أجرت الزميلة الصحفية «مي فهمي» من أسرة جريدة «الشروق» المصرية مقابلة مطولة مع الفنان الراحل «حلمي التوني» في الأسابيع الأولى التي تلت “طوفان الأقصى” وقامت بنشرها في الخامس عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2023. وهذا نصها الكامل باعتبارها من بين أواخر المقابلات مع الفنان الراحل رحمهُ الله:
ــ الغرور الإسرئيلي أظهر نظرتهم الحقيقية والدونية للعرب
ــ بسبب مرضي منذ 8 أشهر لم تكن لدي القدرة على رسم لوحات كبيرة فرسمت «سكتشات» صغيرة وأنا أجلس في السرير بالأبيض والأسود
ــ أُقدم في معرضي الجديد «مصريات» ثنائيات للمرأة القديمة والحديثة لإثبات عدم تغيرها عبر الزمن
ــ أنا فنان متمرد وظهر هذا جليًّا في أغلفة كتبي التي تخطت الـ4000 غلاف ولإبراهيم المعلم فضلٌ في إحياء أغلفة أعمال نجيب محفوظ
ــ أطلب من الفنانين الحاليين مراعاة «الرحمة الثقافية»
حلمي التوني.. علامة بارزة في تاريخ الفن المصري والعربي، صاحب بصمة بالغة التأثير على الحركة التشكيلية المصرية، فنان تشكيلي من طراز خاص، عاشق للتمرد طوال مسيرته، رحلته الفنية مليئة بالتميُز والإبداع، دائماً ما يعبر عن واقعه بنظرته الخاصة المختلفة دائماً والمشحونة طوال الوقت بشعوره للدور المهم الذي يجب على الفنان القيام به ومدى تأثيره على المجتمع.
الفنان حلمي التوني خلال مسيرته التي امتدت لأكثر من 60 عاماً كان حاملاً لهموم وطنه ومجتمعه ومعبراً عنه وعن أزماته وربما يأتي هذا من شعوره الدائم بالتمرد الذي يحب أن يصف به نفسه وأعماله، وما زال التوني يلجأ لريشته وقلمه للتعبير عن قضايا أمته، رغم مرضه الشديد وهذا ما قام به في التعبير عن غضبه لما يحدث من قصف إسرائيل لغزة واستشهاد للمدنيين منذ حركة المقاومة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
في السطور التالية يتحدث لجريدة الشروق الفنان القدير حلمي التوني عن رسوماته عن فلسطين منذ حركة مقاومة 7 تشرين الأول/ أكتوبر ومعرضه المقبل «مصريات» ورأيه في الحراك الفني الحالي أمام الأوضاع القائمة وتاريخه مع رسم الأغلفة والتي كان له باعٌ طويل فيها.
> في البداية.. دائماً الفنان حلمي التوني لا ينفصل عن واقعه، فكيف تتأثر به وتؤثر فيه؟
ــ في الأساس أنا صحفي فني أقوم برسم لوحات وعمل معارض، كما يوجد شق آخر يختص بي وهي الكتب والنشر والمتمثلة في رسوماتي لأغلفة لعدد كبير من الكتب أخجل عن ذكره، لكنهُ فاقَ 4000 غلاف.
لكن من حيث الأساس سواء صحفي أو فنان تشكيلي فأنا ملتزم بمعنى أنه تشغلني قضايا الشأن العام والتي تنقسم لدي إلى قسمين وهي قسم الوطنيات والهوية ثم قسم المساواة والعدالة والتي أهتم فيه بحقوق المرأة لأنني أشعر دائماً أنها مظلومة ومُجنى عليها، بداية من الميراث إلى وجودها في المجتمع نفسه وما تعانيه، لذلك ينصب عملي في هذه الفروع.
