الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

رحيل الفنان حلمي التوني: حياة من مباهج مصر ومآسيها

محمد عبد الرحيم *

«كلنا مطالبون بإعادة الروح المصرية وفكرة الوطن في أعمال تشوفها تقول دي مصر».

                              مقولة للفنان الراحل حلمي التوني (30 أبريل/ نيسان 1934- 7 سبتمبر/ أيلول 2024)

تبدو الفكرة الأساسية التي انطلقت منها جميع أعماله الفنية المتنوعة والغزيرة، والمتباينة من لوحات وتصاميم أغلفة كتب أدبية ودوريات، وكذا كتب أطفال. فمصر وناسها كانت هي هاجسه- رغم تكرار العديد من اللوحات وثيماتها- نجد ذلك في معارضه المختلفة، التي جاءت لتواكب ما مرّت به مصر من أحداث، ولكن هناك دوماً حالة من الأمل والبهجة- ولو على سبيل الذكرى- حتى لا ننسى مصر الجميلة في ظل التشويه المتعمَد والدائم لها الآن. هنا بعض من سيرة الفنان الراحل، سواء ممن كتبوا عنه أو من حوارات في الصحف توضح رؤيته الفكرية والفنية..

التراث والفن الشعبي:

رغم السمات الأسلوبية المختلفة لحلمي التوني، وغير المباشرة في تناول التراث الشعبي المصري، إلا أنه لم يبتعد عنه يوماً، بل حاول تجاوز المباشرة إلى حالات شبه سريالية تخص رؤيته وحده، بمعنى أنها ليست لوحات متجاوزة الواقع تماماً، ومن ناحية أخرى تبدو علاقة عناصرها غير المنطقية مثيرة ومحفزة على التأمل والتفكير، والأهم أنها مثيرة للبهجة، فهي ليست (نواحاً) كما قال هو. وقد «شكّل التوني عالمه التصويري من عناصر الفن الشعبي الأثيرة، الذي ارتبط فى الأذهان بمعان وأفكار موحية، فالسمك رمز للإخصاب، والوردة للحب، والشمس هي الضياء، والفارس هو الرجل، والفرس رمز للفحولة، والسيف للعدالة، والنخل مخزن الخير، والهدهد يعكس مناخاً أسطورياً ميتافيزيقياً لا يكشف عن أسراره بسهولة، لكنه قريب من عالم التجريد في التاريخ والظواهر الخارقة. كذلك عالم كليلة ودمنة، حكايات ألف ليلة وليلة، بطولات أبو زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن، تداعيات زرقاء اليمامة وجولات ذات الهمة، فالفن الشعبي أحد أهم مفاتيح فك شيفرة إبداعات حلمي التوني» (بتصرّف.. سيد هويدي، مجلة «الخيال» مايو/ أيار 2010). وكما يقول التوني نفسه.. «لازم نكون شركاء في المشروع الثقافي العالمي، ولا يليق بنا التراجع».

المرأة:

يحتفي التوني بالمرأة في أغلب لوحاته، ويجعلها رمزاً لكل جمال يمكن أن تستشعره، بخلاف الرجل، الذي من الممكن معاقبته بالسخرية منه ومن أفعاله. ومن هذه النظرة للمرأة نجد حالة قصوى للاحتفاء بالجسد الأنثوي، من حيث تفاصيل التكوين الجسماني، إضافة إلى الحركة والإيماءة واللفتة العَرَضيّة .. أقدام تلمس الماء، يد تُمسِك بالبرقع، أو تحكُم الملاءة اللّف حول جسد صاحبتها، أو تحتوي خد صاحبتها في لحظة انتظار. أجساد تتنفس الحياة، وتثق في تفاصيلها ثقة مطلقة، في حالة تباهي دائمة، حتى في لحظات الحزن أو الانتظار، أيضاً تسيطر عليها حالة الثقة والتباهي، بأنها المصدر الأوحد للجمال.

الثورة:

أواخر يناير/ كانون الثاني 2011 أقام التوني معرضاً بعنوان «كان يا مكان»، لتأتي اللوحات مُعبّرة عن مصر قبل الثورة وبعدها، وقد جاء في كلمته المطبوعة في المعرض.. «كانت المفاجأة! خلال ذلك وقبل ذلك كنت أعيش هذه الحالة الحزينة مع جميع المصريين.. وكانت لوحاتي- خاصة السنة الأخيرة- فيها الكثير من الحزن والأسى.. وبعض النقد المغلف بالسخرية أحياناً.. وأيضاً بعض التنبؤ.. وربما بعض التمني! ثم تبدلت الأحوال من اليأس إلى الأمل، ومن الإحباط إلى الفرح، فكانت لوحات القسم الأكبر من هذا المعرض».

