د. باسل معراوي *
يمتاز الشمال السوري المُحرّر بعدة ميزات عن سلطات الأمر الواقع في الجغرافية السورية منها:
1- أنه يُمثّل الثورة السورية ومهوى أفئدة الأحرار، والذين ينتشرون في كل أرجاء المعمورة لا جدال على ذلك، فالبطولة أن تحتفظ أو تحافظ على مساحة من الأرض داخل سوريا لتبقى الثورة مُستمرة لتحقيق أهدافها، فلا يوجد ثورة تَتمّ في المهاجر ضِدّ نظام حكم يُسيطر على الأرض والسكان، حيث تُشكّل مساحة الـ 20 ألف كيلومتر مربع و6 ملايين نسمة، بُنية حقيقية وأرضية شرعية للوصول إلى إسقاط نظام الأسد.
ولكي يعترف المجتمع الدولي بثورة في سوريا (مهما كان الاسم الذي يُطلقه عليها) فيجب أن تتواجد على الأرض وتَحكُمها، وهو ما تمّ انتزاعه باعتراف المجتمع الدولي بالمعارضة السورية الرسمية كمُمثل سوري شرعي نِدّ لنظام الأسد وشريك كامل في القرارات الدولية على طاولة المفاوضات.
2- يمتاز الشمال المحرر بعدم وجود سلطة مركزية قوية فيه، حيث تتوزع السلطة بين عدة أجسام.
حيث للفصائل المنضوية تحت مظلة الجيش الوطني قرار لا يُمكن القفز عليه، وللمجالس المحلية قرار أيضاً دور هام، وللإدارة التركية قرار عبر أدوات وآليات مُتعددة، وللحكومة المؤقتة ومجالس المحافظات التابعة لها والمؤسسات الرسمية المرتبطة بها قرار لا يمكن إغفاله، وللوجهاء في العشائر والقبائل والمناطق ورجال الدين والعائلات الكبيرة في المنطقة والتجار قرار أيضاً لا يُمكن إلا أخذه بالحسبان.
وقد يكون تعيين مجلس محلي في بلدة ليرى النور تَتَدخل به كل القوى السابقة، وغالباً تتنافس كل تلك القوى ثُمّ تصل لصيغة توافقية لتمرير القرار سواء بمحاصصة أو تنازل في مكان آخر أو… إلخ.
عدم وجود أيديولوجيا تَحكُم المنطقة، فكل المطالب والرؤى تنبثق من تحقيق أهداف الثورة السورية، ويُسيطر على الفضاء العام خطاب إسلامي معتدل غير حركي ولا تنظيمات سياسية مُؤثّرة تُؤطّره، وتيار وطني ديمقراطي خاصةً بين الشباب خطابه يتمحور حول بناء دولة سورية مدنية ديمقراطية.
إنّ عدم وجود سلطة مركزية قوية مع عدم وجود أيديولوجيا تتبناها أو تنتشر في المجتمع هما شرطان كان من المُؤمّل أن يُمهدا الأرضية لانطلاق حركة سياسية نشطة، وذلك لِتوفر مناخات من الحرية لا يتوفر أيّ جزء منها في المناطق السورية الأخرى.
إلا أنّ ذلك لم يتحقق لظروف عديدة ليس هنا مجال الخوض فيها.
ما حصل في اجتماع المطار في غازي عنتاب كان النتيجة الطبيعية لكل المقدمات الخاطئة التي كانت سائدة، وتبين أنه خلال العقد الماضي لم نتمكّن من بناء نموذج حوكمي أو بدايات نموذج لإدارة رشيدة للمجتمع وتأسيس لحياة سياسة سليمة تحترم وتُقدر التضحيات الهائلة التي تمّ بذلها من قبل الحاضنة المجتمعية، ويعلم الجميع ان لا مؤسسات حقيقية تم بناؤها سواء كانت عسكرية أم مدنية.
