بسام العيسمي *
أقدم نظام طغمة الأسد في الرابع من أيلول/ سبتمبر 2015 على اغتيال (أبو فهد “وحيد البلعوس” مؤسس وقائد حركة رجال الكرامة) في السويداء مع مجموعة من رفاقه عبر الأمن العسكري ورئيسه المجرم العميد وفيق ناصر بتفجير موكبه على طريق ظهر الجبل. تَبعهُ تفجير أخر أمام المشفى الوطني في السويداء مستهدفاً من بقي حياً من التفجير الأول وتم اسعافه للمشفى. راح ضحية التفجيرين 58 شهيداً.
وبدأ يبحث كعادته عن أبو عدس جديد؟ على غرار أبو عدس اللبناني حين اغتيال الشهيد رفيق الحريري. لتضليل الرأي العام. فوقع اختياره على الرجل الوطني الشهم والشريف المعروف بنقائه وصدقه وشجاعته (وافد أبو ترابة), ليكون بطل هذه المسرحية السوداء.
وهذا ليس بغريب عليه؟ لكونه نظام عصابة لا عهد له ولا ذمة, قائم على القتل والغدر والجريمة. يقتل أتباعه ومواليه كما يقتل معارضيه؟
قتل رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي وادّعى بأنه قد انتحر؟ وكذلك غازي كنعان, وتفجير خلية الأزمة وغيرهم الكثير الكثير ممن قام بتصفيتهم. فهو لا يراهم إلّا أدوات مسخة ورخيصة تعمل على خدمته, ومتى يشعر بأنه استهلكها؟ يدوس عليها ويستبدلها بغيرها.
حركة رجال الكرامة بقيادة الشهيد أبو فهد وحيد البلعوس, شكلت ظاهرة فريدة ومتميزة في السويداء أرعبت النظام لما حققته وخلال فترة زمنية قصيرة من حواضن مجتمعية وأهلية واسعة, وتأييد شعبي كاسح في المحافظة بشكل خاص وعلى المستوى الوطني بشكل عام.
فوّتت عليه ما كان يسعى له لخلق حالة عداء للسويداء مع محيطها وجوارها. وأسقطت من يده مبكّراً الاستثمار بورقة الدروز في سياق شعاره الموهوم والكاذب بحماية الأقليات.
السويداء التي خطط النظام وبشكل ممنهج عبر أكثر من خمسين عاماً لتهميشها وإضعافها. حيث نكّل بأحرارها تضييقاً وعزلاً واعتقالاً وقتلاً. واستبعد وعزل شرفائها, ونصّب عليها أرذالها وصغارها. وتعمّد إفقارها وتهجير شبابها!
تخيّلَ لهُ بأنها أضحت مدينة مدمّرة، وعريكة لينة بيده يشكّلها كما يشتهي، وخاصة بعد نجاحه النسبي بنقل الصراع وبمساحات كبيرة منه، من الخندق السياسي الذي يحصره بين طرفين: غالبية الشعب السوري الطامح للحرية والكرامة والحقوق، وبين نظام مجرم وفاسد. الى الخندق الطائفي والديني ليُعيد رسم خطوط الصراعات على المسارات الطائفية والأثنية والدينية, ويتموضّع في قلب المجتمع السوري ومكوناته المختلفة؟ (وهذه هي الوصفة السحرية لتدمير المجتمعات).
مع الأسف نجح بعض الشيء في هذا. وأحدث بعض الندبات والتشققات في جسد العمارة المجتمعية السورية، وهي حقيقة علينا عدم إنكارها!، إدراكنا لها هو البداية الصحيحة لتجاوزها.
وفق تلك اللوحة التي رسمها لضرب وسحق الثورة السورية! لا يريد من السويداء أن تكون في صفها قط، بل خنجراً بيده, وجزء من حربه القذرة على السوريين.
لكن حرائرها وأحرارها وشرفائها ومنذ الأيام الأولى لانطلاق الاحتجاجات خيّبت آماله. وكان أول اعتصام نقابي على مستوى الجغرافية السورية نصرة لدماء أطفال درعا في السويداء. قام به المحامون الأحرار في 24 أذار/ مارس لعام 2011. وأصدروا حينها بياناً يطالبون فيه بالحرية والكرامة والعدالة ممهورٌ بخاتم فرع نقابة المحامون في السويداء.
حرص النظام تجنّباً لوقوع الطلاق البائن بينه وبين السويداء، على عدم التصعيد فيها, كما في بقية المحافظات السورية الأخرى التي أدخل الجيش في مواجهة المتظاهرين. وقصفَ البلدات والقرى الثائرة عليه بالطائرات والبرميل المتفجّرة. وذلك ليبقى شعاره المسموم وادعائه بحماية الأقليات قابل وصالح للاستثمار.
