د.عبد الله تركماني
كان الحزب الشيوعي السوري يركّز في أواسط الخمسينات القسم الأكبر من جهده على علاقاته الخارجية، التي رأى فيها رافعة عمله كله، والعامل المقرر لنمط روابطه ومواقفه مع قوى الداخل السوري. أما مركز هذه العلاقات الخارجية فكان الاتحاد السوفياتي: “الوطن الحقيقي لجميع بروليتاريي وكادحي العالم” وعدو الاستعمار الذي يجب مساعدته وحمايته والقتال إلى جانبه في كل مكان. أما داخل البلاد فكانت سياسة الحزب تقوم على نظرية ستالين حول ثورة تمر بمرحلتين مختلفتين: ثورة ديمقراطية بورجوازية ستقودها البورجوازية، علامات نجاحها التصنيع والعداء للاستعمار والقضاء على الاقطاع أو على نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي. وفي هذه الثورة الأولى كان الحزب يتصور دوره بأنه ديمقراطي وثوري يضاف إلى “الثورة الديمقراطية البورجوازية”، ومُعِدٌّ للطبقة العاملة للثورة الثانية، أي “الثورة الاشتراكية”.
أما فيما يتعلق بالمسألتين القوميتين المركزيتين: الوحدة العربية، والقضية الفلسطينية. فإنّ مواقف الحزب قد تميزت بعدم الثبات، بل أنه في الواقع اتخذ مواقف مضادة للوحدة العربية.
لقد اعتاد الحزب على اعتبار الانقلابات العسكرية التي عرفتها سورية انكليزية إن هي رفعت شعارات التقارب مع العراق، وأمريكية إن هي أخذت بسياسة التفاهم أو التحالف مع مصر. أما في الداخل، فكان يطالب بعودة البلاد إلى الديمقراطية بإسقاط النظام العسكري وإقامة نظام دستوري برلماني، وكانت هذه السياسة تعبيراً عن رؤية الحزب لاحتمالات التطور السياسي والاجتماعي السوري.
وبهذه المعايير لم يكن الحزب قادراً على فهم الثورة المصرية. فلا شك في أنّ الثورة كانت عملاً عسكرياً شبيهاً بما كانت سورية تشهده، لكنها لم تكن انقلاب عسكري. فقد ضربت علاقات الملَكية السائدة، وقضت على النظام السياسي القائم، إضافة إلى ذلك فإنّ الانقلاب الناصري لم يعد قابلاً للتفسير بالعلاقات الاستعمارية السائدة في العالم العربي، فسرعان ما وضع نفسه خارجها وتوجّه إلى الاتحاد السوفياتي، وإلى الصين ويوغسلافيا والهند من أجل إقامة كتلة “عدم الانحياز” التي تعبّر عن استقلالية العالم النامي وتدافع عن مصالحه في وجه محاولات احتوائه من قبل الامبريالية.
وباختصار فإنّ الحزب لم يرَ شيئا اسمه الثورة الديمقراطية القومية، وبقي متمسكا بـ”الثورة الديمقراطية البورجوازية” التي هي من اختصاص البورجوازية الوطنية، بما يفرضه ذلك على الحزب من عدم تشويش قيادتها.
في سياق المعركة الكبرى ضد الأحلاف أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري، على إثر دورتها التي انعقدت في أبريل/ نيسان ومايو/ أيار 1956، عدة قرارات منها “قرار عن قضية الوحدة العربية”، ومما جاء فيه “إنّ طموح البلدان العربية إلى وحدتها ليس وليد ظروف طارئة أو رغبة عاطفية، ولا نتيجة لدعاية فكرية قام بها حزب أو فريق من الناس، بل هو مظهر لحاجة واقعية، ونتيجة لتطور تاريخي موضوعي مستقل عن الرغبات والإرادات. فإنّ الأرض المشتركة، ووحدة اللغة، والتاريخ المشترك، والتكوين النفسي المشترك الذي ينعكس في الثقافة المشتركة، والأوضاع الاقتصادية التي يتمم بعضها بعضاً، كل هذه العوامل الدائمة التي تكونت تاريخياً، والتي تتطور… هي الأسس الواقعية الموضوعية التي تنبثق منها قضية الوحدة العربية”. وهنا يلتصق الأمر الواقع بالواقع، وتغدو العلائم الأربع الستالينية قائمة. إذن هناك أمة عربية، وبالتالي هنالك حاجة إلى تحقيق الوحدة العربية.
