كمال عبد اللطيف *
كيف نقرأ أحوالَ الراهن العربي؟ هل يمكننا، في ضوء المتغيّرات الجارية، أن نُحدّد مُؤشّرات كُبرى لأهمّ ما يجري في أغلب البلدان العربية؟… يتحفّظ أحدُهم على أسئلتي قائلاً: لماذا تواصل الحديث عن العرب بالمفرد، في وقتٍ اختارت فيه الأنظمة العربية سياسات لم تعد تُعير فيها أدنى اهتمام للتعاون والتضامن ووحدة المصير؟… ويمكننا أن نواجه الصوت المُتحفّظ على صيغة السؤال بالإشارة إلى أنّ الآخرين ينظرون إلينا بالمفرد، وتمثّل مجموعة الدول العربية أمامهم الواحد المُتعدّد. فكيف نقرأ أحوال الراهن العربي؟
نواجه اليوم الحرب الصهيونية المشتعلة منذ أشهر في فلسطين، حيث يواصل الكيان الصهيوني عدوانه وسعيَه إلى إبادة الشعب الفلسطيني، كما يواصل توسيعه المجال الحربي، فيوجّه ضرباتٍ إلى لبنان وإلى اليمن، بدعم من الغرب الإمبريالي، ولا يستطيع أحدٌ وقف جبروته وعنفه. كما نواجه في مجتمعاتٍ عربية كثيرة حروباً داخليةً مُعلنةً من قبيل ما يجري في كلّ من سورية والعراق، واليمن والسودان، وليبيا ولبنان. وتُقرّبنا المناوشات والحروب الدائرة في هذه البلدان من مجموع المُعطيات، المُرتبطة في كثير من أوجهها بتداعيات ما بعد انفجارات الربيع العربي، وقد مرّ اليوم على بدايات اشتعالها أكثر من عقد، ولم تعد مُجرَّد حروبٍ أهلية، بل تحوّلت حروباً تشارك فيها جيوش ومليشيات دول إقليمية وقوى دولية، وكلٌّ منها يرسم لحضوره ومشاركته استراتيجيات مُحدَّدة. فكيف يمكن أن نرسم المعالم الكبرى لأسئلة الراهن العربي، في بلدان لم تعد أنظمتها قادرةً على معرفة مختلف التفاعلات الجارية في مختلف أقاليمها وجهاتها؟
نعيش في أغلب البلدان العربية تحوّلاتٍ تاريخيةً عاصفةً، وأتصوّر أنّنا طرف مُساهم في تدبير كثير من أوجهها، بحكم أنّنا لم نُنْهِ تحرير أوطاننا، ولم نتمكّن كذلك من بناء تاريخنا الذاتي بوسائلنا الخاصة، فقد تخلّينا عن مشروعنا في التقدّم والتنمية، ولم نتمكّن من كسب رهانات النهضة التي صوَّبنا النَّظَر نحوها منذ قرنَين. وبدل ذلك، عَوَّدْنا أنفسنا لغة التساهل مع ذواتنا، بالإعلاء من تاريخ المؤامرات التي نعتقد أنّها دُبِّرَت بهدف محاصرتنا، من دون أن نتمكّن من إنجاز التشخيص التاريخي الكاشف عن مسؤولياتنا الذاتية الكبرى، في ما أصابنا كلّه من ويلات، وما لحقنا من دمار، دمار سورية واليمن وليبيا، والدمار المتواصل اليوم في فلسطين المحتلّة، من دون أن ننسى صور الاختراق الصهيوني المتمثّلة في سياسات تعميم التطبيع، وقد شملت اليوم في السّرّ وفي العلن عديداً من بلداننا.
تكشف حِدّة المعارك التي تملأ اليوم بلداناً عربية عديدة، ما يمكن إدراجه ضمن معاركَ الإصلاحين، السياسي والديني، حتّى وإن اتّخذ مُسَمَّيات أخرى، وحتّى عندما تلجأ الأطراف المتصارعة إلى افتعال ما يُبرز تواصل المعارك في حال تعثُّرِها أو توقّفها، أو توظيف معطيات وآليات تَتَّسِم بكثير من العنف والعنف المُضاد، الأمر الذي يُدْخِل الأطراف المتصارعة في دوّامات من الرعب التي نعرف قدراتها الجهنمية على التخريب ونشر البلبلة، ثمّ تمرير كثيرٍ من المواقف التي لا علاقة لها بما يجري داخل مجتمعاتنا. لكنّنا نعرف أيضاً، وسط الصراعات كلّها، الدائرة والمركّبة والمُفتعَلة أحياناً، أنّه لا يمكن تخطّي كثير من عِلَلِنا من دون معارك ومن دون تضحيات.