لذلك استخدم في السويداء القفازات الناعمة التي تُخفي خلفها توحّشه وإجرامه. وخلف هذه اللوحة كان يعتقل ويغيّب أحرارها, ويقتل شبابها تحت التعذيب. ولا تقل الأعداد نسبة وتناسب قياساً الى عدد السكان، عن مثيلاتها في المحافظات الأخرى.
مع تفجّر بركان القهر بالغضب السوري في 2011. تم تعيين العميد المجرم وفيق ناصر رئيساً لشعبة المخابرات العسكرية في السويداء والمطلوب للعدالة الدولية وتم تسليمه الملف الأمني فيها. وأول ما قام به هو إخراج مجموعة من المُجرمين وأصحاب السوابق الجنائية واللصوص من سجن السويداء (كما فعل النظام بدمشق حيث أطلق سراح مئات المتطرفين والجهاديين من السجون في الشهر الخامس لعام 2011 بينما كان وبنفس الوقت يعتقل الأحرار والسلمين ويدخلهم السجون وأقبية الموت والتعذيب). وخاطبهم قائلاً, القيادة عَفَتْ عنكم بمكرمة من السيد الرئيس. وتنتظر منكم القيام بدوركم الوطني في قمع الشغب والمظاهرات والاعتصامات حال حدوثها بالضرب بالعصي والهراوات!، عليكم أن لا تسمحوا لهم بذلك؛ البلد تتعرض لمؤامرة وسيكون عملكم بموضع التقدير من القيادة.
وهؤلاء الحثالة القاعية ولشعورهم بالدونية, ولكونهم منبوذين اجتماعياً، رفعت لديهم هذه المهمة القذرة منسوب الخسة والنذالة, والمبالغة في التصدي للحرائر والأحرار بوحشية. إذ كانوا كلاب حراسة يجوبون الشوارع والساحات والأزقة. وسرعان ما ينقضون على أي تجمع للأحرار كالوحوش الضارية. بالشراكة والتنسيق مع الأجسام التي أوجدها النظام لنفس المهمة والهدف لقمع حراك السوريين مثل “الدفاع الوطني وكتائب البعث وشبيبة الثورة” وغيرها من أجسام والتي تُدار أمنياً.
وبالتوازي مع ذلك سعى لخلق حالة عداء وفتنة بين السويداء ومحيطها وخاصة مع الجارة درعا، ولهذه الغاية استولد من قاع المجتمع في المحافظتين عشرات العصابات والمجموعات المسلحة لتقوم بأعمال السلب والنهب والخطف والخطف المضاد, وطلب الفدية وسرقة السيارات والإتجار بها لهدم السلم الأهلي والتاريخي بين السهل والجبل. والتأسيس لنزاعات وحروب أهلية بينهما. وتحريض العصب الطائفي فيها الذي سيدفع السويداء باعتقاده للعودة الى التموضع تحت جناحه طلباً للأمان.
لا شك بأن ذلك أحدث بعض الندبات في جسد العلاقة وحسن الجوار بينهما. لكن أحرار ووجهاء وعقلاء المحافظتين نجحا في ترميمها ووأد الفتنة. وفي نفس السياق عمل على إذكاء الخلاف بين دروز السويداء والعشائر البدوية السنية الذي اشتغل عليها منذ تسعينات القرن الماضي.
في ظل هذا المشهد بكل تشعباته تأسست حركة مشايخ الكرامة على يد الشيخ أبو فهد “وحيد البلعوس”؛ وكانت ولادتها استجابة لحالة الدفاع عن النفس. عن تاريخ السويداء وإرثها الاجتماعي والحضاري. وعن عاداتها وتقاليدها المعروفية، بوجه الأخطار المحدقة بها والتي يعمل النظام لدفعها لها.
ولأنها بتلك الفترة عبّرت عن وجع الناس وهواجسهم استقطبت مجموعات شبابية واسعة من المجتمع تم تغيير اسمها إلى حركة رجال الكرامة.
وتعهّد أبو فهد البلعوس قائد الحركة بمسؤوليتها عن حماية كل المتخلفين ورافضوا الخدمة في جيش النظام. وحذّر السلطات الأمنية والعسكرية من سوقهم بالقوة أو التعرّض لهم، حتى وصلت أعدادهم لعشرات الألاف. كما منع النظام وسلطاته الأمنية والعسكرية من التعدي على الأهالي.