وهكذا، فقد كان للصراع الذي فرضته الامبريالية على الأمة العربية عموماً، وعلى مصر وسورية خصوصاً، الدور الحاسم والمسرّع في إقامة الوحدة المصرية- السورية في العام 1958.
لم تَقُمِ الجمهورية العربية المتحدة نتيجة للاتصالات والمفاوضات التي تمت في أوائل عام 1958 فقط، بل تمتد جذورها إلى عام 1956. فمنذ أن تشكلت الوزارة الائتلافية السورية في 14 يونيو/ حزيران 1956 بات موضوع الاتحاد مع مصر قضية أساسية وعامة.
وفي 5 يوليو/ تموز، وبعد إجراء محادثات مع جمال عبدالناصر في القاهرة، أعلن العسلي عن تشكيل لجنة وزارية برئاسة وزير الخارجية صلاح الدين البيطار، مهمتها القيام بمفاوضات مع مصر. وفي اليوم نفسه، أصدر مجلس النواب السوري قراراً ينص على “أنّ مجلس النواب التزاما منه بالفقرة الثالثة من المادة الأولى من الدستور، التي نصت على أنّ الشعب السوري جزء من الأمة العربية، يؤيد قرار الحكومة الذي أعلنه رئيس الوزراء في هذا الاجتماع، ويرجو للحكومة النجاح في اتباع هذا الطريق المقدس الذي يقرّبنا، في المستقبل القريب، من الهدف الذي انتظره الشعب العربي في كافة أقطاره”.
وهكذا تمت عدة زيارات متبادلة بين وفود برلمانية ووزارية مصرية وسورية، ومن أهم تلك الزيارات زيارة وفد مجلس النواب السوري إلى القاهرة في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1957 لحضور جلسة مجلس الأمة المصري، وكان من بين أعضاء الوفد صلاح الدين البيطار وزير الخارجية الذي اجتمع بالرئيس جمال عبدالناصر، ولَمَس منه أنه متحفظ تجاه الوحدة. وكما روى الوزير، كان الرئيس عبدالناصر يخشى قيام انقلاب في الجيش السوري إذا ما قامت الوحدة. وبعد عودة البيطار إلى دمشق تدارس قادة “حزب البعث” انطباعاته عن اجتماعه مع عبدالناصر، وتقرر أن ينشط الحزب في صفوف الضباط لتحريك المطلب الوحدوي.
لقد كانت مفاوضات الوحدة في القاهرة مفاجِئة لقيادة الحزب الشيوعي السوري، التي لم تكن قد وضعت أي مشروع للاتحاد بين سورية ومصر، بل لم تكن قد طرحت القضية كهدف محسوس. فلم يستطع الحزب أن يوفّق بين معالجته للقضـــايا السورية، وفيما فرضته الحياة من ضرورة المعالجة، ليس فقط في الإطار السوري بل في الإطار العربي الأوسع ، وهنا يكمن سر تغيير المواقف: من الدعوة للاتحاد بدل الوحدة قبيل قيام الجمهورية العربية المتحدة، إلى الموافقة على استفتاء الوحدة بعد الوحدة مباشرة، إلى النقاط الثلاث عشرة التي هي خطوة إلى الوراء بالقياس لما تحقق، إلى إعلان شعار “إعادة النظر بأسس الوحدة”، إلى شعار “إعادة النظر بالوحدة من الأساس”، إلى مباركة الانفصال. وهكذا فقد تميز موقف الحزب الشيوعي السوري بعدم الثبات، إذ انتقل خلال هذه الفترة بين عدة مواقف:
(1)ـ تأييد الحزب للاتحاد بين مصر وسورية:
بينما كانت قيادة الجيش السوري في القاهرة، عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعا خلال الأيام 11 و12 و13 يناير/ كانون الثاني 1958، وصدر عن الاجتماع قرار بتأييد الاتحاد بين سورية ومصر، وبدأ بالقول “إنّ الوحدة هي نتيجة تطور موضوعي”، ثم استعرض مراحل نضال الشعبين السوري والمصري، وأكد أنّ المحتوى الرئيسي للقومية العربية هو محتوى تقدمي ديمقراطي” لقد أصبح واضحاً اليوم، على النطاق العالمي، أنّ المحتوى الرئيسي للقومية العربية هو محتوى تقدمي ديمقراطي. فهي ترمي إلى التحرر من كل استعمار واحتلال، وإلى تحقيق الاستقلال الوطني، وعدم الدخول في أي حلف أو كتلة عسكرية، وبناء اقتصاد قومي مستقل على أساس السير قُدماً في طريق التصنيع والإصلاح الزراعي ورفع المستوى المعاشي والثقافي للجماهير الشعبية العربية، وخلق الظروف للسير نحو وحدة عربية شاملة”.
كما أكد القرار أنّ الاتحاد يؤلف قوة في وجه التوسعية الإسرائيلية “إنّ الاتحاد بين مصر وسورية يعبّر عن أماني ثمانين مليون عربي من الخليج إلى المحيط، وأنه يؤلف قوة كبرى للوقوف بوجه إسرائيل وأحلامها التوسعية”. كما أبرز القرار دور الاتحاد في تطوير اقتصاد كل من البلدين “… ومن البديهي أنّ الاتحاد يمكن ويجب أن يزيد إمكانيات البلدين لاستثمار ثرواتهما الطبيعية، لأنّ هذا هو الطريق الوحيد الصحيح لتطورهما الاقتصادي المستقل، ولنمو صناعتهما وزراعتهما”.
ثم عرض القرار مشروع اللجنة المركزية للحزب بإقامة اتحاد فيدرالي بين البلدين، ومما جاء فيه “إنّ الاتحاد بين البلدين سيكون من شأنه أن يرفع مكانة كل من الجمهوريتين العربيتين المتحررتين في العالم، ويوطد كيانهما، ويزيد وزنهما في الحياة الدولية لمصلحة القضايا العربية وقضية السلام العالمي”.
(2)ـ تراجع الحزب عن مشروع الاتحاد الفيدرالي وتأييده للوحدة:
كان للبيان الذي صدر عن الاجتماع المشترك بين الطرفين السوري والمصري في 2 فبراير/ شباط 1958 دور في دفع قيادة الحزب الشيوعي السوري إلى التراجع عن مشروعها للاتحاد الفيدرالي، وتأييد الوحدة. وكانت صحيفة الحزب قد مهدت لمثل هذا الموقف إذ ورد فيها “… ونحن لا نعلم بعد ما هو، على وجه الدقة، شكل الوحدة ومحتواها، بين سورية ومصر، ولا ما هي أسسها، وما سيكون دستورها. ولكن مهما كان الشكل الذي ستعلن فيه الدولة العربية المتحدة الجديدة، وسواء كان اتحاد فيدرالياً أو وحدة، فليس في سورية مَنْ يتصور أنّ هذا الاتحاد، مهما يكن شكله، يمكن أن يؤدي إلى غير توطيد السياسة الوطنية العربية التحررية، أو أن يعيد سورية إلى الوراء، سواء في سياستها الخارجية أم في حياتها الديمقراطية … وليس هناك وطني واحد إلا ويؤمن إيماناً تاماً بأنّ وحدة البلدين، مهما يكن شكلها، يجب أن تؤدي إلى تعزيز أواصر الصداقة مع بلدان المعسكر الاشتراكي” (افتتاحية صحيفة “النور”- 27 يناير/ كانون الثاني 1958).
وبعدما أُعلن القرار بإقامة الوحدة الكاملة بين البلدين، أدلى خالد بكداش الأمين العام للحزب بتصريح قال فيه “… صحيح أنه حين طُرحت مؤخراً قضية الوحدة بين سورية ومصر، كان لنا رأي في شكل الوحدة، وهو لا يمس جوهر الوحدة وصميمها … وقد أوضحنا هذا الرأي بصراحة للمسؤولين ولأركان التجمع القومي، كما نشرناه في جريدة (النور)، وليس سبيلنا الآن الدخول في تفاصيل هذه المرحلة وتبادل الــــــرأي… فنحن الشيوعيين في سورية، كنا قبل قيام الدولة العربية المتحدة مؤيدين للخطوط الكبرى الأساسية في سياسة الحكومة السورية وفي سياسة الحكومة المصرية. فما الذي تغير؟ أليس من الطبيعي أن يؤيد الشيوعيون استمرار هذه السياسة في الدولة العربية الموحدة الجديدة؟ بل نحن نأمل أن يؤدي التفاعل السياسي في الدولة العربية الموحدة بخطوة إلى الأمام في السياسة التحررية. إنّ ما كنا نعمل له ونناضل في سبيله من قبل، سنعمل له ونناضل من أجله في ظل الدولة العربية الموحدة، ولن تكون لنا سياسة أخرى”.