تَعرّى تماماً زيف مقولة الجيش الوطني الذي يتبع عملياً لوزارة الدفاع والتي هي إحدى وزارات الحكومة المؤقتة، فلو وضعنا جانباً الخلافات الفصائلية على المعابر والنفوذ والتي قد تكون دموية أحياناً، وأخذنا حالة هجوم هيئة تحرير الشام الأخير منذ عامين تقريباً (وهي قوة عسكرية وسياسية لها مشروع مختلف عن مشروع الثورة السورية وتعاديه) على الفيلق الثالث كيف تصرفت كل مكونات الجيش الوطني الذي من المفروض أنه كتلة واحدة أو مؤسسة واحدة وكيف توزعت في ثلاثة مواقف، فمكونات الفيلق الثالث تصدّت لاجتياح الهيئة بكل قوتها، أما البقية فمنها من وقف على الحياد (وهذه سابقة خطيرة) ومنها من كان مع الهيئة وينتظر قطف الثمار من هزيمة الفيلق الثالث.
المهم أن المؤسسة العسكرية بمعناها المؤسسي كانت غير موجودة إلا على الورق.
وجوهر اجتماع عينتاب الأخير، خلاف بين فصائل تتبع للوزارة نفسها، حيث كان رئيس الحكومة الذي هو نظرياً يتبع كل الجسم العسكري لإحدى وزارات حكومته، أحد أطراف الخلاف.
يَتحمل الجانب التركي مسؤولية كبيرة عن تلك النتائج، فهو ليس كما ظهر في الاجتماع (على الحياد) بين الفريقين ومستضيفاً للجلسة أو مُيسراً لها (وكأنه وسيط أممي) بل هو الفاعل الأكبر في مجريات الأحداث ونتائجها، فهو الأخ الكبير أو الجار العزيز أو الحليف الموثوق أو الشريك الأمين أو… إلخ، وله قوات عسكرية كبيرة ويساهم في تمويل وإدارة أهمّ المؤسسات (كقطاعات التربية والمجالس المحلية ومختلف الإدارات العامة).
بالتأكيد أرى أنّ النتائج لا تَسُرّ الأتراك، حيث توضحت لهم الهُوّة الشاسعة بينهم وبين الحاضنة الشعبية في الأول من تموز الماضي، حيث تُلقي الحاضنة بالمسؤولية الأكبر عما وصل إليه المحرر، لاعتمادهم على أشخاص غير أكفاء في المواقع التي يديرونها.
وبالطبع هذه النتيجة لا تَخدم الأتراك على كل المستويات، سواء على مستوى الجهود لبناء حاضنة سورية صديقة لهم تتقاطع مصالحهما في الحرب على حزب العمال الكردستاني (بشتى مسمياته) والعمل على وصول نظام حكم سوري في سوريا الجديدة صديق للأتراك قاعدته الصلبة سكان الشمال السوري.
ولا على مستوى بناء نموذج ناجح في الشمال (اقتصادياً واجتماعياً) يكون جاذباً للاجئين السوريين في تركيا للعودة إلى بلادهم طوعاً وليس كما يتم الآن.
بالتأكيد لا يجوز إلقاء المسؤولية على الإخوة الأتراك فقط، فنحن السوريين مسؤولون مسؤولية كبرى عما حدث وعن النتائج التي وصلنا إليها.
لم يستطيع السوريون تشكيل قيادة سياسية جامعة من السوريين في الداخل والخارج، تحظى بثقة الأغلبية وتُخضِع الفصائل العسكرية لسلطتها، وتكون هي من يدير الداخل السوري، ويُمثّل الثورة السورية في المحافل الدولية.
وإلى حين تشكيل هذه القيادة التي تتبنى تطبيق نموذج حوكمي في مناطق الشمال ويُقدّم لها الأتراك كل الدعم والمساعدة، فإننا سائرون إلى المزيد من الانحدار والتشظي والخوف أن يكون بأسنا بيننا شديد وعلى عدونا هيناً.
بالتأكيد من يقرأ المقال سيقول مللنا من حالة التوصيف ونريد الحلول.. ما العمل؟ وهو سؤال المليون لا يملك أحد بمفرده الإجابة عليه كاملاً ولكن يُمكن أن يقدم رؤية تتقاطع مع غيرها من الرؤى لتشكيل الإجابة، وبالطبع تُفضّل الرؤى أو الاقتراحات الناتجة عن عقل جمعي وليس فردي كرؤية أحزاب وتيارات سياسية ونقابات وباقي مؤسسات المجتمع المدني والأهلي.
ولا غنى عن التشخيص الصحيح، لوصف العلاج المناسب وطريقة التعافي.
* كاتب محلل سياسي سوري
المصدر: غلوبال جستس Global Justice