وفي أكثر من تسجيل مصور له وعلى العلن. ووسط مجموعة من الأهالي وأنصار الحركة, وصف الأسد بالغدر والخيانة والعمالة لإيران. وقبل استشهاده بأشهر قليلة دعا في تصريحه الشهير السوريين للاحتكام لصوت العقل, والعمل على عقد مؤتمر وطني عام سوري تستضيفه السويداء في صرح شهداء الثورة السورية الكبرى في بلدة القريا؛ وأعتقد بأن هذا ما قد سرّع في اغتياله وتصفيته.
باغتياله انتعشت عصابات الخطف والجريمة وحُثالة المجتمع، وعادت لتطل برأسها من جديد بعدما كانت متخفّية, وتشكّلت مجموعات جديدة من العصابات ضمن السويداء المدينة وخارجها مثل عصابة “عريقة” وعصابة “شهبا” وعصابة “قنوات” وعصابة “صلخد” وفي غيرها من البلدات.
وفي العام 2016 وبهدف توسيع أعمال ودور هذه العصابات بتفكيك اللّحمة الإجتماعية وأخذ مجتمع السويداء من الداخل، قلّص فرع أمن الدولة تمويله لبعضها ولفصيل حُماة الديار الذي أسسه نزيه جربوع في العام 2013 تحت إشراف جهاز أمن الدولة، وتمّ دفعهم للبحث عن التمويل الذاتي، إذ قيل لهم: الأعباء كبيرة على الدولة. وعليكم أن تتحملوا جزء من هذه الأعباء لتسيير أعمالكم!، بمعنى اذهبوا اسرقوا واقتلوا واخطفوا واطلبوا الفديات ونحن نغض الطرف عنكم؛ ونشط عناصرها بتوسيع عمليات الخطف وسرقة السيارات وطلب الفديات بتغطية من ضباط الأمن الذين يتقاسمون الغنائم مع عناصرها.
تم كل ذلك بإشراف وتشجيع المجرم وفيق ناصر. والذي ساهم وأشرف أيضاً على تشكيل عصابات تجارة وتخزين المخدرات والترويج لها بين أطفال المدارس. وتهريبها عبر الحدود، ولاستكمال اخضاع السويداء ولفشل كل خطط النظام السابقة وإجراءاته على احتوائها، أتى بعصابات داعش من مخيم اليرموك، ونقلهم إلى بادية السويداء الشرقية, وسهلَ لهم اقتحام السويداء في 6 آب/ أغسطس 2018 ظناً منه بأن السويداء وخلال ساعات قليلة ستسقط في يد داعش!، وترتكب هذه الأخيرة المذابح والمجازر بأهلها. ثم يتدخل هو ليمثّل دور المنقذ، وتعود السويداء طائعة خانعة لأحضانه تستجير به وتطلب منه الحماية!!
طالما أن مبعوثيه ومسؤوليه مراراً كانوا يأتون للسويداء ومنهم مستشارة بشار أسد المقتولة لونا الشبل، مُهددين بداعش، قائلين لمن يلتقوهم من أهلها وممثليها: أنتم محاصرين من الشرق بداعش ومن الغرب بالنصرة، والنظام هو خيمة الأمان الوحيدة لكم، فكل الوفود كانت تعود خائبة وتسمع جواباً واحداً فقط: إذا فُرض علينا القتال سندافع عن أرضنا وعرضنا وبلدنا ضد كل من يحاول التعدي علينا.
فبعد فشل كل محاولات النظام وأحابيله وضغوطه المختلفة لاحتواء السويداء، لجأ لتنفيذ تهديده بداعش معتقداً بأنها الرصاصة التي لا تخطئ، ستصيب السويداء في مقتل. فهيئ لها كل ما يلزم لاستباحتها المحافظة وكسر شوكتها!
لكن أحرار السويداء وشبابها النشاما ألحقوا الهزيمة بها. وطردوها خلال ساعات من كل القرى التي دخلت عليها مباغتة. وفرَّت منها هاربة مدحورة ومكسورة إلى خارج أسوارها من حيث أتت. وانكشف النظام أمام أهل السويداء جميعاً بأنه هو من أتى بها وسهّل عدوانها وكان شريكاً لها.
وفي تموز/ يوليو 2018 تم تعيين اللواء كفاح ملحم رئيس اللجنة الأمنية في السويداء، حيث استمال الكثير من العصابات للعمل معه، وأغدق عليهم الهبات وفائضاّ من مخصصات المحروقات، وسهّل لهم التجارة في السيارات المسروقة؛ وأمّنَ لبعضهم ماكينات لصناعة المخدرات والإتجار به، لتحطيم نسيج المجتمع الأهلي في السويداء وإضعافها؛ لكنها بقيت عصية عليه. وارتفع منسوب الحقد والسخط والرفض لنظام طغمة الأسد في المجتمع، والاحتجاجات تتجدد كل عام تقريباً ولم تنقطع.
