أحمد مظهر سعدو
كتب الدكتور جمال الأتاسي عام 1959 مقاله الأخير في صحيفة (الجماهير) التي كانت تصدر في حقبة دولة الوحدة بين مصر وسوريا، حيث كان يرأس تحريرها. وكان المقال موقفاً صريحاً واحتجاجاً على تغول بعض الأجهزة الأمنية على صحافة دولة الوحدة.
وكان المقال في حينه بعنوان (الصمت موقف)، محاولاً بذلك الاحتجاج وإعلان موقفه المدوي بصمته وتوقفه عن الكتابة. لكن هناك من يقول إن الصمت أيضاً يمكن أن يكون موقفاً آخر ومن زاوية رؤية مختلفة، كما يفعل اليوم بشار الأسد بموقفه الصامت صمتاً تخاذلياً واستراتيجياً، أو كما يُصطلح على تسميته زوراً وبهتاناً من قبل الإيرانيين، (سادة دول محور الممانعة والمقاومة)، ما يسمونه (الصبر الاستراتيجي). ويبدو أن بشار الأسد قد آثر الصمت موقفاً فاقعاً هزيلاً ومتخاذلاً، بل ولإرضاء الأميركيين والإسرائيليين بهذا الموقف العجيب الغريب، وهو ما يزال يصنف نفسه ضمن محور (الممانعة والمقاومة)، لكنه وقت الجد يصمت ويترك شعب قطاع غزة وشعب فلسطين بكليته يلاقي حرب الإبادة الصهيونية الأميركية، ويلتزم الصمت، ويتجاهل كل أصوات الناس في غزة، ويُحجم عن أي فعل جدي لنصرة الشعب الفلسطيني. ثم يخرج علينا رئيس ميليشيا حزب الله في خطابه الأخير معلناً استيعابه وقبوله وتبريره لإحجام نظام بشار الأسد عن المشاركة في الرد المفترض ضد إسرائيل، مبرراً ذلك بأن نظام الأسد مازال منشغلاً في حربه ضد الإرهاب، وهو يعني بذلك بالضرورة أن الانشغال هو في قمع وقتل الشعب السوري.
لكن السؤال الذي ما زال وارداً وحاضراً هو: لماذا صمت بشار الأسد؟ وما هي الأسباب التي جعلت من نظامه غير معني البتة بما يجري بالقرب منه في فلسطين، وبجواره مقتلة بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية على يد الإسرائيليين؟ والواقع يقول: إن هذا الموقف الصامت يعود إلى جملة أسباب عديدة نذكر منها:
- أن هذا النظام السوري، ومنذ أن صعد إلى سدة الحكم مع بداية سبعينيات القرن الفائت، آلى على نفسه أن يستمر في دوره الوظيفي وتحقيق الأمن القومي الإسرائيلي، والحفاظ عليه، وصولاً إلى عملية توقيع اتفاق (فض الاشتباك) عام 1974، الذي قام بتوقيعه حافظ الأسد بعد أن شارك في حربه التحريكية، وصولاً إلى التفاهم مع إسرائيل والحفاظ على أمنها، وأمان وبقاء سلطته كنظام بعد حرب تشرين. ومن ثم فإن الحديث عن حرب، أي حرب، بعد ذلك مع إسرائيل، لم يعد ممكناً بالنسبة إليه ونظامه، ضماناً أكيداً لبقائه في السلطة، وخطفه البلد، وكم الأفواه، ولجم أي تحرك شعبي سوري أو فلسطيني أو حتى لبناني.
- كما أن انضمام نظام بشار الأسد إلى محور (المقاومة) كان وفي تلك الرؤية إنفاذاً للدور الوظيفي الذي يدرك الإيرانيون أنه بات الضمان الأكيد لبقائه، ومن هنا فهم يوافقون جميعاً على استمراره في الحفاظ على أمن إسرائيل التي تضمن لهم بالضرورة بقاءه.
