عمّار ديّوب *
هل سينضم العلويون للثورة أم سيدعمون النظام؛ كان هذا التساؤل الكبير في الأشهر الأولى من عمرها. كان المفكر العربي سلامة كيلة، يصرُّ في النقاشات معه أنّهم سينضمون، ولكن ذلك يتطلب رؤية واضحة من المعارضة بخصوص الواقع المتأزم ومستقبل الثورة والدولة.
بعد قليل من الوقت تشكّل المجلس الوطني وبدأت المحاصصات الطائفية فيه، ولو لم يُنص على ذلك في النظام الداخلي، وبدأ اللعب بالإعلام الّذي يُغطي الثورة، والإعلام العربي، فكان التركيز على سرديةٍ أنَّ النظام علويٌّ والثورة سنيّة. النظام بدأ السردية ذاتها منذ الأيام الأولى، ولم يترك أداة في التطييف، للثورة إلّا ومارسها، واعتمد على مجموعات محدّدة لاقتحام المظاهرات أو تخويف الأحياء العلوية، ترأستها شخصياتٍ تسمى بالشبيحة، وتم استقدامهم من اللاذقية وطرطوس، وأتى بها إلى دمشق وحمص وبانياس ومناطق كثيرة، وكان من الواضح أن الأغلبية العلويّة لا تريد الاصطفاف خلفه، ولكن تسعير الخطاب الطائفي والمجازر المدروسة، لتظهر طائفية، ومن علويين وضد السنة، والعكس، هو ما دفع بالأغلبية العلويّة وبالتدريج للمشاركة المنظمة معه، ولكن شاركته قطاعات من بقية الطوائف، وتمَّ كلُّ ذلك بقيادة الفروع الأمنية، ولم يكن عشوائياً، وتشكّلت عبر السنوات اللاحقة ميليشيات حقيقية، علوية، وحينما كانت تداهم هذه قرية أو تلك البلدة، وترتكب فيها المجازر وسواها؛ كانت أعمالها منظمة وخاضعة للأمن.
الثورة في آذار/ مارس 2011 وبعده، كانت بدفعٍ من الثورات العربية، ولأسبابٍ تتعلق بعدم قدرة الأنظمة والسوري منها على تجاوز الأزمات المستعصية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتعاظم الافقار وارتفاع الأسعار وغياب فرص العمل ومحاولة الأنظمة الجمهورية التحوّل نحو العائلية “مصر، تونس، سورية، اليمن، ليبيا، وسواها”، والاستبداد. السوريون بالتحديد تظاهروا طويلاً، وفي كافة المدن السورية، واعتُقل وقُتل منهم المئات بالبداية ولاحقاً بمئات الآلاف، ولكنّهم أصرّوا على السلميّة والتظاهر، وشاهد ذلك العالم بأكمله؛ في ميادين التظاهر تدرجت الشعارات من إصلاح النظام إلى إسقاطه ورحيل بشار الأسد، وهذا أخذ أشهراً. حينذاك، حاول المتظاهرون وبكل الوسائل الوصول إلى الساحات الرئيسية في المدن الكبرى، كما تونس ومصر، ولكن النظام واجه ذلك بالاعتقال والقتل والشبيحة، وأخيراً انكفأت المظاهرات إلى بعض أحياء المدن الرئيسية أو إلى البلدات والمدن الصغيرة. غير الشعارات في ميادين التظاهر، كانت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بالمعارك الإعلامية لاختيار أسماء الجمع، وكان أنصار الإخوان، وباعتبار كتلتهم الاساسية في الخارج، وليست لديهم أعمال على الأرض الأكثر تأثيراً في اختيار الأسماء، وكانت معظمها تأخذ طابعاً دينياً، هذا أيضاً أثبت رؤية النظام بأن ما يحصل هي مواجهات بين الطوائف وضد النظام العلماني؛ النظام اعتمد هذه السردية والإخوان ومن يدور في فلكهم، والمجلس الوطني السوري فات باللعبة ذاتها، والإخوان فيه وتحالفاتهم يشكلون الكتلة الأكبر، فحصل ما يشبه التطابق، وبالضد من أهداف الثورة في التحوّل الديمقراطي والانتقال نحو دولة المواطنة.