في 2015 وفي عام 2017 كان الحراك تحت عنوان (حطّمتونا) وتوالت كل عام، وفي 2022 انتهت الاعتصامات بمقتل شخصين برصاص الأمن بينهم شرطي وإصابة 18 آخرين، إلى هذه الإنتفاضة المباركة التي انطلقت في 7 آب/ أغسطس العام الماضي ودخلت عامها الثاني ولا زالت مستمرة، وعزيمة حرائرنا وأحرارنا أضحت أكثر توهجاً وثباتاً لاستمرارها حتى تحقيق حلم السوريين بالحرية والكرامة.
وهنا لا بد من القول: علينا أن ندرك بأن السويداء لا تستطيع القيام منفردة بما يجب على السوريين جميعاً القيام به وانجاز التغيير الوطني الديمقراطي, وترحيل هذه الطغمة من حاضر ومستقبل السوريين. علينا أن لا نُحمّل الرغبة والحلم مواقف سياسية.
السويداء فتحت الطريق الذي اعتقد نظام الأسد إغلاقه وانطلقت، وعلى بقية الأحرار والشرفاء السوريين في المحافظات الأخرى ملاقاتها لمنتصف الطريق.
علينا أن ننظر لكل المخاطر والتهديدات التي يمكن أن تطال السويداء بعين الجنوب السوري لا بعين ابن السويداء فقط، فما يُهدد الجنوب السوري يُهدد بالضرورة السويداء. وهذا يفرض علينا مزيد من الحوارات وفتح أقنية التواصل ومد الجسور للتعاون مع كل الشرفاء والأحرار في درعا والقنيطرة لتوحيد الجهود وتنسيق والمواقف والسياسات والقيام بالأعمال المشتركة المتاحة حسب الزمان والمكان.
علينا الاستفادة من أخطائنا وتقويم سياساتنا الماضية. والابتعاد عن الارتجالية والسطحية والفوضى التي حكمت ممارساتنا وسلوكياتنا، وكانت بادرة إيجابية ومُشجعة استمرار مأسسة انتفاضة السويداء وكان آخرها تشكيل الهيئة العامة للحراك السلمي منذ يومين في الخامس من هذا الشهر.
علينا أن نعيد السياسة للثورة فهي العين الباصرة للفعل والممارسة الثورية, وبدونها يصبح أعمى.
علينا التوافق الوطني العام على مساحة الجغرافية السورية بخطوطه العريضة على مجموعة من المبادئ والأهداف تأسيساً على سوريتنا المشتركة كفضاء عمومي لجميع السوريين على قاعدة ومساحة الهوية الوطنية السورية لترميم الفضاء الوطني الديمقراطي السوري الذي صدّعه الإستبداد وأحدث به بعض التشققات والانهدامات. انطلاقاً من أننا كلنا سوريون شركاء متساوون في وطن يجمعنا جميعاّ.. لا يحق لأي أحد الإدعاء بأفضلية فيه عن الأخرين, لا بسبب الدين ولا الطائفة ولا المذهب أو الأصل القومي، ولا لأي سبب أخر مهما كان على الإطلاق.
علينا التحلّي بالعقلانية السياسية والوطنية بإدارة الإختلاف بيننا والعمل على تقليصه على أرضية المشتركات الوطنية وتوسيعها. وإقامة النشاطات والحوارات البناءة, ومقاربة الرؤى لصياغة برنامج وطني ديمقراطي عمومي ببعده الحضاري والإنساني. وصياغة العقد الاجتماعي. بما يؤهلنا لنكون البديل التاريخي الوطني والسياسي والأخلاقي والإنساني لنظام طغمة الأسد الذي أثبت بسلوكياته وممارساته وفي بنيته خلال ثلاثة عشر عاماً بأنه نظام عصابة مٌغلق غير قابل للانفتاح. وغير صالح لأن يكون شريكاً في العملية السياسية.
لتعقيم سورية منه ومن كل الطغاة والبغاة والقتلة. وخروج كافة القوى والاحتلالات الأجنبية بكل اشكالها ومستوياتها من جميع الأراضي السورية. وضرب مواقع التحكّم والإستبداد والشمولية بكل مفاصل الدولة والمجتمع وتجلياتها في الثقافة والممارسة والسلوك, لنصل إلى دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية. الدولة الديمقراطية الحيادية غير المؤدلجة التي تقف على مسافة واحدة من جميع أبنائها.
* كاتب وحقوقي سوري
المصدر: غلوبال جستس Global Justice