د.عبد الله تركماني
II – في مفهوم تنمية المجتمع وأهدافها
يندرج مفهوم تنمية المجتمع في إطار مفهوم أوسع هو ” الأمن الإنساني ” المتمثّل في صون كرامة الإنسان وفي تلبية احتياجاته الروحية والمادية، وهي احتياجات تعبّر عن نفسها ضمن إطار التنمية بمفهومها الشامل، الذي تتداخل فيه الأبعاد الإنسانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والتنمية لا تكون تنمية إن لم تكن شاملة ومستدامة، وثقافة الاستدامة تعني تلك المصفوفة من القيم والعادات وأساليب المعيشة التي تعدُّ الإنسان محور التنمية الشاملة وهدفها والتي تعنى بمستقبل بيئته وتناغمه معها وبالتفاعل الاجتماعي الذي يغذُّ السير وراء المشاركة ومن ثمَّ استيعاب ثقافة التسامح وقبول الآخر والسلام.
إنّ البعد الشامل والتكاملي والمستديم في التنمية يحيل إلى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية البشرية وشروطه:
- تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول للمشاركة في الحياة السياسيـة.
- تنمية حسِّ النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانياً.
- اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير أساسية في درجات التنمية.
كل هذه الأمور شكّلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنساناً فاعلاً في السياسة والثقافة والتنمية معاً. وفي التحليل النهائي، التنمية الإنسانية هي: تنمية الناس، ومن أجل الناس، من قِبَلِ الناس. بما يعنيه ذلك من بناء القدرات الإنسانية عن طريق تنمية الموارد البشرية، وأنّ مردود النمو يجب أن يظهر في حياة الناس، وتمكينهم من المشاركة بفعالية في التأثير على العمليات التي تشكّل حياتهم.
إنّ العالم اليوم يعيد النظر بمفهوم التنمية الاجتماعية، إذ ترى المؤسسات الدولية أنها نتاج للتقدم ومفتاح له في آن، ولا بدَّ لهذه التنمية أن تقوم على توازن جديد بين الداخل والخارج أولاً، وتوازن داخلي بين فئات المجتمع يتيح قدراً أكبر من المشاركة في اتخاذ القرارات ورسم السياسات، ولعلَّ الموقف من المرأة هو في طليعة هذا التوازن.
ولا شكَّ أنّ نظام القيم السائد في مجتمع ما يوجّه سلوك إنسان ذاك المجتمع وينظّم علاقاته بالآخرين وبالواقع وبالزمان، وتميّز العلوم الاجتماعية بين ” القيم الوسيلة ” و ” القيم الغاية “، فالأولى معتقدات مانوية تفاضل بين سلوك وآخــر ” الخير أحسن من الشر “، في حين أنّ الثانية تحدّد اتجاهاتنا والغايات التي نسعى إليها، ومن أجل تنمية مجتمعاتنا في عالم الجنوب نحن أحوج ما نكون إلى ” القيم الغاية “، مما يستوجب إجراء تغيّرات اجتماعية عميقة.
وثمّة اتجاهات مختلفة في فهم التغيير الاجتماعي من أهمها النظرة التطوّرية، حيث يمكن الإشارة هنا إلى التأثير الهيغلي (مراحل التاريخ)، والنظرية الداروينية (اختيار الأفضل) وتأثير الثورة الفرنسية (التغيّر الصناعي)، وإلى إميل دوركهايم الذي قارن المجتمعات ما قبل الحديثة (حيث التضامن يرتكز على الاعتقاد) بالمجتمعات الحديثة (حيث التضامن يرتكز على التنظيم والقاعدة)، وسواهم من العلماء الذين تحدّثوا عن الانتقال من البسيط إلى المعقّد، ومن المجتمع قبل الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي، ومن مجتمع قبل الحداثة إلى مجتمع ما بعد الحداثة.
لكنّ العبرة تبقى في شمولية النظرة وتكاملها، فالتنمية تنمية الحياة بكل تجلّياتهـا، وثقافة الاستدامة نهج ومنهجية وفلسفة تجعلنا متأهّبين للتغيير دوماً متكيّفين معه، بمنأى عن الهدر والإسراف ومستغلّين الوقت في كل ما من شأنه أن يرتقي بالإنسان وينمّي إبداعه.
