حسام الدين محمد *
نشر كتّاب سوريون مؤخراً، وثائق ومعلومات ووقائع لم يُسلّط عليها النور كفاية، تظهر ألغازاً وجوانب خفية في شخصية الرئيس السوري السابق حافظ أسد. ويمكن لهذه الوثائق والوقائع، أن تفتح وتضيء قضايا عديدة مظلمة من تاريخ سوريا الحديث المجهول، وتثبت التلاعب به وتغييب عناصر كثيرة فيه على مدار أكثر من خمسين عاماً.
تتعلق المعلومة الأولى؛ التي نشرها الكاتب والإعلامي “محمد منصور” بحصول حافظ أسد على شهادة البكلوريا الحرة عام 1952 حين كان في الثانية والعشرين من العمر (وهو العام نفسه الذي انتسب فيه للكلية الحربية في حمص)، وقد وثّق منصور ورود اسم الأسد في العدد 23 من جريدة «البلاد»، التي كانت تصدر في اللاذقية (بتاريخ 10/6/1952)، مستنتجاً أن «لا صحة للأخبار التي تتحدث عن تفوق حافظ الأسد الدراسي» وخالصاً إلى أنه «تم تزوير تاريخ دراسي لحافظ الأسد».
القضية الأخرى؛ المثيرة طرحها شهاب الدمشقي (الاسم الذي يستخدمه محرر- أو أحد محرّري- صفحة «تاريخ سوريا: الرواية الغائبة») تحكي عن مُسلم هندي من إقليم “كيرلا”، يدعى فضل بن علوي أثار اضطرابات ضد البريطانيين فنفوه خارج الهند، حيث استقر لفترة في مكة، وكان من القدرة على الإقناع أن بعض الحجاج العُمانيين بايعوه أميراً على ظفار، غير أن بعض القبائل ثارت وطردته، فتنقل بين عدة مدن إلى أن توفي في إسطنبول سنة 1900، وغابت قصته حتى استقر حفيده عبد الله بن حسن بن فضل في اللاذقية التي اتخذها موطناً وبات يُعرف باسم الشريف عبد الله آل الفضل “الحسيني”، حيث بدأ نشاطاً شيعياً، وصدرت له رسالة عام 1938 خلال دعوى قضائية بين ورثة أحدهم من أم علوية وآخرين من أم سنية، أكد فيها أن العلويين شيعة جعفرية اثني عشرية، ووقعت مجموعة من شيوخ العلويين على رسالته.
300 ليرة من المقدم حافظ:
تحوّل عبد الله إلى شخصية محورية في مجتمع العلويين في اللاذقية، فأصدر مجلة اسمها «المرشد العربي»، قام فيها بالدفاع عن الطائفة العلوية، والتأكيد على هويتها الشيعية، وأسس عام 1951 جمعية باسم «الجمعية الجعفرية» التي استمر برئاستها حتى عام 1975، وقد قامت الجمعية بأنشطة، منها تأسيس مسجد الإمام الصادق في حي الرمل الشمالي، الذي تم بناؤه بجمع تبرعات من شخصيات بارزة في تلك الفترة. اللقطة الفذة التي اكتشفها المحرر هي قائمة أسماء المتبرعين (التي تدل على أن الحادثة حصلت عام 1964 أي بعد عام من انقلاب البعث العسكري) والتي تضم اللواء محمد عمران، واللواء صلاح جديد، والمقدم حافظ الأسد (الذي دفع 300 ليرة في ما دفع عمران وجديد 200 ليرة فقط)، والثلاثة من أهم الأسماء التي كانت ضمن «اللجنة العسكرية الثورية» في حزب البعث العربي الاشتراكي، التي كانت مسؤولة عن الانقلاب الأول عام 1963، الذي كان الطريق المؤدي لانقلاب صلاح جديد وحافظ الأسد على محمد عمران، وعلى قادة الحزب المؤسسين عام 1966، ثم انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد عام 1970، وهو الحدث الذي صاغ، عملياً، تاريخ سوريا اللاحق.
حسب أحد من علقوا على القصة، خالد محمد العسيلي، فإن عائلة الداعية ما تزال موجودة، ولا تزال تحوز احتراما ضمن العائلة الحاكمة، وضمن العلويين، مدللاً على ذلك بقصة خلاف بين ابن جميل الأسد وأحد أبناء آل الفضل، أدى إلى ضرب الأخير، فقام جميل الأسد بتطييب خاطر المضروب وزيارة منزل أبيه لتسوية الموضوع.