عبرتَ عن المقاومة الفلسطينية التي بدأت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بشكل مختلف كيف رأيتها ولماذا قررتَ مشاركتها عبر واقع التواصل الاجتماعي؟
ــ طرأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، حادث مهم جداً والذي شهده العالم بأجمعه وهو أن المقاومة الفلسطينية متمثلة في (حماس وأخواتها) قاموا بعملية هجومية على إسرائيل وهذا حقٌ خالص لهم، لأنهم مُحتلون منذ أكثر من 75 عاماً، نتج عن هذه المقاومة، حربٌ انتقامية من إسرائيل لأنها ليست معتادة على خسارة عشرات الأسرى والقتلى والجرحى، وبالنسبة للغرور الإسرائيلي تُعتبر هذه العملية إهانة كبرى، لذلك قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي الانتقام، لكنها ليست حرباً بمعنى معركة مقابل معركة ولكنها حملة انتقامية وخلالها ظهرت علامات عن التوجه الإسرائيلي والقيم الإسرائيلية منها نظرتهم الدونية للعرب والمسلمين والفلسطينيين، والتي تمثلت على سبيل المثال في واقعة تصوير الفلسطينيين دون ملابسهم في وقت شديد البرودة، بالإضافة إلى فكرة الاعتداء على المدنيين والتي نتج (عند إجراء الحوار) عنها ١٨ ألف شهيد وعدد لا حصر له من الجرحى، فإحصائية الأمم المتحدة أثبتت أن 70% من هذا العدد من النساء والأطفال، بسبب ضرب إسرائيل لمواقع مدنية من خلال دبابات وطائرات، منها مواقع مدنية في غزة ومنها مستشفيات ومدارس وبيوت، وهذا هو البعد أو الخلفية السياسية التي دعتني للتحرك والقيام برسم لوحة يومياً، تعليقاً على الأحداث في غزة ورفقها بنصوص سواء من الشعر القديم أو مقولات معروفة أو من الأخبار أو من تأليفي، وبسبب مرضي منذ 8 أشهر لم تكن لدي القدرة على رسم لوحات كبيرة فرسمتُ «سكتشات» صغيرة وأنا أجلس في السرير بالأبيض والأسود ومن هنا جاءت فكرة أنني أقيم معرضاً بالأبيض والأسود.
> لماذا قررتَ نشرها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»؟
ــ قررتُ وضعها على صفحتي الخاصة بموقع «فيسبوك» لأنني رأيتُ أن الصحافة المصرية في مجملها غير مُهتمة بإظهار هذا الجانب السلبي الذي يحدث في فلسطين، وبالتالي لجأتُ للميديا العامة وهي الفيسبوك ووضعتُ 17 رسمة مرفقة بنصوص؛ لأنها دون هذه النصوص تفقد قيمتها، فأنا قدمتُ رسومات موازية للواقعة وليست مطابقة لها.
> كيف ترى دور الفنان في التعبير عن الأحداث وتأثره بها ويكون أكثر من الأشخاص العاديين؟
ــ عبر التاريخ كبار الفنانين كانوا في حالة تأثر شديد بواقعهم وما يحدث من حولهم فعلى سبيل المثال بيكاسو وجويا، فبيكاسو يملك لوحة باسم «جرنيكا» رسمها عام 1936 هي تمثيل مشابه لأحداث غزة الحالية، «جرنيكا» هي قرية إسبانية مُسالمة أثناء الثورة على الديكتاتور فرانكو الإسباني، والذي لجأ إلى إيطاليا وألمانيا فقاموا بقصفها بالطيران، وذهب نتيجة هذا القصف عشرات الآلاف فقام بيكاسو برسم هذه اللوحة الشهيرة جداً والتي عُرضت في الأمم المتحدة لفترة طويلة ثم وُضعت في أحد متاحف مدريد.
أما الفنان جويا، عبَّرَ عن انغماس مجتمعه الإسباني في الخُرافات والسحر ورسمَ مجموعة أعمال ضد هذه الظاهرة.
وفي مصر عام 1919 وقت الثورة المصرية تفاعل النحات “محمود مختار” الذي كان يعيش في فرنسا وقتها، وقام بنحت تمثال «نهضة مصر» وعند زيارة سعد زغلول لفرنسا، طلب منه أن يضع التمثال في مصر وسيقوم بتمويله الشعب المصري وأقام حملة لجمع التبرعات وقتها بدأت من قرش صاغ واحد إلى حسب مقدرة الشخص، وبالفعل تم جمع المال واستطاع محمود مختار نحت التمثال بالحجم الميداني، ويعتبر هذا نوعاً من أنواع التفاعل رغم أن الثورة وقتها لم تكن مُسلحة مثل ما يحدث في فلسطين حالياً.
وهذا ما شعرتُ تجاهه بالاستغراب؛ لأن التفاعل الحالي مع الأوضاع في فلسطين قد يكون مُنعدماً، فكنتُ أتوقع رد فعل واستجابة قوية لما يحدث، ثم اكتشفت عبر بعض الأصدقاء ومنهم الصديقة أميرة أبو المجد أن هناك عدداً من شباب رسموا رسومات لما يحدث في غزة لكن بالأسلوب الذي تعودوا عليه وهو أسلوب «والت ديزني» شبيه بالكارتون، فلفت نظري غياب شيوخ الفن في مصر، ولماذا لم يفكر أحد منهم عمل شيء أو أن يدلي بدلوه واحتجاجه واعتراضه على ما يحدث، لم يرفع أحد منهم فراشة لتقديم اعتراض وكل التفسيرات والأسباب والمبررات مهما كانت ستكون قبيحة، فالفنان خاصة عندما يكون نجماً وشيخاً من شيوخ الفن فهو مديون للشعب ولأمته وأن يسدد الدين ويبادر لنجدة مجتمعه فالشهرة والمكانة لها مديونية ودين في رقبة الفنان.