إلا أنّ ‘خالد’ امتنع عن حضور جلسة مجلس النواب في 5 فبرايـــر/ شباط 1958، التي أُعلنـت فيها الوحدة، وخرج من سورية، ولم يأخذ أعضاء اللجنة المركزية للحزب علماً بذلك إلا في اللحظات الأخيرة قبل مغادرته دمشق، حيث أخبر فرج الله الحلو ونقولا شاوي، وطلب منهما أن يخبرا اللجنة المركزية بأن حياته كانت معرّضة للخطر.
مع العلم بأنّ اللجنة المركزية، كما ذكر لنا عضو اللجنة أحمد محفل، كانت قد اتخذت قراراً يتضمن ضرورة تأييد قيام الجمهورية العربية المتحدة، وضرورة حضور ‘خالد’ لجلسة مجلس النواب، التي سيُعلن فيها عن قيام الجمهورية العربية المتحدة، كما اتُفق في الاجتماع على ما يجب على ‘بكداش’ أن يؤكده أثناء موافقته، بحيث يؤكد على مسألة الديمقراطية خصوصا.
وأكدت مقالات صحيفة “النور” على رغبة الحزب في توطيد دعائم الجمهورية العربية المتحدة، إذ ورد فيها “… وإذا كانت هناك سابقاً آراء في شكل الوحدة، وإذا كان هناك الآن أيضاً ملاحظات فيما يتعلق بقضية الديمقراطية، فإنّ ذلك ليس صادراً إلا عن الرغبة المخلصة الصادقة في توطيد دعائم الجمهورية العربية المتحدة … كما أنّ ذلك لا يمكن أن يمنع بأي حال توحيد القوى الوطنية للدفاع عن استقلال الجمهورية المتحدة وعن سياستها الوطنية التحررية وعن كيانها وبقائها”.
وقبيل إجراء الاستفتاء الشعبي على قيام الوحدة ورئاسة جمال عبدالناصر لها، أصدرت بعض اللجان المنطقية للحزب بيانات دعت فيها إلى الاشتراك في الاستفتاء، وتأييد قيام الجمهورية العربية المتحدة وانتخاب عبدالناصر رئيساً لها. ففي 20 فبراير/ شباط 1958 خصصت صحيفة الحزب مقالها الافتتاحي لتأييد الاستفتاء، إذ جاء فيها “… بعد يومين يجري استفتاء على قيام الجمهورية العربية المتحدة وعلى انتخاب جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية، وذلك لكي تستكمل المرحلة الجديدة جميع ترتيباتها … إنّ جماهير المواطنين الواعين الذين يدركون مدى الأخطار الاستعمارية المُحدقة بالبلاد، سيجعلون من إقبالهم على الاقتراع بالموافقة على قيام الجمهورية وعلى رئاسة جمال عبدالناصر، مظاهرة وطنية عربية تُنزل الرعب بقلوب المستعمرين وعملائهم، وتُبيّن للعالم أجمع أننا يد واحدة وقلب واحد في حماية استقلال جمهوريتنا وسيادتها … ولن نسمح للمستعمرين أن يرفعوا يدهم على الجمهورية العربية”.
وقبيل يوم الاستفتاء كانت افتتاحية “النور” تحت عنوان “جبهة واحدة ضد الاستعمار والسيطرة الأجنبية”، ومما جاء فيها “… وبعد أربع وعشرين ساعة نُثبت للدنيا كلها أننا بالرغم من اختلافنا في بعض المسائل الداخلية، وبالرغم من انتمائنا إلى مدارس فكرية مختلفة، نضع وطننا فوق كل اعتبار … فلننسَ خصوماتنا، ولنعملْ جميعاً يداً واحدة وقلباً واحداً من أجل تحرير هذا الوطن العربي كله من مراكش إلى بغداد”.
