بشرى المقطري *
تتماهى بيئة العنف في اليمن مع طبيعة سلطات الأمر الواقع، لأنّها أدوات مولّدة للعنف، سواء من خلال هُويَّتها وما تفرزه من تمايزات اجتماعية وجهوية تنتهك المواطنية المتساوية، أو تقويضها المؤسّسات الضبطية والأمنية والقضائية، إلى جانب أنّ تركيبة الأجهزة الأمنية (وأيضاً العسكرية)، القائمة على اصطفافات الهُويَّة وامتيازاتها، حوّلتها أدواتٍ للعنف والجريمة المُنظّمة، من إخلالها بالقانون إلى استخدام السلطة لانتهاك حقوق المواطنين، وحماية المجرمين المنتمين لعصاباتها المناطقية أو الطائفية. وإذا كان تعطيل القانون قد جعل المجتمع المدني عاجزاً عن الانتصاف لحقوقه، فإنّه دفع قطاعات أخرى إلى اللجوء لوسائلَ خارج القانون للانتزاع ما تعتقده نوعاً من العدالة، بما في ذلك اختراع طرائق للضغط على سلطات الأمر الواقع.
من المُهمّ إدراك دور مفاعيل الهُويَّة واشتغالاتها في توليد بيئة العنف، من تمظهراتها السلطوية إلى تحيّزاتها الهُويَّاتية وما تخلقه من عسف مجتمعي، وانتهاكٍ للمواطنية، وإذا كانت الهُويَّة الطائفية لجماعة الحوثي ظلّت الشكل الأبرز لترسيم بيئة العنف، بما في ذلك تنويع الانتهاكات، من تطييف المجال العام والبنى الضبطية والأمنية إلى مصادرة الشخصي وتقييد الحرّيات، فإنّ سلطات الأمر الواقع الأخرى تشتغل أيضاً في الإطار الهُويَّاتي لتوليد بيئة العنف، بما في ذلك استثماره وظيفياً وسياسياً، وإن تباين تبعاً لهُويَّتها وأيديولوجيتها المُعلَنة، وأيضاً الهامش السياسي والمدني في المناطق الخاضعة لها، وما يتيحه من أشكال المقاومة المدنية والمجتمعية، فإنّ إفرازات الهُويَّة بمضامينها الطائفية والأيديولوجية تظلّ الأكثرَ فاعليةً في توليد بيئة العنف، إذ إنّها، ومن خلال إدارتها لشكل أحادي من الهيمنة السلطوية القائمة على احتكار المنافع، تعمل لإزاحة الآخر، سواء كان مذهبياً أو سياسياً أو كان نطاقاتٍ مجتمعيةً معيّنةً، من الحقّ في التشاركية التي يكفلها الدستور اليمني، في مقابل رهن المواطنية من الحقوق إلى الواجبات بامتيازات الولاء للهُويَّة في المقام الأول، إلى جانب إفراغ الفضاء المدني بمؤسّساته الضبطية والأمنية، من وظيفتها في تطبيق العدالة.
في تعيينات الهُويَّة الأيديولوجية وتأثيرها فاعلاً رئيساً في توليد بيئة العنف، تحضر تجربة المجلس الانتقالي الجنوبي، سلطةَ أمرٍ واقعٍ في مدينة عدن تحديداً، مثالاً على إكراهات الهُويَّة، وشرطها القمعي، فإلى جانب سطوتها على المجال العام والشخصي، فتخضعه لانحيازاتها، فإنّها، ومن خلال فرضها هُويَّةً إطاريةً قسريةً قائمةً على أبعاد مناطقية (ثنائية جنوب شمال)، يتضمنه مستوىً أدنى من الهُويَّة، تحالف الضالع – يافع، الذي يهيمن على سلطة “المجلس الرئاسي” وأجهزته المُتعدّدة… نقول إنّ سلطة الأمر الواقع (المجلس الانتقالي الجنوبي)، تكرّس بذلك هيمنةً فئويةً مناطقيةً وقرويةً ضيّقةً، تعمل على حصر الامتيازات في نخبتها السياسية، والقوى الاجتماعية المتحالفة معها، في مقابل استبعاد المناطق الجنوبية الأخرى من دائرة التمثيل السياسي، وأيضاً من الامتيازات، كما أنّها، ومن خلال خطابها الأيديولوجي أو ممارساتها، تستقي صراعات الماضي، عبر إزاحة مدينة أبين، سواء نخبةً سياسيةً أو قوىً اجتماعيةً، من دائرة التمثيل، وهو ما ضاعف حالات الانتهاكات القائمة على أبعاد مناطقية، سواء في الشقّ الجنائي أو في الشقّ السياسي، كما أنّ ادّعائها احتكار تمثيل الهُويَّة السياسية، وفي هذه الحالة الهوية الجنوبية المفترضة، أمام المجتمع، جعلها تسيّج بيئةَ العنفِ بمضامين سياسية، وذلك باستعداء القوى المنافسة لها، سواء التي تتحدر من المناطق الشمالية أو القوى الجنوبية من خارج عصبتها المناطقية، ومن ثمّ تجريدها من المواطنية، وبالتالي وضعها هدفاً للانتهاك، كما أنّ تحويل “المجلس الانتقالي” للانتماء للهُويَّة الأيديولوجية وسيلةٌ لتثبيت سلطاتها على الأرض، وقبلها توفير الحماية لشبكة حلفائها، ضاعف مستوياتِ العنف والانتهاك في مدينة عدن، فضلاً عن التأثير في البنى الضبطية والقضائية المستقلّة، فإلى جانب تفريخ كيانات مناطقية موالية لها، وظّفتها سياسياً، وذلك بتكييف قضايا مختلفة لاعتقال المعارضين، إضافةً إلى (وهو الأكثر أهمّية) دور أجهزتها الأمنية في توليد بيئة العنف، وكذلك تعطيل حضور “المجلس الرئاسي” سلطةً توافقيةً في المدينة المُعلَنة عاصمةً مُؤقّتةً، وذلك بإعاقة تفعيل الكيانات الأمنية والضبطية لضبط المنتهكين، في مقابل تضييق الهامش المدني.
