كمال عبد اللطيف *
عندما نشرْتُ مقالتي الأولى في صفحة الرأي في “العربي الجديد” (3 إبريل/ نيسان 2014)، تحت عنوان “العربي الجديد… أفق وطريق“، كنت أتصوّر أنّ عروبة المستقبل تفتح نافذةً جديدةً في عالم يتغيّر بإيقاع سريع. وقد تمكّنتْ الصحيفة من رسم المعالم الكُبرى لهذا الأفق، كما رسمتْ، طوال السنوات التي توالت منذ تأسيس موقعها الإلكتروني وصحيفتها الورقية، الخطواتِ الكُبرى لإعلام المستقبل. وقد حرصْتُ في سنوات العشرية الأولى على متابعة بعض ما يُنشَر فيها، كما حرصْتُ على العناية بكيفيات نظر مُحرِّريها إلى عشرات الوقائع والظواهر بأعينٍ تضع الأفقَ العربي في الصدارة، وترى في التحوّلات الجارية ما يسمح بإمكانية تحقيق المشروع النهضوي العربي.
رسمَتْ الصحيفةُ خطواتها الأولى في دروب عربية ودولية وعرة وُلِدَتْ زمن الثورات العربية، عاينت تناقضاتها، وواجهَتْ الآراءَ المتصارعةَ في قلبها. اختار بعضُ كُتّابها الدفاعَ عن خيارات بعينها، ولم يتردَّد الطاقم المُشرِف في فتح زوايا صفحاتها لمختلف الأصوات في مختلف الأقطار العربية. لم تكن طرقها مُعبَّدةً دائماً، بل كانت، في أحيانٍ كثيرة، مليئةً بالصخور والنتوءات القادرة على وقف الطموحات وتأجيج التناقضات، فحُجِب الموقع، كما حُوصِرت بعض أعداد الصحيفة، إلّا أنّها حرصَتْ، بفضل جهود الطاقم المُشرِف عليها، أن تبقى أفقاً مفتوحاً على إعلام جديد، وبمهنية عالية، إعلام يستند إلى مُقدّمات عروبةٍ جديدةٍ في طور النشوء والتشكّل، عروبة مختلفة عن عروبة القرن الماضي، عروبة رافعة ألوية “العربي الجديد”، ومسلّحة بمقوّمات التحرّر والنهوض العربيَين.
واجهت “العربي الجديد” مختلفَ التحوّلات التي عرفتها بلدان عربية كثيرة، وانخرط إعلامها في معاركَ تروم مقاومةَ الاستبداد والفساد، كما واجهت تركةَ الصراع الصهيوني الفلسطيني العربي، بالآثار والمخلّفات كلّها التي أُنتِجت، وبصور المقاومة وصور التخاذل كلّها التي وقعت، وانخرطت في كثير من القوّة مُحاوِلةً تشخيص العدوان الصهيوني الغربي، كما حاولت كشفَ صور التراجع الحاصلة في الوطن العربي نتيجةَ انتعاش أشكالٍ جديدةٍ من التطبيع، واستمرار الانقسامات في محيط قوى التحرّر الفلسطينية، وآثار ما ذكرنا كلّه في مسار أفق ومشروع التحرّر والتحرير الفلسطيني. وتُقدّم الملفّات المخصّصة لتحوّلات القضية الفلسطينية، ومقالات الرأي في موضوع المقاومة الجديدة في “طوفان الأقصى”، مجموعةً من المعطيات الكاشفة لدرجات عنايتها بالمشروع الوطني الفلسطيني.
وجدَتْ الصحيفة نفسها يوم صدورها في قلب مُعترَكِ حَراكٍ اجتماعيٍّ يملأ مجتمعات عربية عديدة، فبلدان عربية سقطت أنظمتها الاستبدادية ولم تنجح قواها الحيّة في بناء مواثيقَ المرحلة الانتقالية بمتطلّباتها السياسية والقانونية كلّها، وبلدان عربية أخرى لم تكن قادرةً على الانفجارات التي مزّقت كيانها، وفتحت الباب للقوى الإقليمية والدولية المتربّصة بها، بحسابات التاريخ والسياسة، في عالم اهتزّت فيه قيمٌ كثيرة. وقد ترتّب من المشار إليه اختفاء أفق العروبة بما يمكن أن يحمله من جوامعَ تتيحُ إمكانيةَ استئناف النهوض العربي، واستئناف السير نحو أهدافٍ مُحدَّدة. ولأنّ الاستعمار عاد بصور أخرى إلى عالمنا، فقد كان لا بدّ لـ”العربي الجديد” أن يقول كلمته. ولا بدّ من التوضيح أنّ روح العروبة المُستوعَبة في إعلام الصحيفة ونظام عملها لا تحضر بصورة عقائدية أو دعويّة، بل تحضر أفقاً في طور التأسيس، وأفقاً تحكمه الطموحات والتطلّعات، وترسم معالمه الكُبرى المُقدّماتُ اللازمةُ لبناء إعلامٍ جديدٍ يكون بإمكانه تجاوز أخطاء الماضي والتعلّم منها، من أجل عروبة يكون بإمكانها مغالبة مختلف أوجه التحوّلات الجارية في عالم جديد.