وفي يوم الاستفتاء كانت افتتاحية “النور” تحت عنوان “عاشت الجمهورية العربية المتحدة”، ومما جاء فيه “إنّ جميع المؤمنين بالوحدة العربية، وجميع أعداء الاستعمار على اختلاف أحزابهم واتجاهاتهم وأفكارهم، ومهما كان بينهم من خلاف حول هذه القضية الداخلية أو تلك حين يذهبون اليوم إلى صناديق الاقتراع للتصويت على قيام الجمهورية العربية المتحدة وعلى إيلاء الرئيس عبدالناصر رئاسة الجمهورية إنما يُبدون عزمهم الراسخ على توطيد الجمهورية العربية الفتية، وصونها، وجعلها قوة عربية ودولية كبرى تساهم في صون السلم العالمي، وتؤدي قسطها في تصفية الاستعمار وتحرير سائر الشعوب العربية من السيطرة الأجنبية، وتفتح أمامها الطريق للانضواء تحت راية الوحدة العربية الشاملة المتحررة”.
وعندما زار جمال عبدالناصر سورية، عقدت “النور” مقالاً افتتاحيا تحت عنوان “مرحبا بالرئيس عبدالناصر في دمشق العربية الباسلة”، ومما جاء فيه “زحفت دمشق لتستقبل جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، زحفت لتحــيّ رجل القومية العربية الذي سجّل في تاريخه القصير نسبياً في الحكم انتصارات وطنية كبرى، زعزعت مواقع الاستعمار في كل الشرق الأوسط، وساهمت في فتح الطريق للعمل على تصفيته تصفية نهائية من هذه البقعة في العالم … والجماهير ترى في عبدالناصر أول مسؤول عربي حطّم الطوق الاستعماري المفروض على تسلّح البلدان العربية المتحررة … وقد سدّد عبدالناصر ضربة قاسية إلى مواقع الرأسمال الاحتكاري الاستعماري في الشرق الأوسط يوم أعلن تأميم شركة قناة السويس … وتعبيراً عن إرادة مصر وجميع العرب حمل عبدالناصر، رئيس جمهوريتنا المتحدة، اليوم لواء النضال ضد الأحلاف الاستعمارية … وتجاوباً مع إرادة الشعب، كان عبدالناصر أول المسؤولين العرب الذين اكتشفوا، بثاقب نظرهم وبوحي وطنيتهم وعدائهم للاستعمار، أهمية الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي”.
وعبّر كاتب المقال عن استعداد الجماهير للنضال من أجل حماية الجمهورية الفتيـة، إذ كتب “لقد زحفت الجماهير لتعبّر لرئيس جمهوريتنا لا عن حبها وتقديرها فقط، بل لتعلن التفافها المتين حول الجمهورية العربية المتحدة واستعدادها لكل نضال ولكل تضحية ولكل مشقة في سبيل حمايتها وصيانتها”.
وعلّقت “النور” على خطاب الرئيس عبدالناصر بدمشق في مقال حماسي تحت عنوان “قنبلة”، ومما جاء فيه “… ولقد شعرتُ وأنا أراه يضع أصبعه في عيون عملاء الدولار والاستعمار ببغداد وعمّان، ويسميهم بأسمائهم الشوهاء، ويترك لشعوبهم أن تحاسبهم على ما اقترفوا من إثم وشرٍّ وخيانة، إنني أشاهد عملاقاً من نسج الأساطيــر، يفتح الأقفاص لأسوده المفترسة ليلقي إليها بطعام يومها المفضّل، فلا عجب أن نسمع في وقت قريب زئير الرجال في البلدان الشقيقة حول وليمة لن يبقى فيها من زمان الاستعباد والاستبداد سوى الفتات …”.