III – في مفهوم التنشئة السياسية وأدواتها
إنّ بلورة الرؤى الصحيحة وتحسين السبل العملية المفضية إلى تنشئة سياسية عصرية يتطلبان – بداية – الانطلاق من التلازم العضوي بين التربوي والاجتماعي والسياسي في المناهج الدراسية، بما يؤدّي إلى تنقيتها من التصوّرات السلبية المتصلة بالآخر. بحيث لا تكتفي هذه التنشئة بحشد ذهن المتعلّم بمعلومات حول الكرامة والحرية والمساواة والاختلاف فحسب، وإنما تقوم على أساس أن يمارس المتعلّم تلك الحقوق، وأن يؤمن بها وجدانياً، وأن يعترف بها كحقوق للآخرين، وأن يحترمها كمبادئ ذات قيمة عليا. وهكذا، يجوز اعتبار التنشئة السياسية ” تنشئة عمل ” أكثر مما هي ” تنشئة نظر “. وذلك ما يسمح باعتبار التنشئة السياسية ترمي إلى تكوين المواطن المتشبّع بالقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، القادر على ممارستها في سلوكه اليومي من خلال تمسّكه بحقوقه واحترامه لحقوق غيره، الحريص على حقوق ومصالح المجتمع بقدر حرصه على حقوقه ودفاعه عنها.
إنها ثقافة المساهمة التي تقوم على اعتبار الأفراد مواطنين من حقهم المساهمة في الحياة العامة والتأثير على المنظومة السياسية وتوجيه عملها في أوطانهم، وهي التي تسمح بالوصول إلى الديمقراطية وتحقيقها. فالثقافة السياسية الديمقراطية هي ” مزيج بين التطلّعات المختلفة وأحياناً المتناقضة للأفراد والمجموعات الجزئية، بحيث تمكّن الديمقراطية من التعبير، في الآن نفسه، عن التنوّع والخصوصية والوحدة من جهة، وعن الانسجام دون استسلام من جهة ثانية، وعن المساهمة والالتزام دون تهريج من جهة ثالثة. وكل هذا يعني أنّ الثقافة السياسية الديمقراطية هي ثقافة التوازن والاعتدال “(2).
وفي الحقيقة فإنّ هذا النمط من التنشئة والثقافة السياسية يندرج ضمن إطــار ” التربية المواطنية ” التي موضوعها هو ” تشكيل المواطن وتنميته “: ” هي تربية على المواطنية وتربية في المواطنية. إنها عملية شاقّة ومتواصلة، إذ ينبغي السعي باستمرار إلى تكوين المواطن وتنمية وعيه بنظام حقوقه وواجباته وترسيخ سلوكه وتطوير مستوى مشاركته في حياة جماعة المواطنين التي ينتمي إليها … وهي ليست سوى وسيلة من وسائل تنوير المواطن بحقيقته من حيث أنه عضو حرٌّ في الدولة، يتساوى مبدئياً مع سائر أعضائها في الحقوق والواجبات، ويشارك في حياتها على جميع الأصعدة بحسب المؤسسات والأنظمة القائمة فيــها “(3).
وبداية تسعى التنشئة السياسية ذات التوجّه الديمقراطي إلى تعزيز التعدّدية في الآراء والمواقف، وإلى تطوير السياسات التي تخدم الإنسان. ونعتقد أنّ من الصحيح القول: إنّ استقلال الفرد وحريته الفكرية وشعوره بالكرامة وقدرته على الابتكار ينبغي أن تكون من القيم الرفيعة للمجتمع البشري، وتعتبرها مجتمعات بشرية كثيرة على هذا النحو.
وللتنشئة السياسية طرائق وأهداف مختلفة، وفي مقاربتنا هذه نتحدث عن الطريقة التي تقوم على الشعور بالكرامة الإنسانية وعلى ممارسة الحرية والابتكار واستقلال الفكر وعلى تأكيد الذات والإعراب عن الشخصية وتوكيد الحضور الذاتي وعلى ممارسة النقد. ومن شأن طريقة التنشئة هذه أن تنشئ فرداً ناقداً ومناقشاً ومحاوراً، مقلّباً للأمور، دارساً لها. وبطريقة التنشئة هذه يزداد إقرار الناس بأهمية الجهد الشخصي في اكتساب المكانة الاجتماعية وفي جمع الثروة المادية وفي أداء الوظائف في شتى المجالات، ويقلُّ اهتمام الناس بالعادات والتقاليد بوصفها مصادر لتلك المكانة وعوامل في جمع الثروة وأداء الوظائف. وبازدياد قيمة المجهود الشخصي في تحقيق المكاسب تضعف النظرة التقليدية التي تعتبر أنّ المرأة والصغير أقل حكمة وأقل حقاً وأقل جدارة بتولّي المسؤولية.