مع استعصاء إسقاط النظام وبدءاً من أواخر 2012، راح التظاهر الشعبي يتراجع، وبدأت تقوى وتشتد التنظيمات الجهادية والسلفية “جبهة النصرة، جيش الإسلام، صقور الشام، أحرار الشام، …” وراحت تتجمع وتتمركز ويتعاظم أثرها، وتتقاتل فيما بينها. هنا يجب لحظ التباينات بينها، وأنَّ جبهة النصرة كانت الأكثر ابتعاداً عن الفصائل الحرّة، أو السلفية؛ كان لسلامة كيلة رأياً، بأنّه يجب قتل أفراد حركة النصرة منذ البداية، أو أيّة فصائل جهادية وتعتمد الّلِثام على وجوهها، وكان رأيه بأنّها مجموعات مُرسلة من الاستخبارات الخارجية، ومخترقة من الاستخبارات السورية، وستقوم لاحقاً بتصفية الفصائل الحرة، وسَخِرَ منه الكثيرين، وبعد النصرة رأينا داعش، وكان لهذه الفصائل السلفية والجهادية دوراً كبيراً، مع النظام في تصفية الجيش الحر، وأتى الأمر مكملاً للتدخل الخارجي على خط التسليح والتمويل، والذي ذهب بمعظمه إلى الفصائل السلفية والجهادية، وأمّا الغرف العسكرية والأمنية التي شكلها الأمريكان، الموك والموم، في الأردن وتركيا، فقد ضَبطت العمل العسكري، ومنعت تشكّل مكونٍ عسكريٍّ مركزيٍّ في كل سورية، أو خوض معركة واحدة في كل سورية، وبذلك أُفشلت كافة إمكانيات إسقاط النظام عسكرياً.
شكّلَ ضعف النظام سبباً، لدعم إيراني واسع، ومن حزب الله، التابع لإيران. ودخل الجولاني ورفاقه عبر الحدود العراقية، وأسّس جبهة النصرة في أوائل 2012، وتكونت معظم المجموعات السلفية والجهادية من شخصيات، أَفرج النظام عن قياداتها من سجونه، وكذلك أفرج النظام العراقي عن قياديين جهاديين من سجونه، وأتى أخرين من بلاد عربية كثيرة وأوربية والجمهوريات السوفييتية السابقة وسواها، وفي الأثناء دخلت داعش من العراق.
كان الهدف الأساسي للمجموعات الجهادية تنظيف الأرض من فصائل الجيش الحر ومن المجموعات المدنية، التي بقيت بعد اجتثاث النظام لها منذ بدايات الثورة، اعتقالاً وقتلاً وتهجيراً؛ معارك المجموعات السلفية والجهادية كانت تتقصد بناء أماراتها الخاصة، وهذا بالضبط ما قاله النظام في بدايات الثورة، إن ما يجري أعمالاً إرهابية وبقصد تشكيل إمارات سلفية!
تشكّلت تلك الأمارات، هنا وهناك، وكان عملها الأساسي محاربة الجيش الحر، وصمد الأخير في بعض المناطق، وفشل في بعضها الاخر، وضَعُفَ بالتدريج، واستعصى الأمر منذ 2013 وإلى لحظة دخول الروس وقبلهم الامريكان، هنا أصبح للروس والامريكان الدور الرئيس في الصراع الداخلي، وشكّل الامريكان قوات سوريا الديموقراطية، قاصدين الاعتماد على حزب البايادي، الكردي، وقامت روسيا بعمليات قصف جوي مرعبة، وبدءاً من 2016، وحتى منتصف 2018، وطرحت هي وتركيا وايران مناطق خفض التصعيد، وبذلك سيطر الروس وشركائهم على معظم سوريا، واجتُثتْ مناطق واسعة من الثورة بالقتل والتدمير والترحيل والتهجير، وكانت الحصيلة تمكين قوات سورية الديمقراطية من أقسام واسعة من الحسكة ودير الزور والرقة، وبعض أرياف حلب، وحصرَ الروس تنظيم الجولاني في إدلب، وتدخلت تركيا بعمليات عسكرية متعددة وسيطرت على شريطٍ حدودي.
