يقظان التقي *
ينقل الإسرائيليون حروبهم على الطريق السريعة من غزّة إلى الضفة الغربية في وحشيّة اجتياح الأرض والبشر في جنين ونابلس وطولكرم والخليل بعمليات من التوغّل، تترافق مع تدمير البنى التحتية والقتل والتهجير والنفوذ العسكري والسيطرة السياسية. وقد شجّعتهم الحرب في القطاع على مزيدٍ من أعمال العنف، في لحظة ضائعة في السياسات الدولية والإقليمية. فتسعى حكومة بنيامين نتنياهو لتحقيق غاياتها، وتكريس سلطة القفز على أي هدنةٍ أو مفاوضات وقف إطلاق النار، لتعزيز سلطة المستوطنين والقوميين الدينيين اليمينيين المتطرّفين التي وصلت إلى ذروتها. وهم يرمون إلى السيطرة على الضفة الغربية، مقدّمة لاحتلال ما يزعمون أنه “قلب الأرض اليهودية في الكتاب المقدّس”.
اكتسب المستوطنون قوة غير مسبوقة جرّاء الحرب وهمجيّتها في غزّة، ويمارسونها حالياً في شمال الضفة الغربية ومخيّماتها ومدنها المكتظّة سكنيا. وغزوة جنين واحدة في سلسلة الغزوات المتكرّرة على حاضنة شعلة المقاومة الشعبية الفلسطينية، وتوفر الأوضاع مزيداً من الاستيلاء على الأرض، مع انشغال الجميع في العالم، للقيام بأشياء مستحيلة وغير مسبوقة لإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم. إنها فترة “معجزة” (أوريت ستروك، الوزيرة المسؤولة عن المستوطنات)، لتمضي إسرائيل في مشروعها لبناء مستوطنات جديدة وتسريع التخطيط للبؤر الصغيرة التي لم يُعترف بها من قبل، في أكبر عملية مصادرة غير قانونية، وفي تهجير سكان المخيّمات والمدن (اتفاقية جنيف الرابعة)، وتجريف للأراضي “محلّ النزاع ” في الضفة الغربية.
منذ تولّيها السلطة، دفعت حكومة بنيامين نتنياهو مراحل توسيعها المستوطنات، وقدّمت خططا لبناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة تحت سقوف غير محدّدة، فتزعم الاستيلاء على المواقع التوراتية القريبة من حدود 1967، أو البؤر الاستيطانية الأصغر حجما في عمق الضفة.
يخوض الفلسطينيون حربا شرسة لمنع الاستيلاء على أراضيهم، ويواجهون حربا دينية وثقافية شرسة ظهرت منذ بداية القرن التاسع عشر، مع من “يمنحون الأولوية لأراضي إسرائيل المادية ومفهوم الأرض اليهودية التي تعود بهم إلى آلاف السنين”.
قد تتمكّن الآلة العسكرية من إنجاز ما يمكن إنجازه من المشاريع الاستيطانية التي يتعهدها الجيش الإسرائيلي حاليا، غير أنه يقابلها مزيد من ردود فعل الشباب الفلسطيني، حين يمارس قوة القانون في الدفاع عن الأرض، ولن يترك السلطة الفلسطينية أن تقرّر، بعد فترة، ما إذا كانت ستدافع عن النفس أم لا، أو أن تردّ بإلغاء مشاركتها الثنائية بلغة اقتصادية. عديدون من الذين يقاتلون الإسرائيليين في جنين هم من الشباب الذين يمثلون جيلاً جديداً من المقاتلين، الذين لم يشهدوا في حياتهم محاولة سلام قابلة لتطبيق “اتفاقيات أوسلو” (1993)، التي منحت السلطة الفلسطينية سلطة محدودة على غزّة وأجزاء في الضفة الغربية. وفي اعتقاد عديد من الشباب الفلسطيني أن العنف المسلح هو حالياً السبيل الوحيد للبقاء، ما يُنذر بمواجهات طويلة ومتدحرجة من حيّ إلى حيّ، ومن مخيم إلى آخر.
ألدّ أعداء الاستقرار الأمني هو اليأس. لهذا يقاتل الشباب الفلسطيني بشكل استثنائي فوق الوصف، ولم تظهر القيادة الفلسطينية أي ميل إلى دعم أوسع، حيث فكرة الانتقال إلى حلّ دولتين مستقلتين تتمتّعان بالسيادة ماتت منذ عقدين وأكثر، ويجري حالياً دفنّها أو حرقها أو تجريفها أو ردمها، والأسوأ أن يشعر الشباب الفلسطيني بالسخرية حيال دعم عربي فقد مصداقيته ولا يفعل شيئا.