وبإشاعة هذه الطريقة في التنشئة السياسية يزداد الوعي العام بأهمية الحوار، بوصفه وسيلة لتحقيق التماسك الاجتماعي، وبوصفه وسيلة لمحاولة التوصّل إلى الأحكام السديدة الرشيدة، ويحلُّ الحوار محل أسلوب الفرض والإملاء والاستبداد بالرأي. وبإشاعة هذه الطريقة في التنشئة يتعزّز وينتشر الرأي في أنّ التوصّل إلى معرفة الحقيقة هو نتيجة عملية فكرية يستطيع أن يشارك ويسهم فيها الناس من كل الطوائف والأجناس والفئات والطبقات، وفي أنّ الملكات اللازم توفّرها لاكتشاف الحقيقة ملكات تُكتسب، وفي أنه – بالتالي – يمكن لأيَّ امرئ أن يدلي بدلوه في عملية محاولة التوصّل إلى الحقيقة، ولأن يشارك في اتخاذ القرار مشاركة بنّاءة، ولأن يكون عضواً فاعلاً في شؤون المجتمع الذي يعيش فيه(4).
ومن أجل تجديد الثقافة السياسية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ المفيدة للتنشئة السياسية المعاصرة(5):
(1) – اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات سياسية أخرى ذات تصوّرات فكرية وسياسية متباينة، سواء تمَّ اعتبارها ضمن صنف الحلفاء أو المنافسين أو الخصوم من جهة، واعتبار التحوّل والتغيير – من جهة أخرى – قانوناً راسخاً في كل واقع سياسي. الأمر الذي يفرض على المرء اعتماد قدر كبير من المرونة في التعامل مع الشأن السياسي تمكّنه من القدرة على التكيّف مع معطيات الواقع المتحوّل.
(2) – ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، لما يتيحه ذلك من إمكانية الإحاطة بالواقع الشامل والتعرّف على العوامل المؤثّرة في سيرورة تطوره. إذ إنّ الواقعية والعقلانية تقتضيان تقديراً دقيقاً للإمكانات الفعلية للذات التي تتوخى الفعل والتغيير في وضع سياسي ما، ذلك انّ تضخيم تلك الإمكانيات يترتب عنه رسم خطط وبرامج للممارسة مكلفة مادياً وفاشلة عملياً. وفي ذلك هدر للطاقات في معارك مجانية أو غير متكافئة قد تنتهي إلى كارثة محققة.
(3) – اعتماد ثقافة الحوار انتصاراً لفكرة أو دفاعاً عن موقف وحماية لمصلحة خاصة أو عامّة. وفي سياق ذلك ينبغي الحرص على عدم اعتماد الأساليب المتطرّفة في التعاطي مع قضايا الخلاف، فقد تسيء الحدّة المفرطة في الجدل السياسي بين المواقف المتعارضة إلى القضية موضوع الحوار، إذا لم تعرف الأطراف المختلفة كيف ومتى تترك للممارسة هامشاً يسمح باختبار مختلف الآراء والأطروحات وتمييز الصائب منها عن الخاطئ.
(4) – الاستعداد الواضح لتمكين الأجيال الشابة من تحمّل مسؤولية قيادة العمل السياسي باعتباره شرطاً أساسياً من شروط تجديد شباب الأمة.