الآن ماذا حصل في سورية عبر هذه السنوات الطويلة.
إن ضعف النظام ورفض المعارضة السورية والدول المؤيدة للثورة شعاراتها واستراتيجيتها في التغيير الديمقراطي للنظام هو ما أدخل الصراع في استعصاءٍ كاملٍ، ومنعَ الثورة من الانتصار، وحوّل الصراع بين الثورة والنظام إلى صراعٍ بين النظام وداعميه وبين الفصائل السلفية والجهادية وداعميها والفصائل المدعومة من غرف الموك والموم وسواها؛ وبذلك انتهى الجانب المدني والشعبي للثورة، وصارت المعارك العسكرية هي شكل الصراع، وهناك حروب بالوكالة، ومعارك ضد الإرهاب “داعش”، ومعارك وفق الطلب الخارجي.
أين الحرب الأهلية بين مكونات الشعب في كل ذلك؟ أين استقلالية هذه الفصائل في معاركها الداخلية، وأين هي المعارك الداخلية “الأهلية”؟ هناك بعض المعارك التي جرت، ولكنها لم تكن هي الوجه الأساسي للمعارك ولم تكن مستقلة في معاركها، والتنظيمات السلفية والجهادية قوى مناهضة للشعب، وقوات سورية الديموقراطية أداة بيد التحالف الدولي وضد تنظيم جهادي دولي.
لم يخض العرب المعارك ضد الأكراد، ولا السنّة ضد العلويين، ولا قطاعات شعبية ضد قطاعات شعبية أخرى، أو طبقة فلاحية ضد ملاك أو عمال ضد برجوازيين، وأيضاً لم تنفصل قطاعات من الجيش وتتقاتل فيما بينها؛ لنلاحظ هنا أن الشبيحة والميليشيات التي شكّلها النظام، وبعد زوال الخطر عليه، قام بتفكيكها، وكثير منها قُتلَ! كل ما حدث على هذه الأرضية من معارك “أهلية”، كان هامشياً للغاية.
هناك، وفي معظم ما نُشر حول الموضوع، بالسنوات السابقة، ومؤخراً، ثورة أم حرب أهلية، تخوّف وخشيةٍ من استخدام المصطلح الأخير، وأيضاً هناك بعض التشكيك في التسليم المسبق ومنذ 2011 بأنّها ثورة شعبية خالصة ضد النظام. حاول هذا النص، رفض فكرة الحرب الأهلية للتعبير عن السمة العامة للواقع، والرفض هذا ليس بقصد تبرئة أيّة جرائم ارتُكبت من قبل الفصائل المناهضة للنظام، وبالتأكيد هو ضد مساواة طرفي الصراع، وكأنَّ الدولة غير موجودة! لا، القضية تكمن في التعقيدات الكبرى التي واجهت الثورة، واضعفتها، وجرفتها وهزمت الوجه المدني منها، ولسنوات طويلة.
المفارقة، أن ذلك الوجه الجميل، والثوريُّ بحقٍ، عاد للبروز في السويداء وفي إدلب مؤخراً، وكذلك في المحرّر، وتنتفض العشائر مراراً وضد سيطرة قوات سورية الديموقراطية؛ لماذا عاد الوجه الشعبي والمدني وبهذه القوّة، وقد يتوسّع؟ وهو يصرُّ أنّه امتدادٌ لثورة 2011.
إن محاولة التدقيق في القوى المُشكِلة لانتفاضة السويداء وادلب والشمال، سيجد فيها تيارات سياسية متعدّدة وقوى مجتمعية متعدّدة، تشبه كثيراً بدايات الثورة، وتطالب بالقرار 2254، والانتقال الديمقراطي، وهي انتفاضات مناهضة للنظام ولهيئة تحرير الشام ولفصائل تابعة لتركيا ومناهضة لتركيا، وكذلك رافضة لسيطرة حزب البايادي ورغبته في اقتطاع منطقة خاصة به في سورية، وربما محاولة الانفصال في مرحلة لاحقة.
* كاتب سوري
المصدر: غلوبال جستس Global Justice