في ضوء الأحوال التي رسمنا، ونحن نُعاين مسارات “العربي الجديد” ودروبها، اكتشفنا أنّ صوتها لم يتوقّف، طوال سنوات العشرية المنتهية، عن الاعتراف بالانهيار الحاصل في بلدان عربية عديدة، ولم تتوقّف أيضاً عن إعلانها عدم التفريط في الطموحَين الكبيرَين للعروبة؛ التحرّر والتقدم. وقد عبّر كُتّاب الصحيفة، وفي أغلب أبوابها ونوافذها وملفّاتها وملحقاتها، عن جوانب عديدة من أبعاد هذَين الطموحَين، ما منح حضورها سمةَ الارتباط بأسئلة ومخاضات الراهن العربي بأصوات ومفردات مختلفة. ولأنّ العروبة في الصحيفة بمثابة أفق، فقد ظلّت حريصةً على عدم استسهال موضوع التفكير في أسئلة الحاضر العربي، والتفكير في مشروع النهوض العربي، متوخّيةً من وراء ذلك عدم تكرار أخطاء الماضي. ومن هنا عنايتها بمختلف الأصواتِ والمواقف المتفاعلة داخل فضاءات الرأي العام في المجتمعات العربية.
نتصوّر أنّ “العربي الجديد” تُعدّ اليوم شاهداً على الانهيار الكبير الذي لحق بمشروع النهوض العربي، ونحن نقرأ في متابعاتها المتواصلة لأحوال المجتمعات والأنظمة السياسية العربية ما يمكن إدراجه ضمن التشخيصات والمعاينات الهادفة إلى معرفة ما يجري في الواقع العربي. كما يمكن النظر إلى محتوياتها السياسية والثقافية من زاوية أخرى، تتمثّل في أنّها تحمل تعبيراتٍ ومواقفَ متعدّدةً، تعكس بصورة متنوعة رؤية بعض مُحرّري صفحاتها للطموح العربي المتطلّع إلى تجاوز مظاهر وتجلّيات الانهيار، من أجل أن يكون للعرب اليوم طريق يؤهلّهم لحضورٍ فاعلٍ ومتفاعلٍ مع عالم جديد. ولا يتعلّق الأمرُ هنا بازدواجية أو تناقض في التعبير عن الأحوال العربية، بل إنّه يُبرِز نوعيةَ التفاعل الذي أقامته الصحيفة مع وطن يحلم بأن يكون له حضور مستقلّ وفاعل، في عالم مُعقَّد ومتصارع.
تحتفي الصحيفة بالمقاومة الفلسطينية في مختلف أبعادها، تعرف جوانب من أشكال الخلل الناتجة من اتفاق أوسلو (1993)، وأوضاع السلطة الفلسطينية في الضفّة والقطاع، وفي غزّة. ونقرأ يومياً في أبوابها وأعمدتها ما يشير إلى تحوّلات كثيرة جارية في أرض فلسطين المحتلّة. تتغنّى الصحيفة بالتحرير، وترفع شعارات المشروع الوطني الفلسطيني، ويواصل الموقع الإلكتروني اتّساعه بفضل تطوّر وسائل وتقنيات التواصل والإعلام. وقد أصبح الأفق الذي رُسِمَ قبل عشر سنوات أكثر ضياءً، إنّه اليوم مسافةٌ تقع في مرمى البصر، إلّا أنّها ليست قريبةً، وهي تتطلّب جهوداً مستميتةً لتساهم في عملية مواجهة مختلف التحدّيات ومختلف الهزائم، ومواجهة قيود الماضي والحاضر، وكذلك مختلف التراجعات التي حصلت في آخر سنواتٍ، إذ يمكن أن تساهم في مزيدٍ من تحويل الأفق الذي أمامنا اليوم أفقاً أكثرَ تاريخيّةً وأكثرَ وضوحاً.
* كاتب أكاديمي مغربي
المصدر: العربي الجديد