- وليس بعيداً عن ذلك ولا خارج سياقه القول إن من ساهم في عدم انهيار نظام بشار الأسد خلال ثورة الشعب السوري منذ أواسط آذار/ مارس 2011 كانت إسرائيل، حيث سارع نتنياهو إلى الرئيس الأميركي وقتها (باراك أوباما) طالباً منه الإبقاء على نظام بشار الأسد، لأنه الأكثر ثقة وضماناً لحدود إسرائيل، كما قيل وقتها، وكما أعلنته وسائل إعلام إسرائيلية.
- وليس بعيداً أيضاً عن هذه السياقات العودة إلى ما بعد موت حافظ الأسد ومجيء وزيرة الخارجية الأميركية (مادلين أولبرايت) إلى دمشق والتأمين على تنصيب بشار الأسد وريثاً لأبيه، وأيضاً على دوره بعد أبيه الوظيفي، عندما اجتمعت به أولبرايت لأكثر من ساعتين اجتماعاً مغلقاً، حيث (الفطر الذي ينبت في الظلام)، كما كُتب حينها.
- علاوة على ذلك فقد ساهمت أميركا، ومع تغيّر وتعدد إداراتها تباعاً، في القول إنها لا تريد تغيير نظام الأسد، بل تحسين سلوكه ليس إلا. والرئيس الأميركي الأسبق (باراك أوباما) كان قد تراجع عن خطوطه الحمراء التي وضعها وأعلنها لمرات عديدة، ثم قبل بنظام سوري يقتل شعبه بالكيماوي، واكتفى بمصادرة سلاح الكيماوي منه، خوفاً على أمن إسرائيل، فيما لو جرى أي تغيير سياسي في سوريا، أو جاء نظام قد لا يقبل بالدور الوظيفي المنوط ببشار الأسد ونظامه.
- كما أن حرب غزة أثبتت للقاصي والداني أن نظام بشار الأسد سيبقى على موقفه الصامت والسلبي، ولن يكون بالإمكان أن تدخل سوريا من ثم في أي حرب مفتوحة ضد إسرائيل. وأن وحدة الصف كذبة كبرى، ووحدة الساحات كذبة أكبر، وأن كل الاعتداءات الإسرائيلية على الجغرافيا السورية لن تجعل نظام بشار الأسد في حالة حركة نحو أي خطوة تصعيدية تجاه إسرائيل، حتى لو استمرت حرب الطائرات الإسرائيلية والاغتيالات لكبار المسؤولين الإيرانيين على الأرض السورية عشرات السنين.
- وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الإيراني سوف يبقى صامتاً على صمت النظام السوري، وموافقاً على إحجامه عن الرد، وعدم توريطه في أي حرب ضد إسرائيل، قد لا تبقي ولا تذر، وتؤدي إلى انزياحات ما أو كنس نظام دمشق من الواجهة، حيث تدرك إيران أن ذلك قد يعيدها آلاف الكيلومترات إلى الوراء، ويقوض أركان مشروعها الفارسي الطائفي الذي اشتغلت عليه، وتمكنت ميدانياً من إنجاز الكثير على طريقه، بعد أن هيمنت على أربع عواصم عربية هي دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، وتكليف حسن نصر الله والمليشيات الأخرى التابعة لإيران ومحور الممانعة، الذي يشغلها بمناوشات خلبية لا تغني من جوع، عبر أدوات إيران ومليشيات حزب الله اللبناني، والحشد الشعبي العراقي، أو الحوثيين في اليمن.
تأسيساً على ذلك وعلى مسارات نظام بشار الأسد السياسية والأمنية والعسكرية وصمته الدائم على كل ما قامت به إسرائيل، كان وما زال نهجاً دائماً ومستمراً أدى إلى مكافأته والرضا عنه من قبل الرئيس الأميركي (جو بايدن) عندما امتنع عن التوقيع على القانون الأميركي الموافق عليه من مجلس النواب الأميركي، بما يخص منع التطبيع مع النظام السوري، مما أدى إلى مزيد من الهرولة العربية والإقليمية نحو التطبيع مع نظام الأسد، وبقائه متربعاً- بالضرورة- على رمل قصر المهاجرين، ثم العبث في الواقع السوري، وإيصال الوطن والدولة السورية إلى مصاف وكينونة الدولة الفاشلة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا