ماجد كيالي *
لم تكن الهجمة الإسرائيلية على الفلسطينيين في الضفة الغربية، بخاصة في مخيمات اللاجئين فيها، مفاجئة، إذ كانت إسرائيل فعلت ذلك منذ بداية حرب الإبادة التي تشنّها ضد فلسطينيي غزة، منذ 11 شهراً، ولأنها كانت تفعل ذلك، أصلاً، قبل تلك الحرب، ثم لأن حكومة بنيامين نتنياهو تتوخّى بسياستها ترويع الفلسطينيين والهيمنة عليهم، من النهر إلى البحر، بمثال ما تفعله في غزة، تقويض سعيهم لإقامة كيان سياسي مستقل لهم في الضفة والقطاع، والتخفّف ما أمكن من الثقل الديموغرافي الذي يمثله فلسطينيو غزة.
ومثلاً، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي، قتلت في الضفة عام 2022، وهي فترة حكومة نفتالي بينيت- يائير لابيد (زعيما حزبي “يميناه” و”يش عتيد”، وقد تشاركا التناوب على منصب رئاسة الحكومة من حزيران/ يونيو 2021 إلى تشرين الثاني/ نوفمبر 2022)، 171 من الفلسطينيين في عام 2022 (مقابل 53 في غزة وقتها). وفي عام 2023 قتلت 477 منهم، علماً أن قرابة نصفهم (أي حوالي 225 فلسطينياً) قتل قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي (بداية الحرب). أما في العام الحالي فتفيد الإحصائيات الرسمية بقتل 686 فلسطينياً برصاص الاحتلال والمستوطنين، خلال الأشهر العشرة الماضية، مع اعتقال أكثر من عشرة آلاف من فلسطينيي الضفة.
ما يفترض تمييزه هنا هو مشاركة مستوطني الضفة، من المتطرفين القوميين والدينيين، في الهجمات التي تستهدف الفلسطينيين، في أرواحهم وأملاكهم، بعدما تشكلوا كميليشيات رسمية، تحظى بدعم الدولة، ورعاية الوزيرين بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية والوزير في وازرة الدفاع، وزعيم حزب “الصهيونية اليهودية”)، وإيتمار بن غفير (وزير “الأمن القومي”، وهو زعيم حزب “القوة اليهودية”).
الميزة الأخرى في سياسات إسرائيل في الضفة راهناً تتمثل بأن وظيفتها تغيير الواقع السياسي القائم، أو إعادة هندسة وضع فلسطينيي الضفة، من النواحي السياسية والجغرافية والديموغرافية والأمنية، على نحو ما يجري في غزة، وضمن ذلك عن طريق تعزيز الاستيطان في الضفة، وضمنها القدس الشرقية، إلى درجة تحويل تجمعات الفلسطينيين (المدن والبلدات والقرى والمخيمات) إلى معازل منفصلة، لا تواصل بينها، وتفتقد مقومات الحياة الجمعية، وتعيش تحت ضغط حواجز الجيش وقيودها وميليشيات المستوطنين المتفلتين الذين يشكلون مصدر تهديد يومياً للفلسطينيين في أماكن سكناهم وأملاكهم وفي تنقلاتهم على الطرق.
اللافت أن ذلك يشمل، بداية، تقويض بنية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فتلك على رأس سلّم أولويات إسرائيل، وأجهزتها الأمنية، باعتبارها خزان الذاكرة الفلسطينية، والسردية التاريخية الوطنية الجامعة، المؤسسة على النكبة (1948)، وهي تشكل بيئة متمردة على الاحتلال، وجاهزة للمقاومة، بمختلف أشكالها، مع ملاحظة أن معظم المبادرين إلى عمليات الفدائية، في السنوات الماضية، تحدروا من تلك المخيمات، وأن ظاهرة المجموعات العسكرية نشأت في مخيمات جنين وطولكرم ونابلس.
هذا يفسّر تعمّد قوات الاحتلال التركيز في هجماتها في الضفة، وبخاصة في المخيمات، فرض نوع من عقاب جماعي، من خلال استهداف النشطاء، وقصف البيوت والمحال، وتقويض البني التحتية، والقيام بأعمال التجريف، لا سيما في محيط المخيمات وحتى داخلها، لشوارع وحارات بأكملها، وهذا ما حصل في مخيم جنين، ومخيم نور شمس (قرب طولكرم) ومخيم الفارعة (طوباس)، والعروب (قرب الخليل) وحتى في بعض أحياء مدينة نابلس.
يستنتج من ذلك أن إسرائيل تخوض حرب إبادة في جبهة أخرى، هي الضفة (بما فيها القدس)، بما يتماثل، ويتوازى، مع تلك الحرب التي تشنها في حرب غزة، وإن كانت الوتائر في الضفة ما زالت أقل من تلك التي في غزة.
مشكلة الفلسطينيين في الضفة الغربية أنهم، في مواجهتهم الهجمة الإسرائيلية، يفتقدون نوعاً من الإجماع الوطني، على صعيد خياراتهم السياسية والكفاحية، مع وجود سلطة فلسطينية باتت ضعيفة وتفتقد أوراق القوة والشرعية، ولم تهيئ شعبها لمواجهة تحد كهذا، بارتهانها لوضعها كسلطة، وبتعويلها على المفاوضات وعلى الوضع الدولي. كما أن مشكلتهم أنهم، مثل فلسطينيي غزة، مكشوفون، أو وحيدون، في مواجهة إسرائيل، بحكم ضعف الإطارين الدولي والعربي القادرين على كبح جماح إسرائيل في عدوانها الوحشي، وفي ظل دعم أميركي لا محدود لها، وهذه الأوضاع تختلف تماماً عن حال الفلسطينيين في الضفة وغزة إبان الانتفاضتين الكبيرتين (1987ـ 1993 و2000ـ 2004).
المعنى من ذلك أن إسرائيل، في ظل حكومة نتنياهو- سموتريتش- بن غفير، التي تعتبر أكثر حكومة تطرفاً في تاريخ إسرائيل، تستغل الظروف الداخلية والخارجية التي لا تواتي الفلسطينيين، كفرصة سانحة، لإنفاذ برنامجها بشطب الشعب الفلسطيني من المعادلات السياسية، وتحويل إسرائيل إلى دولة لليهود من النهر إلى البحر، وهو ما يعلنه بعض أركان تلك الحكومة، بأن على الفلسطينيين، في تلك الأرض، إما البقاء كأفراد، أو الرحيل، أو الموت.
في الواقع، كان يفترض أن تحفّز الحرب الإسرائيلية الوحشية والمدمرة على غزة، وامتداداتها في الضفة، الفلسطينيين من النهر إلى البحر على الانتفاض، إلا أن ذلك لم يحصل، وبات الأمر يقتصر على مبادرات أفراد أو جماعات معزولة لعمل مسلح، وذلك بسبب ترهل الكيانات السياسية الفلسطينية وتقادمها، وضعف المجتمع المدني، في ظل سلطتي “فتح” و”حماس”، وحال الاختلاف والضياع والإحباط بين الفلسطينيين، وأيضاً بسبب فرض إسرائيل حالة الحرب، التي تتحلل بها من أي معايير في تعاملها مع الفلسطينيين.
يمكن ملاحظة ذلك، أيضاً، ليس مقارنة بالانتفاضتين فقط، بل حتى مقارنة بهبة الفلسطينيين من النهر إلى البحر، إبان الدفاع عن حي الشيخ جراح (2021)، تلك الهبة الواعدة التي قطعها، في حينه، التحول نحو حرب صاروخية، فلا سمح لتلك الهبة بالتطور، ولا أفلحت الصواريخ في ما أريد منها.
أيضاً، ربما أن تعثر الفلسطينيين في إطلاق انتفاضة ثالثة، ناجم عن وعيهم الباطني، أو العميق، الذي يفيد بأن صمودهم في أرضهم، في 48، والقدس، والضفة، هو المرتجى الآن، في ظل هذا الجنون الوحشي الإسرائيلي، وضعف الحماية من الخارج، باعتبار ذلك هو ما يلزمهم لتفويت الاستهدافات الإسرائيلية الخطيرة في هذه المرحلة، وفي ظل المعطيات السائدة.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: النهار العربي