تحوَّل المشرق العربي شيئاً فشيئاً مختبراً لبناء ديناميات جديدة في العلاقات الدولية، إذ تتنافس قوى إقليميةٌ ودوليةٌ كثيرةٌ، لترتيب مواقفَ وخياراتٍ ومواقعَ، والإشارة هنا إلى مواقفِ كلٍّ من روسيا وتركيا وإيران ودول الاتحاد الأوروبي وأميركا. وفي مقابل ذلك، نجد أنّ العرب اختاروا ومن دون استثناء، السيولة والتمدُّد بجوار عالمٍ تخترقه رجّات عنيفة، عالم أصبح في حاجة أخيراً إلى قليل من السُّمْك والصَّلابة. ويكشف التدهور المستمرّ في الحالة العربية، أمام المتغيّرات الجارية أمامنا، عجزنا عن مواجهة القِوَى الإقليمية والدولية، وقد تَخَطَّى الصراع المتواصل اليوم، في العراق وسورية ولبنان والسودان، وفي الخليج العربي وفي فلسطين المحتلّة، سياقاتِ ما عُرِف بـ”الربيع العربي” وتَبِعَاتِه، وهو يرسم اليوم مواقفَه ومواقعَه في إطار أكبر، يتعلّق بإعادة تأسيس موازين القِوَى الإقليمية والدولية، خارج معادلاتِ الإصلاح والثورة ومواجهة الاستبداد والفساد.
يكاد الفاصل بين حدود التدخّل الإقليمي والدولي، وحدود الفعل الذاتي، فيما يقع اليوم في مجتمعاتنا وعلى أرضنا من المحيط إلى الخليج، يكاد لا يُرَى، بحكم أنّ الأحداث والوقائع التي نواجه تتّسم باختلاط كثير. إنّها تتعيّن بجملة من العوامل الجديدة والمُركَّبة، كما ترتبط بسياقات التاريخ في مجراه العام، وتتّصل بالاستراتيجيات التي تحسب حسابات الراهن والمستقبل، ومن دون إغفال مقتضيات المصالح مُمَثَّلَةً في النفط ومُجَسَّدَةً في إسرائيل، وفي حسابات أخرى إقليمية. لكن ألا تعتبر الحالة المختلطة في لحظاتٍ مماثِلة لحالتنا ظاهرةً عامّةً؟… وأتصوَّر أنّ ما ينقلها اليوم من العام إلى الخاص، يتمثل في الأوجه التي تعرفها الحرب العدوانية الدائرة منذ أشهر في قلب فلسطين. فالعرب يقفون اليوم وهم يواجهون عجزهم المُركَّب، المتمثّل في التبعية وفي عدم إدراكهم الوضع المتحوّل في عالم ينشأ على أنقاض تَرِكَةِ عالمٍ في طور الضُّمُور والاختفاء. وكان يفترض في ضوء تجربة الحَراك الاجتماعي، وقد شمل في آخر سنوات بلداناً عربيةً عديدةً، أن يعود شعار الاستقلال إلى الظهور، من أجل فضاء عربي أكثر تحرّراً، وأكثر قدرةً في كسر قيود التطبيع والتبعية، لمباشرة التأسيس لمجتمع جديد. لكن كيف يمكن في ضوء التحوّلات العاصفة الجارية أن نواجه أسئلتنا ومصيرنا؟
نقف اليوم ونحن نحاول التفكير في بعض أسئلة الراهن العربي أمام امتحانٍ عسير، نواجه فيه عجزنا وغطرسة المتربّصين بأرضنا ومجتمعاتنا، نواجه ذاتنا المُعتلَّة تاريخياً، كما نواجه قِوَى إقليميةً ودوليةً، بيننا وبينها حسابات تاريخية مُركَّبة، قِوَى تمارس أدوارها الجديدة، وهي تساهم في ترتيب جوانب من المبادئ الكُبرى لنظام دولي في طور التأسيس. وفي قلب المتاهات المرتبطة بمختلف العناصر، التي أشرنا باختزال كبير إلى بعضها، تحضر مُقتضيات النهضة والتقدّم في مجتمعنا، حيث لا يمكن تشخيص واستيعاب مظاهر مآزقنا في الراهن العربي، من دون بناء ذاتنا مُجدَّداً، في ضوء أسس الأزمنة الحديثة ومُقدّماتها.
* كاتب أكاديمي وباحث مغربي
المصدر: العربي الجديد