وهكذا نلاحظ أنّ الحزب الشيوعي السوري كان، خلال مرحلة تأسيس الجمهورية العربية المتحدة، من المدافعين عن الوحدة وتوطيد دعائم الجمهورية الفتية، كما كان من الذين رأوا أنها قوة عربية كبرى تساهم في تصفية الاستعمار وفي صون السلم العالمي، ولكنّ هذا الموقف الحماسي لم يستمر طويلاً، ويعود ذلك لأسباب عديدة منها:
(أ)ـ أنّ الحزب انجرف إلى تيار الوحدة دون أن تكون ثمة مقدمات لذلك في جوهر استراتيجيته، التي بقيت محصورة في الفهم القديم لحركة التحرر القومي، ذلك الفهم الذي يعتبر المسألة القومية، بما فيها الوحدة العربية، هي شأن البورجوازية التي تبحث عن توحيد السوق القومية !!
(ب)ـ سيادة عقلية عبادة الفرد، بحيث أنّ خالد بكداش كان يقرّر موقف الحزب دون العودة إلى اللجنة المركزية، وفي بعض الأحيان ضد إرادة أكثرية أعضائها.
(ج)ـ مظاهر العداء للديمقراطية والشيوعية التي كان يبديها بعض قادة الجمهورية العربية المتحدة بين حين وآخر.
(د)ـ أنّ الاتحاد السوفياتي لم يكن قد رأى- بعد- الأهمية الكبيرة لحركة التحرر القومي العربية.
(3)ـ انتقال الحزب إلى مواقع التشكيك بأسس الوحدة:
في 5 مارس/ آذار 1958 أُعلن الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة، وشُكّلت أول حكومة للجمهورية الناشئة، ورافق ذلك أخطاء سياسية مضرّة بمستقبل الوحدة، ففي 12 مارس/ آذار صدر قرار بحل الأحزاب السياسية وتشكيل فرع سوري لـ”الاتحاد القومي” (التنظيم السياسي الوحيد في مصر)، وأخذ الحذر يتسرب إلى صفوف الحزب الشيوعي السوري، إذ رأى في الدعوات لخلق “التماثل” بين إقليمي الجمهورية عاملاً لكبح التطور الديمقراطي الذي كان يجري في سورية آنذاك، وتحوّل هذا الحذر إلى “مخاوف جدية حين اتخذت في الإقليم السوري بعض التدابير المُتسرعة دون أخذ الظروف الموضوعية في الإقليم بعين الاعتبار، كوقف نشاط الأحزاب السياسية الوطنية والتقدمية وبعض التدابير الاقتصادية”.
وهكذا تحوّل تخوّف الحزب إلى تشكيك بالجمهورية العربية المتحدة، فلقد استغل خالد بكداش الاجتماع الفكري والنظري “الكولوكيوم” الذي انعقد في “براغ” /تشيكوسلوفاكيا خلال أوائل شهر يونيو/ حزيران 1958، ليبدأ حملة التشكيك هذه، ومما قاله “إنّ في مصر وسورية اتجاه إلى الإصلاح الزراعي وإنّ الأمريكيين يؤيدون هذا الاتجاه الذي هو لصالح المُزارعين الأغنياء، وإنّ نجاحه في ظل البورجوازية سيكون فاجعة أليمة لأنه سيؤدي إلى إبعاد الفلاحين عن حليفتهم الطبيعية الطبقة العاملة”.
ولم تمضِ سوى أيام على إزاحة الجيش العراقي الحكم الملكي في 14 يوليو/ تموز 1958، حتى بدأ الحزب الشيوعي السوري في انتقاد الأسس التي قامت عليها الوحدة بين سورية ومصر. وبدأت تجري مقارنات بين وضعي الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية، فلم يعد عبدالناصر “عملاقاً من صنع الأساطير”، بل أصبح مرة أخرى “عميلاً أمريكياً”، ولم يعد الحكم حكماً وطنياً تحررياً بل أصبح “أداة للرأسمالية المصرية الكبرى التوسعية”. إذ تحدثت أدبيات الحزب في أواخر عام 1958 كثيراً عن خطر كبار الاحتكاريين المصريين على السوق السورية: “الصناعة السورية مهددة بالخراب، والمعامل مهددة بإغلاق أبوابها، وزراعة القطن تضيق مساحتها، وزراعة الأرز ألغيت تقريبا، والأسعار في تقلّب دائم، يضاف إلى ذلك سوء الموسم وموت قطعان الماشية، وشح الحبوب، ونقص السمن. وهذا الوضع مقصود ومُتعمّد، املته مصالح بنك مصر وكبار الاحتكاريين المصريين الذين أخذوا يسيطرون- شيئاً فشيئاً- على السوق السورية”.
