أيمن الشوفي *
لا تستريح المبادرات السياسية من ملاحقة أزمة الحكم في سورية حين تطوفُ حول الجميع منذ 13 عاماً، ولا تملُّ تلك المبادرات من استيلادِ نفسها حول عطالةٍ سياسية مكثّفة، وثقيلةِ التكوين، إذ غالباً ما تكتسب سمات الحلّ السياسي من دون أن تستطرد في بلوغه، فتصابُ مع مرور الوقت بالتعب والإعياء، ذلك أنّ تخزينها الطويل في أقبية المماطلة، يجعلها أيضاً تُصاب بالعطب، وعدم إمكانية الاستخدام لاحقاً.
ولعلَّ مبادرة أسماء الأسد هي الأحدث ظهوراً في خطّ سير المبادرات المُتعثِّرة، التي جرى تناقل محتواها على أنّه يضمن انتقالاً سياسيّاً في سورية يرضاه النظام قبل غيره، ثمّ قيل بأنّها لاقت استحسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقبلت بها دولٌ عربيةٌ عدّةٌ، ومعها تنتقل سورية من نظام الحكم الجمهوري، إلى نظام الحكم المَلَكي، على أن تكون عائلة الأسد هي الأسرة المَلَكيّة الحاكمة لسورية. فعن أيّ مَلِكٍ تتحدّث أسماء الأسد؟ وعن أيّ مملكة؟
ربّما استدعت، في تفكيرها ذاك، تاريخ النظام الجمهوري المُعطّل في سورية منذ استولى حافظ الأسد على الحكم بانقلاب نوفمبر/ تشرين الثاني (1970)، فقبض بمفرده على جميع صلاحيات الحكم في البلاد، ثمّ ورَّث ابنه بشّار وصفته تلك في الحكم الشموليّ مضمونِ الأثر، وهذا ما وضع نظام الحكم في سوريّة داخل حيّزٍ تجريبيّ جعله أقرب ما يكون إلى نظام المَلَكية المُطلقة في الحكم منه إلى النظام الجمهوري، فالأب وابنه كانا رئيسَين بصلاحيات مَلِكٍ مُطلق السلطة، ومع توريث الحكم في سورية (رأته أسماء في مبادرتها توريثاً للعرش)، استُدرج النظام الجمهوري إلى مقصلةٍ فصلت الاسم عن رقبةِ المُسمَّى، وأحالته توصيفاً مُغايراً لطبيعته الدستوريّة، فغدت سورية بالفعل مملكةً حدودها الخوف والرعب، وسادتها طغاةٌ قساةُ القلوب جاؤوا من القاع المتشبّع بمشاعر القهر الاجتماعي والإحساس المُفرِط بالدونيَّة.
وفي وقتٍ ترقبَ فيه مجلس الشعب السوري حُضورَ رأس النظام أعمالَ الجلسة الافتتاحية، يوم الأربعاء 21 أغسطس/ آب الماضي، وهي أولى جلسات الدورة الاستثنائية الأولى من الدور التشريعي الرابع، وإلقاء كلمةٍ بهلوانيّةٍ هناك، كما جرت العادة مع كلّ دورٍ تشريعيّ جديد، وجدنا كيف أنّ بشّار الأسد لم يحضر (!)، وهو الغائبُ عن المشهد السياسي العام منذ شُوهِدَ في موسكو آخر مرَّة في زيارة مُستعجَلة وغامضة انغرست في محيطها كثيرُ من التكهّنات والاستنتاجات، وانقسمت ما بين أنّه خاضع للإقامة الجبرية هناك أو أنّ موسكو تريد حمايته من احتمال تصفيته. وفي الحالتين، لم يهبط المرّة هذه رأسُ النظام درجَ مجلس الشعب المفروش بالسجاد العجمي الأحمر، محروماً من سماع حفلة تصفيقٍ خرقاءَ لطالما كانت تُطربه، حارماً في آن أعضاء ذاك المجلس من فضائل تذوّق ابتسامات الرئيس، لكنّه وأيضاً حُرِمَ أو حَرَمَ نفسه من ممارسة فعل الكلام، الذي يلتحقُ به كثيرُ من التهريج السمج قبالة من يعتقدون أنفسهم ممثّلين عن الشعب السوري، في بلاط من يعتقد نفسه ملكاً على عرش مملكة أثاثها مُقسّمٌ ومُستبَاح، وخرابها يصرخُ وحدهُ حين يُتجوّل داخل ما تبقّى بها من مكان.