يوازي استثمار سلطات الحرب لمفاعيل الهُويَّة في فرض بيئة العنف وتوليدها، دور أجهزتها الأمنية والضبطية، بما في ذلك العسكرية، إذ إنّ اختلالاتها الجذرية ناشئة من أنّها أُسّست بناءً على الانتماء لهُويَّة السلطات، سواء كانت طائفيةً أو سياسيةً أو مناطقيةً، ومن ثمّ كانت أداةً وظيفيةً لسلطات الأمر الواقع في قمع معارضيها، والتعدّي على حقوق المواطنين، ومن جهة أخرى تثبيت مصالح نُخْبَتها الحاكمة، في مقابل توفيرها الحماية، وأيضاً تبادل المنافع، وإذا كانت جغرافية الأجهزة الأمنية والضبطية في اليمن، إلى حدّ كبير، باتت جغرافيا الانتهاك والعنف الذي يطاول المجتمع، فإنّ الحالة المنفلتة للأجهزة التابعة لسلطة المجلس الانتقالي جعلتها اليوم مظلّةً للعنف والجريمة، إذ إنّ حرص الانتقالي سلطةَ أمرٍ واقعٍ على فرض سلطته من خلال تسييج أطر هُويَّته الأيديولوجية على المجتمع، وذلك بتثبيت امتيازات دائرة الموالين لها من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، والألوية لضمان ولاءاتها المتذبذبة، اقتضى توفيرَ شكلٍ من الحماية السياسية، وذلك بالتغاضي عن انتهاكاتها اليومية التي تطاول المواطنين، ومن ثمّ حماية المنتهكين، في مقابل استمرارها في تثبيت ولائها للانتقالي بطرائق مختلفة، فإلى جانب خنق حرّية التعبير باعتقال الصحافيين المناوئين لها، جديدها أخيراً اعتقال الصحافي فهمي العليمي، وأيضاً تلفيق قضايا ضدّهم، كالحكم على الصحافي أحمد ماهر، المعتقل منذ عامين في سجون الانتقالي، بالسجن أربعة أعوام، إضافة إلى دفع الأجهزة الأمنية التابعة لها إلى مصادرة أملاك الدولة اليمنية، وكذلك الشرعنة، وبالقوة، لاحتلال كياناتها المناطقية مباني تتبع كيانات مدنية مستقلّة، كاحتلال اتّحاد نساء الجنوب لمبنى اتّحاد نساء اليمن في مدينة عدن، ومنع فعّالياتٍ لوزارة الشباب والرياضة، وأيضاً استمرار منع نشاط الأحزاب السياسية وتجريمها. وفي مقابل منافع تثبيت الهيمنة وإكراهات الهُويَّة، تتغوّل الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للمجلس الانتقالي في ممارسة بطشها، ومضاعفة انتهاكاتها، من مصادرة أملاك المواطنين، إلى الاعتقال، والاختطاف، آخرها اختطاف العقيد “علي عشال الجعدني” من ضبّاط في جهاز مكافحة الإرهاب في مدينة عدن التابع لـ”المجلس الانتقالي”.
في المحصّلة، يخضع المجتمع اليمني اليوم لدائرة مغلقة من العنف المُؤسّس على إكراهات الهُويَّة وأدواتها السلطوية المتنوّعة، ولأشكال القهر والانتهاك التي تفرضها على المواطنين، على اختلاف مناطقهم وهُويَّاتهم، بحيث بات يفتقر للحماية، مع تقويض الدولة بمؤسّساتها الضبطية والأمنية والقضائية المستقلّة، ومن ثمّ غياب فرص تطبيق القانون، في مقابل تغوّل كيانات هُويَّاتية تنتصر للمجرمين، فإنّ البديهي هنا لجوء المجتمع، مع تلاشي الوسائل المدنية للمقاومة والاحتجاج على عسف السلطات والمطالبة بتسليم الجناة، لطرائق خارج القانون، والتي تعني ارتكاب عنف آخر، يتمظهر بعودة ظاهرة الثأر في بعض المدن اليمنية، وكذلك انتشار جرائم الاختطاف، فضلاً عن وسائل الضغط على سلطات الأمر الواقع لتسليم الجناة كقطع الطرقات. وإذا كانت الوقفات الاحتجاجية القبلية، التي باتت مشهداً شبهَ يوميٍّ في صنعاء، هي تجلٍّ لاختلالات العدالة وسقوط الدولة اليمنية، فإنّ الفعّاليات القبلية التي لجأت إليها قبيلة الجعادن في مدينة أبين، على خلفية اختطاف أحد أفرادها (العقيد عشال)، من التهديد بقطع طريق أبين – المُكلّا، وسيلةً للضغط لتسليم الجناة، هو انعكاس كارثي (وإن كان واقعيّاً) لتردّي منظومة العدالة، وأيضاً لتجبّر سلطات الهُويَّة وأجهزتها وانتهاكها حياة اليمنيين.
* كاتبة وناشطة يمنية
المصدر: العربي الجديد