واستمر موقف التشكيك في نظام الجمهورية العربية المتحدة بالرغم من صدور قانوني تنظيم العلاقات الزراعية في 4 سبتمبر/ أيلول 1958، والإصلاح الزراعي في 27 سبتمبر/ أيلول 1958. وكان لهذا القانون أثر إيجابي في معالجة المشكلة الزراعية في سورية، فلأول مرة تجري قوننة العلاقات الزراعية، ويتدخل القانون والسلطة لحماية حقوق الأطراف المتعاقدة في قطاع الزراعة.
لم يرَ الحزب الشيوعي السوري الأهمية التاريخية لقانوني تنظيم العلاقات الزراعية والإصلاح الزراعي، بل رأى خطرهما على الحركة الديمقراطية في سورية !! فلقد كتب خالد بكداش مقالاً واسعاً حول الإصلاح الزراعي في سورية، ومما قاله في ذلك “… فأمام الشعوب التي انتزعت تحررها مهمات جديدة كبرى متداخلة متشابكة فيما بينها هي: توطيد الاستقلال السياسي، وانتهاج سياسة خارجية وطنية وسلمية، والسير إلى الأمام في طريق الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، وبناء اقتصاد وطني على أساس تصنيع البلاد ومكننة الزراعة، وحل القضية الزراعية حلاً ديمقراطياً، وتصفية بقايا الاقطاعية”. ثم بيّن وجهة نظره فيما أدى إليه تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في الجمهورية العربية المتحدة، ومما قاله في ذلك:
(أ)ـ أدى الاصلاح الزراعي إلى الحد من الملكية الإقطاعية، كما أدى، خصوصاً في مصر، إلى إضعاف نفوذ الإقطاعيين السياسي نوعاً ما…
(ب)ـ إنّ البورجوازية السائدة لم تقتصر فقط على عدم تصفية طبقة الاقطاعيين، بل هي حافظت عليها، إذ أنها ترى فيها حليفاً لها في النضال ضد الحل الديمقراطي للقضية الزراعية، وضد الحركة الديمقراطية في البلاد بوجه عام.
(ج)ـ إنّ الطبقة التي استفادت وربحت هي، بصورة رئيسية، الطبقة التي أعلنت الإصلاح الزراعي، أي البورجوازية المصرية الكبرى.
(د)ـ إنّ أقل من ناله ربح وفائدة هو جماهير الفلاحين التي باسمها، كما زعموا، جرى الإصلاح… فقضية الأرض بقيت دون حلٍّ… ولن تجني بعض الفوائد إلا البورجوازية الريفية…
(هـ)ـ لقد استُغل الإصلاح الزراعي، كذلك، للنضال ضد القوى الديمقراطية. أما في سورية فإنّ الإصلاح الزراعي يُستخدم أيضا كأداة للتوسع الاقتصادي والسياسي للبورجوازية المصرية. ولهذا السبب نرى أنّ تنازلات حكومة القاهرة للإقطاعيين السوريين هي تنازلات هامة بوجه خاص.
وخلص بكداش إلى القول بـ”إنّ تجربة الجمهورية العربية المتحدة تبيّن بوضوح أنه ليس صحيحاً أنّ أي إصلاح زراعي في البلدان المتحررة حديثاً، ما دام يحدُّ من امتيازات كبار الملاكين، ويحدُّ ولو قليلاً من الملكية الاقطاعية، فهو لابدَّ وأن يلعب تلقائياً، ومهما كانت الظروف والأحوال، دوراً إيجابياً في تقدم الديمقراطية وفي النضال ضد الاستعمار والرجعية السياسية. إنّ التجربة تبيّن بأنه عندما يقوى دور الجناح اليميني من البورجوازية الوطنية في قيادة شؤون البلاد، تتحول تدابير الإصلاح الزراعي عندئذٍ إلى أداة للتضليل الاجتماعي الجامح، ولاضطهاد الجماهير بفظاظة وقساوة، وخنق الحركة الديمقراطية”.