ومن المؤكّد أنّ الثقافة السياسية، مثل كل مستويات الثقافة، ليست معطى ثابتـاً، بل هي معطى تاريخي يخضع لأولويات التطور الاقتصادي والاجتماعـي. ففي العالم العربي مثلاً تحوّلت البنية العائلية الأبوية، من جرّاء سياسات التحديث السطحي والفوقي، إلى ” أبوية مستحدثة ” حسب تعبير الدكتور هشام شرابي. وقد ترتّب على ذلك موقف ملتبس من الآخر الغريب عن العائلة، وفي بعد آخر هو من عرق آخر، أو لا ينتمي إلى الطائفة، وفي نهاية المطاف هو الأجنبي. والموقف من الآخر ليس قيمة بحدِّ ذاتها، بل هو سلوك اجتماعي يترتّب على جملة من القيم التي تتحكّم بالسلوك، وخاصة قيم الخضوع والطاعة والتبعية، وترتّب أحكاماً مسبقة لا تعترف بالآخر ولا تقبل به. كما أنّ قيم التبعية والاتكالية وعدم الاستقلال الذاتي ترتّب موقفاً سلبياً إزاء الظاهرات التي يتعرّض لها الإنسان أينما كان(6).
وانطلاقا من المعطيات السابقة يمكن أن نحدّد بعض المميّزات التي تسم التنشئة السياسية الديمقراطية، وتحدّد طبيعتها وهويتها:
(1) – تنشئة إنسانية، من حيث اتجاهها إلى توعية الإنسان بحقوقه وواجباته، من أجل ما يحقّق له ماهيته وجوهره.
(2) – تنشئة تنويرية وعقلانية، من حيث تأسيسها على مفاهيم الحرية والتسامح والاختلاف والكرامة والمساواة والديمقراطية، بقصد تنوير الأفكار والأذهان والسلوكات والعلاقات.
(3) – تنشئة نقدية، من حيث نزوعها إلى إعادة النظر في مختلف القيم والمبادئ والسلوكات التي تتنافى مع قيم العصر.
(4) – تنشئة عصرية، من حيث ضمانها تفتّح شخصية المواطن على المحيط الذي يعيش فيه، أفراد ومؤسسات وقوانين، والتفاعل الإيجابي معه.
وهكذا، فإنّ هذه التنشئة تهدف إلى تأسيس نسق قيميٍّ سلوكي جديد، يقوم على إعمال العقل وتدخّل الذات، وينحو إلى تحويل في الأفكار والأعمال والمواقف التي يعرفها محيط الإنسان وبيئته.
وهنا تكمن الأهمية الخاصة والمتميّزة للتنشئة السياسية التي تحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية بناء الوعي الديموقراطي، وعي يحضر فيه الناس كمواطنين إيجابيين دون مركّبات النقص والدونية، وصياغة فهم جديد للسياسة ذي أبعاد عقلانية وأخلاقية في الوقت نفسه، وتعميق مفهوم المواطنية وسيادة القانون، وممارسة الحرية الفردية والجماعية، وتطوير مفهوم العمل السياسي وإخراجه من العصبية الحزبية الضيّقة والعلاقات العشائرية وعقد التصالح بين مكوّنات الدولـة.
لقد تحدّث جون ستيوارت ميل، منذ القرن التاسع عشر، عن ضرورة تربية النشىء تربية تنمّي فيه الفضيلة والذكاء والوعي، لا في المدارس فحسب، وإنما في دائرة الأسرة أيضاً، فإذا كان المطلوب أن يتصرّف مواطن المستقبل باعتباره إنساناً حرّاً، فلا بدَّ من تدريبه منذ نعومة أظفاره على أن يكون تفكيره تفكير إنسان حرٍّ، وأن يكون له كامل الحق في التشكّيك والتساؤل والمجادلة.
الهوامش:
(2) – د. عبد الفتاح عمر: الثقافة السياسية والديمقراطية – عن كتاب: التربية على حقوق الإنسان والديمقراطية في الوطن العربي، منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان – 1994.
(3) – د. ناصيف نصار: في التربية والسياسة – دار الطليعة، الطبعة الأولـى، بيروت – 2000.
(4) – د. تيسير الناشف: التنشئة الديمقراطية وتنمية الإبداع – عن صحيفة ” البيان ” الإماراتية – 7 تموز/يوليو 2001.
(5) – د. عبدالله تركماني: مقاربات حول قضايا التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان – مؤسسة العنقاء للتجديد والإبداع، رام الله – فلسطين، الطبعة الأولى – تشرين الثاني/نوفمبر 1995.
(6) – د. فهيمة شرف الدين: حقوق الإنسان والإشكالية الاجتماعية في الوطن العربي – عن مجلة ” شؤون عربية “، العدد (106)، القاهرة – حزيران/يونيو 2001.
المصدر: ذا ليفانت