فهل يحاول بشّار الأسد توظيف غيابه ذاك في أنّه بات غير مُكترثٍ بأن يقبض على كامل السلطة في البلاد؟ وهل يريد الإيحاء من ذلك بأنّه منح هامشاً من الصلاحيات لمجلس شعبه، وحكومة نظامه؟… ربّما يعنيه ترويجُ مثل هذا الإيحاء السياسي، لا سيّما أنّه أوعز أن تنال الحكومة القادمة (غالباً سيعود حسين عرنوس المقرّب من إيران لتشكيلها)، ثقةَ مجلس الشعب، وهذا إن حدث فسيكون حدوثه للمرّة الأولى في نظام الأسدَين، كما أوعز بإمكانية أن يحجب مجلسُ الشعب الثقةَ عن الحكومة أو بعض وزرائها إن اقتضت الضرورة ذلك، نوعاً من إعادة توزيع السلطة، أو التنازل عن جزءٍ منها، وتركه للمؤسّسات الدستورية المعنية بالأمر، وهذا أيضاً من شأنه دعم مبادرة زوجته (جلالة الملكة)، وإعادة تدوير رأس النظام السوري، من ديكتاتور سيكوباتي يترأس جمهورية تحمل اسم عائلته، إلى “جلالة” مَلِكٍ جديد لا يريد الاستحواذ على كامل السلطة، بل يترفّع عن ذلك، ويترك بعضاً من الصلاحيّات لإعادة تدويرها في فضائه “المَلَكي” المُرتقَب.
ليست تلك المبادرة الأولى التي تستعطف عقل أسماء الأسد، إذ دلّها عقلها نفسه في أواخر يناير/ كانون الثاني من العام 2022 على مبادرة الحزام والطريق مع الصين، لتبرم مع الحكومة الصينية اتفاقيّةً بواسطة “الأمانة السورية للتنمية”، التي تتبع لها وتتمتّع بنفوذ واسع داخل منظومة صناعة القرار وتنفيذه في سورية. أرادت حينها كسرَ عُزلةِ النظام السوري المنبوذ إقليمياً ودولياً، ولو جزئيّاً، والاستحواذ على بعض التمويلات الصينية، في حين وجدت الصين في المبادرة فرصةً للوقوف في وقتٍ مُبكّر على عتبة إعادة الإعمار، تلك الوليمة الضخمة التي ينتظر الجميعُ تلقّي بطاقة الدعوة للمشاركة فيها.
أيضاً، تحيلنا مبادرة أسماء الأسد الخاصّة باستبدال نظام الحكم الحالي في سورية بالنظام الملكي مباشرةً إلى الجانب اللاعقلاني المظلم، الذي يسود سلوك تلك الأسرة، ورغبتها الحميمة بالاحتفاظ بالسلطة في سورية بأيّ ثمنٍ، وبأيّ طريقةٍ كانت، ثمّ إنّ ما بادرت إليه أسماء الأسد من طرح سياسي خبيث قد يجد مكاناً يتنفّس من خلاله داخل المبادئ الخمسة للمبادرة الأردنية الخاصّة بحلّ أزمة الحكم في سورية، والتي صرنا نعرفها باسم مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، وبصورةٍ خاصّة المبدأين الأول والثاني، اللذين يتحدّثان عن استبعاد الحلّ العسكري لإنهاء الأزمة السورية، وأنّ تغيير النظام السوري ليس هدفَ المبادرة التي تجد في تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 (أكّد أنّ الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلاد، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإلى انتخابات برعاية أممية)، أفضلَ السبل للمضي في مسار الحلّ السياسي لأزمة الحكم في سورية.
تتخيّل أسماء الأسد في روسيا ما تشاء، تراجعُ خيالاتها الماكرة أمام بوتين بلا خجل، وكأنّها تصنع منها أطواقَ نجاةٍ لأسرةٍ تغرق، لعائلةٍ نعرف بأنّها باتت تقيم في روسيا، ذاك المنفى الاختياري لهم، إذ يظهر حافظ بشّار الأسد في صورةٍ حديثة له، وهو ينحني ليقبّل رأس والدته، التي احتفلت بعيد ميلادها خلال أغسطس/ آب، يشتهون سورية من هناك، وسورية لا تشتهيهم، يأملون بتدفّق مُعجِزةٍ ما، كونيّةٍ أو دوليّةٍ، تعيدهم ملوكاً وأمراءَ إلى سورية الشهيّة، بعدما “هربوا” من بطش الاستعمار الإيراني، و”تهديداته” لهم، ولمملكة الأسد المهترئة، ما يريدونه مَلِكٌ فقط، حتّى وإن كان بلا مملكة.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد