راتب شعبو *
من الواضح أن الانقسام الأساسي الذي ظهر في سورية وسط المهتمين بالشأن العام مع بدايات الثورة السورية بقي على حاله، رغم ما مر من سنين وما كشفه الزمن من حقائق مخيّبة لطرفي الانقسام. هذه حال مُحبطة لأنها تقول إننا أمام كتل “فكرية” قليلة الحياة، وإن كانت كثيرة الصخب.
إذا وضعنا جانباً الاصطفافات ذات المنشأ النفسي أو الهوياتي أو تلك القائمة على مصالح مباشرة، وبحثنا عن جذر سياسي للانقسام السوري العنيد، نجد أن هناك منظوريْن متباينيْن لرؤية ما عاشته سورية منذ مطلع 2011، تفصل بينهما هوّة لا تُردَم. يستند كل منظور منهما إلى حقيقة ثابتة، ويغضّ النظر عما عداها، أو يغطّي ما عداها بشتّى صنوف التعمية. ولذلك يتعذّر “النقاش” بين أصحاب هذين المنظوريْن، وإن حدث، فإنه يكون شبيهاً بنطح الصخر، أو شبيهاً بحرب بين جزيرتين تفصل بينهما مسافة أبعد من المدى المجدي للأسلحة المتوفرة فيهما، فيملؤون الدنيا ضجيجاً، فيما تبقى كل جزيرة آمنة مطمئنة على حالها.
المنظور الأول، يمكن أن نسميه منظور رفض الخارج، يستند إلى تاريخ طويل من السياسات الاستعمارية (تقسيم ونهب ثروات وتغذية صراعات داخلية وبينية وزرع وتمكين ومساندة لا حدود لها للدولة الصهيونية التوسّعية وتزويدها بسلاح نووي بعيد عن الرقابة… إلخ) التي ساهمت بدور كبير في وصول مجتمعاتنا إلى المأزق الذي تعيشه، ليخرُج هذا المنظور بنتيجة تقول إن تدخّل الدول الاستعمارية لا يكون إلا من أجل مزيد من التخريب والإضعاف، ومن ثم، لا يمكن الاعتماد على الخارج في تحقيق ما هو في صالح بلداننا.
لا ينكر أصحاب هذه النظرة سوء الوضع الداخلي، وربما يسهبون أكثر من غيرهم في وصف الحال المتردّي للبلاد في ظل الاستبداد وحكم الطغمة التي حوّلت علاقتها بالدولة إلى ما يشبه الملكية الخاصة، ولكنهم يروْن أن كل تعاون ممكن مع الخارج بغرض إصلاح الداخل جريمة أو حتى خيانة. وهكذا يركّز هؤلاء على حقيقة ثابتة (عدم اكتراث الخارج بمصالحنا الوطنية بل حرصه على إضعافنا)، ويعطونها الأولوية، ويخالفون إلى حد العداء من يبدّي عليها أي حقيقة أخرى.
المنظور الثاني، ويمكن أن نسمّيه منظور رفض الداخل، يستند، بدوره، إلى تاريخ طويل من القمع والفساد وسياسات التمييز الهوياتي والتفكيك المجتمعي على يد الطغمة الحاكمة التي لا سبيل مفتوحاً إلى تغييرها أو تعديلها أو حتى ممارسة الضغط عليها لإصلاح أو تعديل سياساتها أو تخفيف قبضتها الأمنية وتجاوزات أجهزتها … إلخ. يرى أصحاب هذا المنظور أن الواقع السياسي والاقتصادي الذي تفرضه طغمة الحكم يستوجب الخروج على “النظام” الذي يعالج كل خروج عليه بعدائية قصوى يستخدم فيها كل ما تحوزه الدولة من قدرات، فيصل بالبلاد وبالمجتمع إلى مزيد من الضعف والتفكّك. وعليه، يكون الخلاص من حكم الطغمة التي تسيطر على الدولة الخطوة الأولى والأساسية. ومن دون أن ينكر هؤلاء ما للخارج من مصالح وغايات تختلف عن مصالح “الشعب” وغاياته، يرون أن من غير الممكن تحقيق تغيير جدّي في النظام بدون مساندة خارجية من الدول القادرة… هكذا يركز أصحاب هذا المنظور على الخراب الذي يسببه “الاستعمار الداخلي” ويعطون محاربته الأولوية، ويبدو لهم أن كل من يتجاوز هذه الأولوية إنما يصب في خدمة “النظام” ويساهم في استمراره.
يمكن لكل من هذين الطرفين الإسهاب في “نقد” الطرف الآخر انطلاقاً من حقيقته الثابتة التي ليست محط جدل، من دون أن يقدم نقده ومحاجاته أدنى فائدة، سوى التكرار والتشديد على ما هو معروف، ومن دون أن يسعى أصلاً إلى فتح آفاق وأبواب جديدة، أو أن يطرح على نفسه مهمّة الخروج من هذا العقم. والواقع أن طرفي هذا الصراع “الفكري” يستشعرون العقم الذي هم فيه، ويعالجون عجزهم بانفعالية وبلا عقلانية على شكل حماس زائد لفكرتهم، وكيل اتهامات قصوى لمخالفيهم من وزن الارتهان والخيانة والطائفية … إلخ، ما يجعل هذا “النقد” وسيلة لشحن النفور المتبادل وتعزيز الانقسام العقيم.
إذا تجاوزنا عن وجود من يجادل في أن الغرب (الدول الديمقراطية) لم يكن في الماضي، وليس هو الآن، سبباً رئيسياً في خرابنا، وتجاوزنا عن وجود من يجادل في أن الاستبداد هو الوسيلة المثلى للحكم في مجتمعاتنا، يكون الفالق الرئيسي بين جبهتي هذا الجدال العقيم هو “اختيار” إحدى الحقيقتين المذكورتين، وتجريد السلاح ضد أنصار الحقيقة الأخرى. ورغم الهوى الانقسامي الذي يشكل جزءاً من طبيعتنا، فالحقيقة هي أن ثبات هذا الانقسام لا يعود فقط إلى ذاتية معينة عند المنقسمين، بل يعود أيضاً، وبدرجة أكبر وأثقل، إلى واقع عالمي متراكب شديد التعقيد والعسر، يكون فيه الخارج متحكماً في تغيير الداخل، إلى حد قريب من وضع الناس أمام خيارات أحلاها مرٌّ. ومن الطبيعي أن لا تكون للخارج الأولويات نفسها التي يلتزمها ويسعى إليها المطالبون في التغيير، بل أن تكون له بالأحرى أولويات معاكسة. ومن الطبيعي أيضاً أن الخارج، إذا ساهم في التغيير، كما حصل في ليبيا ومصر مثلاً، فسيكون لاعباً مهمّاً فيما بعد التغيير، بما قد يجعل التغيير قليل المعنى إن لم يكن نكوصياً.
إذا تعذّر التوليف بين هاتين النظرتيْن، وتعذّر بينهما النقد الرصين، يمكن لنا الأمل بأن يدرك كل طرف في الانقسام حدوده، وأن يكفّ، على الأقل، عن تغذية التنافر والعداوات بالتوبيخ والحماس الأرخميدي وكيل الاتهامات، وليسأل كل طرف نفسه، لو افترضنا أنه أتيح له، بقدرة قادر، أن يلغي وجود الطرف الآخر بالكامل، أو أن يجعله ولياً حميماً، هل يعتقد أن المسألة السورية ستجد حلها عندئذ؟ وإذا كان يعتقد ذلك، فهل له أن يرسم الطريق الذي يراه إلى هذا الحل؟
* كاتب وطبيب سوري
المصدر: العربي الجديد