أحمد مظهر سعدو
كَثُرَ الهرجُ والمرجُ أخيراً، بين أوساط المعارضة السورية، خصوصاً بعد انعقاد الاجتماع الكبير (والمهمّ) في إحدى قاعات مطار ولاية غازي عنتاب التركية في الثالث من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وضمّ معظم الفصائل المسلّحة السورية المُعارِضَة، ومعها هيئة التفاوض السورية، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمُعارَضة، برعاية استخبارات تركيا وخارجيّتها. ويبدو أنّ هذا الهرج وذاك المرج انبثقا بالضرورة من جملة الخلافات الشاقولية، ومن حالة التشظّي والتذرّر، التي تمظهرت خلال الاجتماع المشار إليه بشكل واضح وفي العلن، وهي التي كانت قبل ذلك تحت السطح.
ذلك كلّه جرى تحت سمع الأتراك ونظرهم، وما قيل من أنّ هناك انتقادات كُبرى وُجّهت إلى الائتلاف وهيئة المفاوضات، وكان الأكثر منها، والأكثر عمقاً، ما وجّه إلى الحكومة السورية المُؤقّتة، الممثّلة بشخص رئيسها عبد الرحمن مصطفى، وإلى أدائها المُتهالِك، وقيل إنّ الجميع قد وضع استقالته على الطاولة خلال الاجتماع، خلا رئيس الحكومة المُؤقّتة، الذي أصرّ على تحميل الآخرين (من الفصائل والائتلاف) هذه الأخطاء، وعلى براءته وحكومته منها، ومن ثمّ لا ضرورة للاستقالة، ولا شيء يجب عليه فعله، وهو المُتَّكئ، كما هو معروف، على الدعم التركي الكبير والمفتوح كما يقال.
لكنّ الحقيقة تقول، بغضّ النظر عن صوابيّة أو عدم صوابية أداء المُعارَضة الرسمية بكل تشكيلاتها، ومن ثمّ (بالضرورة) أداء الحكومة المُؤقّتة، إنّ ما جرى يفيد بوضوح بأنّ هناك أشياء وأشياء كثيرة ما برحت تعتمل تحت السطح، منذ مدّة طويلة، وأنّ المسألة ليست بالشكلانية الظاهرة، بل إنّ “القلوب مليانة”، كما يُقال. ويعود ذلك إلى أمور عديدة، منها:
إنّ صراعاً طويلَ الأمد ظهر وتمظهر في السطح خلال السنوات الماضية بين الفصائل المسلّحة بكثرتها والحكومة المُؤقّتة والائتلاف الوطني، خصوصاً أنّ الحكومة المُؤقّتة قد راحت أخيراً تُقرِّب منها بعض الفصائل، وتُبعد أو تبتعد عن فصائل أخرى. علاوة على أنّ الخلاف المالي أصبح كبيراً وواسعاً، وما يأتي مالياً من المعابر بمئات آلاف الدولارات قد يكون السبب الأساس في ظهور هذا الشرخ، الذي راح يتّسع ويكبر باطراد خلال السنوات المنصرمة.
كذلك إنّ خواء وزارة الدفاع في الحكومة السورية المُؤقّتة، وعدم قدرتها على لمّ الصفوف لتنضوي الفصائل المسلّحة جميعها تحت راية عبد الرحمن مصطفى، وحكومته المُؤقّتة، بات خللاً غير منطقي وغير مقبول، فكيف لحكومة يُفترَض أنّها تمثّل الشارع السوري المُعارِض لا تملك من أمر العسكرتاريا في الفصائل أيّ شيء، حتّى إنّها لم تعد تمون على أحد، ووزارة دفاعها خلَّبية شكلية، لا أملاك لها، ولا وجود، في كثير من مناطق الشمال السوري وأريافه.