> تُحضر لمعرضك الجديد «مصريات»، مما استحويت رسوماتك فيه، ولماذا اخترت أن يكون بالأبيض والأسود؟
ــ تشغلني دائماً فكرة العدالة والمساواة وتمثيلها وتجسديها في قضية المرأة، ويظهر هذا جلياً في كل معارضي منذ عشرات السنين ومشواري الذي يمتد لأكثر من 40 عاماً، أنا كل عام أقيم معرضاً وهذه السنة ونظراً لمرضي كما وضحتْ على مدار 8 أشهر اخترتُ الرسم بالأبيض والأسود، أما بخصوص معرض «مصريات» فلفت نظري أن مصر لا تتغير، وأهلها لا يتغيرون على مر العصور منذ أكثر من 7000 عام، فنرى أهل الصعيد حتى الآن وكأنهم من عصر الفراعنة، يمكن لم يظهر ذلك بشدة في الشمال أو كما يقولون في «بحري» نتيجة الغزوات المستمرة على هذه المنطقة فحصل ذوبان للهوية لكن عند النظر للصعيد نرى الهوية كما هي مثل «المش والعسل الأسود».
فقررتُ عمل معرض عن المصريات زمان والآن لإثبات أن المرأة لا تتغير والتشابه يأتي من الملامح في عموم المشهد والتجلي الجمالي فهي نفس الجمال على مر العصور.
ويظهر ذلك في لوحات معظمها فيها ثنائية مكونة من مرأة مصرية قديمة من عصر الفراعنة بالملابس والملامح معها مصرية حديثة، والحديثة هنا بالنسبة لي هي بنت البلد والحواري والفلاحة وبنات المدن، وليست التي ترتدي «الجينز».
استخدمت في لوحاتي بعض الإكسسوارات والأدوات التي تؤكد الهوية والانتماء على سبيل المثال المصرية الفلاحة أكثر ما يميزها هي الجلابية المشجرة والبلاص، ثم في بنت البلد تتميز بالملاية اللف والبرقع والذي كان يستخدم للزينة والدلال وليس للإخفاء، فاستخدمت هذه الإكسسوارات أو الأدوات مثل «البلاص والبرقع والملاية اللف» لتمييز المصرية الحديثة أما المصرية القديمة وقت الفراعنة فكانت لا تحمل «البلاص» لكنها كانت تضع قُمّعاً من العطر يحتوي على زيوت عطرية.
وفي لوحاتي بمعرض «مصريات» لم أقم برسم الأزياء المَلكية للمرأة الفرعونية أو الأزياء الإلهية لأنني منحاز للبساطة، فرسمت ملابس المرأة العادية وقتها فالفراعنة كانت قطع ملابسهم قليلة كالتي كانت تنتمي للطبقة العامة، كانت ترتدي فستاناً من الكتان الأبيض ومع الطبقة المتوسطة كان يزيد على الفستان الكسرات مع الحلي مثل الحلق الكبير.
ومع كل هذه الأدوات والإكسسوارت أصبح لدي مفردات بصرية لهذا المعرض، وعكفتُ على عمل هذه الثنائيات مُراعياً صحة التكوين والتنوع الشديد لأني لدي تحدٍ دائماً، فأنا في معارضي أقدم تيمة واحدة أو فكرة واحدة فأكون شديد الحرص على عدم الوقوع في التكرار وتقديم تنويعات على لحن أساسي.
> أقيم معرض لرسومات أغلفة الكتب التي قمت برسمها خارج مصر، لماذا لم تتم هذه التجربة هنا، ولماذا لم يفكر الفنان حلمي التوني في جمع هذا الأرشيف الضخم؟
ــ زوجتي التي توفيت منذ أشهر حاولت بالفعل جمع أغلفة الكتب التي قمت برسمها، وقامت بمجهود كبير وكانت تذهب للأسواق لشراء جميع الكتب التي قمت برسم أغلفتها لكنها لم تنجح في جمع عدد كبير.
لكن هناك بعض المجهودات الفردية والتي قام بها على سبيل المثال الصديق خالد عبد المغني من الكويت وقام بجمع 4000 غلاف من رسوماتي وهذا مجهود عظيم أشكره عليه.