لوحات محفوظ:

صمم التوني أغلفة أعمال نجيب محفوظ، ومن الأهمية ذكر أفكاره عن هذا العمل، وكيفية تنفيذه للوحات، يقول التوني في أحد حواراته الصحافية.. «أهم وأكثر ما قصدت الاهتمام به، هو أن تكون موضوعات لوحاتي المختلفة بأغلفة نجيب محفوظ، في حالة (تناسب وارتباط) مع موضوعات الأعمال والروايات المختلفة، كنت أستهدف أن تكون معبرة بحق مع ما كان يذهب إليه محفوظ فى نصوصه البديعة، لذا فقد أمعنت في قراءة جادة لمشروع نجيب محفوظ. ومع الانتهاء من تلك القراءة، كنت أصنع لوحاتي لتتواءم مع روح تلك النصوص، وعلى سبيل المثال لا الحصر، جسدت بريشتي شخصيات أمينة وزنوبة من الثلاثية، وحميدة من رواية «زقاق المدق»، كما استشعرتهن تماماً من نصوص محفوظ، كما أنني في رواية «اللص والكلاب» ذهبت إلى التعبير عن الأمر باستخدام لوحة لامرأة تتموضع فوق نخلة، وتسعى الكلاب جاهدة من أجل الوصول إليها.. وإجمالا فإنني كنت حريصاً بشدة على أن تكون هناك حالة من (الحكي البصري) لعالم روايات نجيب محفوظ عبر أغلفتها الخارجية، دون التورط في الاختزال أو الإخلال، وهي المعادلة التي كانت تكمن قوتها في أن تكون هناك تفاصيل رمزية وإن بدت بسيطة، إلا أنها تملك القدرة على التعبير عن حكاية بأكملها».

يحيا الحب:

هو عنوان المعرض الأخير للفنان حلمي التوني، الذي ذكره قائلاً.. «جاءت فكرة المعرض لخدمة القضية الفلسطينية في ظل العدوان الغاشم الواقع عليها حالياً من الاحتلال الصهيوني. وجاء اسم (يحيا الحب) على المعرض ليكون الحب في مواجهة العنف والقسوة والحرب، لأن الشيء الوحيد الذي يعالج كل المظاهر السيئة هو الحب. فالحب ضد الحرب، دون مباشرة وخطابة».

وفي الأخير نختتم بمقولة للفنان الراحل تلخص مسيرته..

«أنا مواطن أغنّي لبلدي وأرسمها.. أنا بتاع الحب والوطنية، مش ندّابة»

بيبلوغرافيا:

حلمي عبد الحميد التوني، من مواليد بني سويف عام 1934. حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي عام 1958. عمل في الإخراج الصحافي وتصميم أغلفة الكتب للعديد من دور النشر المصرية والعربية، وأشهرها أغلفة أعمال نجيب محفوظ. كذلك تصميم ملصقات الدعاية الفنية، كما في مسرحيات.. «حلاق بغداد» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفه» لألفريد فرج، «التفاحة والجمجمة» لمحمد عفيفي، فيلم «الحرام» لهنري بركات. وفي مسرح العرائس صمم شخصية (صحصح) التي كتبها صلاح جاهين. ألف عدة كتب للأطفال، منها «ماذا يريد سالم»، والعديد من قصص للأطفال تعتمد على الحكاية وتلوين الرسوم. بدأ التوني أول معارضه عام 1965 من خلال مجموعة من لوحات وملصقات طاف بها محافظات مصر، حتى يراها أبناء الريف المصري، وهو ما يؤكد رؤيته منذ بداياته، وتوالت المعارض حتى معرضه الأخير (يحيا الحب) في مارس/ آذار 2024.

الجوائز:

نال التوني العديد من الجوائز المحلية والعالمية، منها.. جائزة مصر في التميز للرسم لكتب الأطفال ثلاث مرات. جائزة اليونيسيف عن ملصقه للعام الدولي للطفل 1979. جائزة معرض بيروت الدولي للكتاب لمدة ثلاث سنوات متتالية منذ 1977 حتى 1979، بميدالية معرض (لايبزغ) الدولي لفن الكتاب، الذي يقام مرة كل 6 سنوات. جائزة معرض (بولونيا) لكتب الأطفال 2002.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.