ولأنّ عقلية عبادة الفرد هي التي كانت سائدة آنذاك في الحزب الشيوعي السوري، فقد أنزلت قيادة الحزب في أواخر سنة 1958 رسالة داخلية إلى الأعضاء ضمنتها البنود الثلاثة عشر التي اقترحها بكداش لإعادة النظر في أسس الجمهورية العربية المتحدة، وأبرز هذه النقاط:
- تنظيم العلاقات بين إقليمَي الجمهورية مع حسبان الحساب للظروف المتكوّنة تاريخياً في كل قطر.
- عودة الأحزاب السياسية إلى النشاط العلني وحرية إصدار الصحف.
- إنشاء برلمان في سورية عن طريق انتخابات ديمقراطية، وإقامة حكومة سورية إلى جانب الحكومة المركزية التي تشرف على شؤون الدفاع الوطني والسياسية الخارجية وسائر الشؤون المشتركة.
- حماية الاقتصاد السوري من تغلغل الرأسمال الأجنبي والمزاحمة المصرية.
لكنّ سياسة الحزب الفعلية لم تكن على أساس النقاط الثلاث عشرة، وإنما على أساس الدعوة للانفصال، فقد ذكر قيادي بارز في الحزب أنه “في الحياة لا تتم الوحدات حسب الشروط والطلبات والأمزجة، وإنما تتم من خلال الصراع والنضال الطبقي بين القوى التقدمية وبين الاستعمار والصهيونية، ولا يجوز وضع شروط مسبقة، وإنما ينبغي النضال كي تكون الوحدة أو الاتحاد ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية… ومن خلال الخطأ والصواب يجري تحسين التجربة الوحدوية، ويتم تجاوز النقص والسير بخطى أفضل نحو وحدة أفضل… لقد تمت الوحدة السورية- المصرية فأيدناها شكلاً، وحاربناها فعلاً، كنا نفتش عن المثالب والنواقص لنشرها وإعلانها، كنا ننبش الصحافة المصرية ونستمع إلى الإذاعات والأخبار كي نُذيع النواقص وننشرها في الصحافة وبين الجماهير“. وذكر قيادي آخر “إنّ لقضية الشروط في حزبنا قصة طويلة تتسم بطابع الحُجج التي ترفض إقامة أية وحدة“.
لقد تجاهل خالد بكداش، عندما وضع هذه النقاط، الطبيعة الديناميكية والثورية للوحدة، وقفز فوق كل المعطيات الإيجابية التي كانت تتضمنها الجمهورية العربية المتحدة، وتحوّلت الشروط من ضمانات إلى عقبات، ومن أسباب نجاح ونمو للوحدة إلى أعذار وحجج ضدها. كما أنها أصبحت تضمر انفصالية جديدة، وغطاء مموها لتآمر القوى الرجعية ضد الوحدة.
وبعدما نشر الحزب البنود الثلاثة عشر علناً، انتقد جمال عبدالناصر الحزب في خطاب له يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول 1958، وأُغلقت صحيفة “النور”، وتعرّض الشيوعيون في سورية ومصر لحملة اعتقالات واسعة، وفي 25 يونيو/ حزيران 1959 اعتقلت الشرطة في دمشق فرج الله الحلو الذي استشهد تحت التعذيب في اليوم الثــاني.
ومن الجدير بالذكر أنّ الحزبين الشيوعيين اللبناني والسوري قد انتقدا، فيما بعد، موقفهما من الجمهورية العربية المتحدة، بشكل عام، ومن التدابير الاقتصادية التقدمية التي اتخذتها بشكل خاص. فقد ذكر خالد بكداش نفسه في تقريره الذي قدمه إلى المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري، الذي انعقد في أوائل يونيو/ حزيران 1969، في مجال تعداده للأسباب التي حالت في أن يكون الحزب أقوى وأمتن “تبنّي الحزب بعض مواقف فكرية وسياسية غير صحيحة خلال فترة من الوقت، كموقفه من التأميم أيام الوحدة وفي مرحلة الانفصال”. كما أنّ الموقف من قضية الوحدة كان أحد الأسباب في الخلافات التي نشأت في الحزب الشيوعي السوري، والتي أدت إلى إعلان الانقسام في سنة 1973.
المصدر: موقع مصير