وزير الدفاع إلى لندن خلال إعدام كوهين:
الحادثة الثالثة؛ التي أشار إليها منصور أيضاً، تخص قضيّة تختلط فيها قضايا التجسس الإسرائيلي مع شبهات تواطؤ مسؤولين سوريين كبار، وهي قضية الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي قُبض عليه في 24 كانون الثاني/ يناير عام 1965، وأعدم في 18 أيار/ مايو من العام نفسه، وحسب وثائق الخارجية البريطانية، فإن الأسد، الذي كان قائداً لسلاح الجو السوري آنذاك، سافر في نيسان/ إبريل، أو مطلع أيار/ مايو- (وليس أواخر صيف 1965 كما ذكر الكاتب البريطاني باتريك سيل في كتابه الشهير عن الأسد-. هدف الزيارة المُعلن هو القيام بفحوصات طبية، وهو ما يعلّق عليه سيل ساخراً: «إن أوجاع الأسد وآلامه ربما كانت من نوع المرض الدبلوماسي، وهو أمر لا يبدو منطقياً، حسب منصور، ويمكن فهمه أكثر إذا تم ربطه بالحملة الأمريكية الأوروبية لإنقاذ كوهين، ومحاولة تقديم محامي كوهين الفرنسي معلومات للرئيس أمين الحافظ «بأن هناك عملية انقلاب تُحضر ضده».
القضاء على الحزب بـ13 سيارة مرسيدس:
الحادثة الرابعة؛ التي انكشفت بعد نشر نعوة وفاة محمد مخلوف، شقيق زوجة حافظ وخال بشار الأسد، إثر وفاته الشهر الماضي (أيلول/ 2020)، وأظهرت أن والدة مخلوف هي سعدة سليمان علي الأسد، وهذا يعني أن حافظ الأسد هو ابن خال زوجته أنيسة، وهو ما يضيف زاوية جديدة للتحقق من مدى مصداقية حكاية الخلاف بين العائلتين على أسس حزبية، باعتبار أن والد أنيسة ينتمي للحزب القومي السوري وأن حافظ كان ينتمي لحزب البعث، كما يثير الشك في المعلومة التي أوردها هاشم عثمان (كما يقول محمد منصور أيضاً) عن توقيف الملازم أول حافظ علي سليمان الأسد في عام 1957 وقام بربطها بذاك الخلاف بين العائلتين.
تدخل «الزيارة الصحية» لحافظ إلى لندن، التي تزامنت مع حدث القبض على كوهين وإعدامه، وكذلك التحذير من الانقلاب الذي حصل بعد قرابة سنة فعلاً من الحادثة، في باب المجاهيل السياسية، التي تحتاج توثيقاً وتحليلاً ضروريين لفهم وتدوين التاريخ السوري الحديث.
من هنا يجب النظر إلى واقعتي الحديث عن «التفوق الدراسي»، و«الخلاف السياسي» مع آل مخلوف، لا كإجراءات ضمن التلفيق الذي جرى لسيرة الأسد والعائلة السورية الحاكمة، بل كذلك ضمن رؤيتهما على خلفية أكبر، تسمح بفهم الشيفرات التي اتبعها الأسد (وصانعو سيرته، بمن فيهم باتريك سيل) للسيطرة على سوريا.
في قراءة النهج الميكيافيلي للأسد في حكم سوريا، وباستخدام هذه الوقائع كإشارات سير، يمكننا استنتاج أن حاكم سوريا السابق قام بتجميع القوى الفاعلة على الأرض: سلاح الجو، وزارة الدفاع، العائلة القريبة، والموسعة (مثل مخلوف وشاليش)، ثم الطائفة العلوية نفسها كخزان للترابط الطائفي والعسكري، إضافة إلى الاستثمار في الرمزي: السياسي والدينيّ، حيث يعتبر استخدام شخصيات من عائلات دينية علوية وازنة، وتسليم أبنائها مناصب أمنية وسياسية، مثالاً يمكن توسيعه لاستخدامه الرأسمال الديني لدى رجال الدين السنة والمسيحيين والدروز، في الوقت نفسه، الذي تمتد شيفرات التشبيك من البعث و«الجبهة الوطنية التقدمية» والسلفيين السنة (الذين استُخدموا في العراق ولبنان)، إلى الأحزاب والميليشيات الشيعية.
الميّزة الكبرى التي عبرت بحافظ الأسد، خلال 7 سنوات، من كونه أحد أعضاء «اللجنة العسكرية “الثورية”» عام 1963 إلى كونه الديكتاتور المُطلق لسوريا، هي أنه كان الأقل تأثراً بالأيديولوجيا والأكثر قدرة على استخدام وتطويع القوى الفعلية والرمزية لصالحه، فخطأ صلاح جديد الذي كان رائداً في التحشيد الطائفيّ لمعاركه داخل الجيش والحزب، مِثله مثل الأسد، أنه اتكل في لحظة الصراع مع الأسد على الأيديولوجيا (حزب البعث)، وهو ما سَخِرَ منه الأسد، حين قال لأحد معارفه أن الحزب سيكلّفه 13 سيارة مرسيدس للمسؤولين فيه، وهو ما حصل فعلاً، لكنه احتاج عدداً أقل من السيارات!
٭ كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»
المصدر: القدس العربي