لكن بالنسبة لي أنا لن أقوم بهذه المهمة، فهذه مجهودات جماعية تقوم بها مؤسسات حكومية أو مدنية أو أفراد.
> كيف بدأت رسوماتك للأغلفة وكيف ترى هذه التجربة الثرية والتي كان أخرها إعادة رسمك لأغلفة أعمال الأديب نجيب محفوظ من خلال دار الشروق؟
– أتميز طول عمري بأنني ثائر ومتمرد، وظهر ذلك عند ذهابي للعمل في “دار الهلال” في خمسينيات القرن الماضي، كان وقتها طريقة ونظام العمل غير مُرتبة وسيئة والشغل مبني على النقل من الخواجات في جميع المجالات، ووقتها كنتُ شاباً مندفعاً ولدي بذرة تغيير، وكنت أرفض النقل فكنتُ اقرأ النص وأرسم رسمة موازية له وبالتالي اختلف إنتاجي عن ما هو سائد، وهنا كانت بداية التمرد والتي أتت بثمارها في النهاية وهي التميّز.
لذلك لجأ إلي عدد من الأدباء المتمردين أولهم الكاتبة “نوال السعداوي” التي مع نشر أول أعمالها كان كتاب باسم “الأنثى هي الأصل” حاولت نشره في مصر لكنها فشلت فذهبت إلي لبنان وأنا كنتُ هناك وقتها ورسمت لها أول غلاف.
وثم ارتبطت أعمالي بعد ذلك بالكُتاب المُتمردين والمُختلفين منهم “جمال الغيطاني”، “يوسف القعيد”، “يوسف إدريس”، حتى جاءت قمة الهرم عندما طلب المهندس “إبراهيم المعلم” رئيس مجلس إدارة دار الشروق أن أقوم برسم أغلفة جديدة لأعمال نجيب محفوظ، ولأنني بطبعي متمرد ومازلت رغم كبر السن، رفضتُ أن أقدم رسومات أغلفة نجيب محفوظ في شكل حارة أو مولد، لكنني قررت اتّبِع مدرستي المتعارف عليها وهي تقديم عمل موازي، وبدأت بالاطلاع من جديد على الـ52 كتاب الخاصة بالأديب نجيب محفوظ، ولجأتُ إلي مخزوني من صور اللوحات وبدأت بعمل بحث في اختيار رسم لوحة من اللوحات أو جزء تفصيلي من لوحة له علاقة بالنص وقمتُ بإخراج مختلف تماماً للغلاف الخاص بالطبعة الجديدة وكان لإبراهيم المعلم فضلٌ في كتابة اسم نجيب محفوظ بشكل أكبر وواضح عن التفاصيل الأخرى على الغلاف، فكان إخراجي ثابت باختلاف الرسومات واخترت اختيارات اعتقد أنها موفقة من لوحات تم وضعها بشكل متواضع وليس صارخاً.
> ما الفرق بين رسمك للغلاف واللوحة؟
ــ الغلاف يأتي نتيجة وكرد فعل، بمعنى أن هناك نصاً كتبهُ شخص وطرح فكرة، ثم يأتي الفنان أو الرسام لتقديم عمل موازٍ لهذا النص وليس مطابقاً في رأيي ومدرستي فأنا لا أطابق ولا أشابه.
أما اللوحة تنتج من عقل ووجدان وخيال الفنان فهي أكثر حرية من الغلاف، ولكن مصمم الغلاف الناجح يستطيع أن ينتزع حريته من سيطرة المؤلف ويعمل عملاً موازياً له وقد يكون منافساً له فهو إضافة للعمل.
> ما رأيك في استخدام الذكاء الاصطناعي في الفن التشكيلي؟
ــ من أهم الأشياء في الفن هي التعدد، وليس في الفن فقط، حتى في السياسية هناك ما يسمى بالديمقراطية وهى أن يكون هناك آراء مختلفة متباينة ومتضاربة، وفي الفن نفس الشيء يجب أن يتواجد هذا التنوع، وكل فنان لديه الحرية في طريقة مخاطبته لجمهوره، وفي النهاية الحكم للجمهور، وهل أنتَ كفنان خاطبته بالشكل الصحيح أم تعاليت عليه.
وفي هذا المجال لا أنسى قول الصحفي والصديق أحمد بهاء الدين «راعي الرحمة الثقافية» فأنا أوجه رسالة لكل فنان يتعالى ويبتعد عن الجماهير أن يراعي الرحمة الثقافية، وأن كل من دخل في منطقة تغريبية عن الناس، تركه الجمهور.
المصدر: الشروق