بالإضافة إلى أنّ موقف الحكومة السورية المُؤقّتة البائس والملتبس (والمعادي أحياناً) من حَراك واعتصام الكرامة في أعزاز، وتهديداتها المستمرّة له، من أجل لجمه وإنهائه، يُعَدُّ سبباً كافياً لانفضاض الشارع السوري المُعارِض عنها، واستغلال ذلك من بعض الفصائل التي راحت تُؤيّد الاعتصام من أجل مناكفة الحكومة السورية المُؤقّتة، وسحب البساط من تحتها، وإشعارها بأنّها ما زالت بعيدةً من الشارع الشعبي السوري، الذي يُحاكي في اعتصامه وحراكه المتواصل منذ بداية يوليو/ تمّوز 2024، حَراك وانتفاضة السويداء وجبل العرب، ويتقاطع معهما، بينما ما انفكّت الحكومة السورية المُؤقّتة تغرّد خارج السرب بعيداً، وتبتعد في رؤيتها ونظرها عمّا يجري في السويداء.
وتبقى مسألة اللا فاعلية والجمود للمُعارَضة السورية الرسمية، وخسارتها شعبيتها كلّياً، ما أوجد صراعاً مهمّاً داخلها، يعود في رؤيته إلى أنّ هناك من هم داخل المُعارَضة، ممّن لا يزالون يُعوّلون على الشارع السوري، وبعض الفصائل مهما اختلفوا معها، ومهما تعثّرت اللقاءات بينهما. لعلّ المسألة ما زالت تتأطّر في سياق الخلافات الكلامية والورقية والبيانات، ولم تصل بعد إلى حالة التضادّ والمواجهة المباشرة، وإن كان ذلك قد لا يكون بعيداً البتّة من احتمالات عبور النفق، وفتح باب الاقتتال الداخلي، وهو ما سبق وحصل غير مرّة بين الفصائل لأسباب واهية، ولخلافات هي أقلّ بكثير ممّا يحصل حالياً. ومع ذلك، يظلّ السؤال وارداً: هل أصبحت احتمالات إطاحة المُعارَضة الرسمية، ومعها الحكومة السورية المُؤقّتة، قاب قوسين أو أدنى من الفعل العملاني؟ أم ما زال باب الأمور والمسارات موارباً، وما زالت احتمالات الوصول إلى حلّ ما ممكنةً وقابلةً للتنفيذ، في ظلّ صمت مطبق من الصديق القوي والمُشرِف على كلّ شيء في الشمال السوري، وهو الصديق التركي، المنشغل كما يبدو في قضاياه الداخلية والاقتصادية والأمنية، وما يتبيّن من انشغاله في كيفية الوصول إلى الخروج من عنق الزجاجة، وتوقيع تفاهم تطبيعي ما في موسكو مع نظام بشّار الأسد أواخر شهر سبتمبر/ أيلول الحالي (كما جرى الحديث عنه)؟
كذلك يجري طرح مسائلَ إقليميةً كُبرى من الأتراك، تتعلّق بما يحصل في قطاع غزّة وفلسطين، لمواجهة إسرائيل، عبر محاولة تشكيل محور واسع عربي إسلامي في المنطقة. ويبدو أنّ هذه المتغيّرات الإقليمية قد تسهم في تأجيل حسم الخلافات، داخل المُعارَضة المسلّحة والرسمية، أو تأجيل حلّ الحكومة السورية المُؤقّتة، لأنّ هناك ما هو أكثر أهمّية منها لدى الأتراك، بل من هذه الخلافات كلّها، التي يرى بعضهم أنّ سببها الرئيس كان الولوج في خطّ التطبيع مع النظام السوري، وخلاله، وبالتوازي معه فتح معبر أبو الزندين، الذي أثار مشكلاتٍ وخلافات كثيرة داخل المُعارَضة المسلّحة والشعبية، بين رافضٍ لفتح المعبر باتجاه مناطق سيطرة النظام السوري وموافق على ذلك تماشياً مع رؤية الأتراك في عملية تطبيع حقيقي وفاعل مع نظام بشّار الأسد.
لكن الخطر ما زال داهماً وقائماً، واحتمالات تفجّر الوضع في الشمال السوري بين الفصائل والمُعارَضة، والتحاجز المباشر بين الفصائل وداعميها… ذلك كلّه ما زال موضوعاً قابلاً للانبلاج وفتح ما هو أكثر خطراً منه، بينما الشعب السوري يعاني الويلات اقتصادياً ومعيشياً، قمعاً وتنكيلاً من النظام الأسدي، ومن ثمّ تحويل الوطن السوري معبراً ومصنعاً للكبتاغون، وموبقات الأرض كلّها، وصولًا إلى حالة الدولة الفاشلة وسِماتها.
المصدر: العربي الجديد