاد المؤلف أن السلطة السياسية هي العامل الحاسم في نشأة الاستبداد وتحويله إلى منظومة متحكّمة في الرقاب. وأن “الشعب الذي عاش أمداً طويلاً تحت وطأة الاستبداد يمسي غيرَ قادرٍ على التمييز بين الحق والباطل وبين الحرية والأسر”، فالاستبداد قادرٌ، عبر آليات متعدّدة على استبطان الخضوع وتبرير ما يتعرّض له من إخضاع ممنهج.
الكتاب الثاني “المعذّبون في الأرض” لصاحبه الكاتب والطبيب النفسي الفرنسي، فرانز فانون، الذي انخرط في جبهة التحرير، وناضل من أجل استقلال الجزائر. وأثّرت كتاباته على عديد المثقفين الأحرار في العالم، منهم إدوارد سعيد وعلي شريعتي ونلسون مانديلا. وقد عالج فانون الكيفية التي اعتمدها الاستعمار لتحقيق ما سمّاها “القولبة النفسية” للشعوب. وهي عملية تهدف الى مسخ هوية الشعوب الخاضعة، حتى تصبح تعتقد أن البديل الوحيد أمامها إعادة إنتاج “النموذج” الذي صدّره لها هذا المستعمر.
يجمع بين الكاتبين تأكيدٌ على قدرة الاستبداد، مهما كانت صوره وأشكاله، على تحويل الرأي العام، أو جزء واسع منه، إلى قوة معنوية وبشرية منحازة للمستبدّين، ومدافعة عنهم، ومشرّعة لهم، وترى فيهم “ضرورة” لحمايتهم وتحقيق الاستقرار. وتبرُز في هذا السياق أهمية الجماهير باعتبارها الرافعة الأساسية لرموز الاستبداد في التاريخ الإنساني. وهو الأمر الذي توقف عنده فلاسفةٌ وعلماء كثيرون، ومنهم المؤرخ غوستاف لوبون الذي يعتقد في كتابه “سيكولوجية الجماهير” أن “من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيّدا لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم”. وهذا ما حيّر النخب السياسية، التي كلما حاولت التشكيك في “المستبد” ثارت في وجهها الجماهير وخوّنتها، واتهمتها بممارسة التضليل والخديعة. وإذا ما تعرّضت هذه النخب للقمع والسجن والتشريد والتهميش تعاملت معها الجماهير بشماتة قاتلة، وأيّدت كل ما يروج حولها من شبهاتٍ ودعاوى. وهو ما يعرف بفقدان الشعوب الثقة في نخبها. ويبقى الحال على ذلك، إلى أن يكتشف الناس أن الوعود التي تلقّوها لم يصدّقها الواقع، ولم تترجم إلى وقائع. عندها تسقط الأوهام ويحدُث الانفجار والعنف.
في مثل هذه الأوضاع، تسهم بعض الفئات في قلب الحقائق وتزوير المشهد. إذ يتحوّل بعض الإعلاميين إلى “سحرة” يتفنّنون في تحويل الأوهام إلى “حقائق لا تقبل التشكيك” أو الطعن. ويعملون على تعميق الفجوة بين مواطنيهم و”النخب المارقة”. لذلك ارتبطت تجارب الاستبداد بفيلقٍ من الصحافيين والكتبة الذين خانوا مهنتهم، وجعلوا من أنفسهم أدواتٍ تُستعمل للتحكّم والخداع.
الاستبداد ثقافة قبل أن يكون نظاماً سياسياً، فمصادرة الحقيقة، وإلغاء المخالفين، وتجويف المفاهيم، واستعمال الكلمات من دون أن يكون لها ارتباط بالواقع، واستحضار الرموز التاريخية ووضعها في غير سياقاتها، كلها مفردات ثقافية يتم إفراغها من محتواها لتجد صدى لها في نفوس المواطنين وعقولهم. وهي ثقافة قابلة للترويج وتنقل عبر الأجيال. قد تطرأ ظروف تختلط فيها الأوراق، ويتبادل فيها اللاعبون الأدوار، ويصبح الجلاد ضحية والضحية جلادا. لكن ذلك قد لا يستمر طويلاً، إذ سرعان ما تعود الأمور إلى نصابها. وفي جميع المراحل، يبقى الشعب هو الذي يدفع ثمن جهله وغبائه وانسياقه وراء الذين استبدّوا به.
لا تعود أزمة الديمقراطية في عالمنا العربي فقط إلى وجود أنظمةٍ قمعيةٍ تتمتّع بصلاحياتٍ غير محدودة، ولكن للأزمة امتدادات واسعة تشمل أيضاً الشعوب التي لها قابلية للاستبداد.
* كاتب تونسي
المصدر: العربي الجديد