في المقابل، لم تأخذ إسرائيل بالتحذيرات والتهديدات الغربية، وتمارس ضغوطا على الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي (جوزيب بوريل) لمنع معاقبة الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وصدور قراراتٍ تدين خطاب الكراهية ورفض حل الدولتين والتحريض على جرائم الحرب وقطع المساعدات والغذاء عن الفلسطينيين، وتستمر بمحاولات التصفية السياسية للسلطة الفلسطينية. ولا تأخذ التحذيرات من أن الحرب في غزّة والضفة الغربية يمكن أن “تتحوّل إلى حرب اليهود ضد اليهود” (إيهود أولمرت)، بعيدا عن الالتزامات الأخلاقية التي طردتهم مرّة من الأرض. فتواصل محاولات ضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزّة ودفع الفلسطينيين إلى الخارج في أوسع عملية إرهاب قومي ديني يخرّب كل القوانيين التي قامت عليها الدولة العلمانية.
لم تكن خطوة نتنياهو (المجهضة)، للحدّ من السلطات القضائية في الأشهر الأولى لحكومته سوى المرحلة الأولى للمتشدّدين، وهدفهم لم يتحقق سوى جزئيا في استئصال الدولة العميقة والسيطرة على الجيش والأجهزة الأمنية والمحاكم وتسليح المستوطنين في لعبة مليشياوية تضيق الخناق على الوجود الفلسطيني من خلال إجراءات تدريجية تهدف، في المدى البعيد، إلى طرح السؤال الفلسطيني “ما الجدوى من المقاومة؟”، مع استمرار القصف والحصار والإغلاقات والحالة الاقتصادية المتدهورة، في حين تحوّل الوزيرة ستروك أموال الدولة إلى المستوطنات.
يحتل نصف مليون مستوطن أجزاء من الضفة الغربية ويعيش مائتا ألف مستوطن آخرون في أحياء القدس شرقي حدود العام 1967، ويعتقدون أن وجودهم هناك جزء من واجبهم في منع قيام دولة فلسطينية. في المقابل، الشباب الفلسطيني في مهمة “معجزة أخرى” على نحو متزايد لمقاومة عمليات التصفية التي يتعرّض لها والاعتقالات وتزايد وتيرة عنف المستوطنين وحوادث القتل اليومية للقرويين وترهيب المدنيين (لا يشكلون أي تهديد)، ما سيسمح للمستوطنين (5% من سكان إسرائيل، لكنهم ممثلون بقوّة ونوعية في الوحدات القتالية التابعة للجيش، ويتسلقون سلم الترقيات بدوافع أيديولوجية)، بالانخراط في أعمالهم الإجرامية أكثر تحت غطاء الحرب. لكنها ستكون الحرب الأقل حسماً وأثراً على معنويات الشباب الفلسطيني المسلّح بأرضه وقوة عقيدته التي لا تقهر.
تمثل حجّة إسرائيل الدفاع الاستباقي عن النفس إغفالاً مقصوداً، بل مخالفة صارخة لمبدأ مستقرّ في القانون الدولي، فكأنها تحاول أن تبتكر قانوناً دولياً ينسجم مع مصالحها لتمارس إرهاب الدولة وتحقيق خططها القصوى، في وقتٍ تريد فيه من العالم أن يتعامل معها على أساس أنها دولة “طبيعية”، فتعيد إنتاج ذاتها الاستعمارية، وتنقل الحكومة صلاحياتها على الحياة المدنية في الضفة الغربية إلى حاكم عسكري، مجرّد مقدمة للحركة الصهيونية لعملية أوسع بكثير لمحو الهوية الفلسطينية.
اكتسب الشباب الفلسطيني القوة القتالية التي جرى نقلها من غزّة إلى جنين. كانت هذه الحال منذ عشرين عاما، لكن الفتية تحسنوا بشكل كبير جدا، يدافعون بكل الوسائل، إذ يريدون أن تكون هذه المنطقة التي احتلتها إسرائيل في 1967 قلب دولتهم في المستقبل، وأعادوا الاعتبار السياسي المتساوي لقضيتهم إزاء عدوانيّة احتلال خارجة عن السيطرة، ولا يمكن تبريرها بأي اعتبار سياسي أو فلسفي أو إيديولوجي أو عرقي أو ديني. ليس هو الهجوم أخيراً على جنين. يتذكّر الفلسطينيون ما حدث منذ نصف قرن في الضفة الغربية، والبداية كانت من هناك، حيث كانت هناك قواعد عسكرية وحواجز. ثمّ جاء المستوطنون وسيطروا على أوضاع تمثل أشكالاً من الإرهاب والتمييز.
هذا سببُ إضافي في أن يلتئم الفلسطينيون معا والعالم بوجه ازدواجية المعايير الدولية، وكل هذا التواطؤ مع شخصيات إسرائيلية بلا نظير، تتوسّل الحرب وإجراءات العزل وهيمنة العرق، وتحاول سحق قرارات محكمة العدل الدولية.
* إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني
المصدر: العربي الجديد