الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هذه ليست مباراة في الملاكمة!

بكر صدقي *

والحال أن كلاً من إيران وحزبه الله في لبنان يناوشان إسرائيل المتوحشة كما لو كانا في مباراة رياضية، يحرصان فيها على تسجيل نقاط بدلاً من الإجهاز عليها بالضربة القاضية كما واظبا على الادعاء بقدرتهما على ذلك. فهي، في تصريحات قادتهما «أوهى من بيت العنكبوت» وتتراوح المدة اللازمة لإزالتها من الوجود بين بضع ساعات وبضعة أيام. كان ذلك في أزمنة أقل احتداماً، أما الآن، منذ السابع من تشرين الأول الماضي، فهما حريصان بالقدر نفسه على التوكيد بأنهما لا يريدان توسيع الحرب إلى حرب إقليمية في الوقت نفسه الذي تسعى فيه إسرائيل بكل أفعالها لتوسيع تلك الحرب وجر كل من واشنطن وطهران إليها.

إيران وحزب الله في لبنان كلاهما أكثر عقلانية، في الأفعال، من نتنياهو، لكنهما أعلى صوتا في الإعلام، وهذه لا مفر منها إزاء ميزان القوى المختل في الصراع الدائر لصالح إسرائيل بما لا يدع مجالاً للجدال. كانت أحداث يوم الأحد الماضي بليغة في إعادة كشف هذه الحقيقة. فبدلاً من الرد الذي توعد به حسن نصرالله إسرائيل على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر قبل أسبوعين، استبقت إسرائيل بغارات جوية مكثفة على جنوب لبنان، ليليه «الرد المنتظر على قدم واحدة» (!) من غير أي أضرار تلحق بإسرائيل. لكن نصر الله حرص على أنه حقق نقطة في المباراة، إضافة إلى حرصه أكثر على تأكيد أن الرد على اغتيال شكر قد تم! في رسالة إلى واشنطن بأنه ملتزم بأصول اللعبة كما هو متفق عليه.

ثمة مباريات في الملاكمة (وفي ألعاب رياضية أخرى) يتفق بشأن نتيجتها سلفاً بين الجانبين، لتحقيق مكاسب مالية ضخمة بواسطة المراهنات، وعادةً ما يتم دفع مبلغ مغر للاعب المقررة خسارته، في الوقت الذي تكون أكثر المراهنات عليه بسبب سجله السابق والتوقعات بأرجحية فوزه. فتأتي النتيجة «المفاجئة» فيكسب الصندوق ويخسر المراهنون. على رغم أن هذا الغش فيه أرباح ضخمة غير مستحقة، لكنه لا يؤدي عادةً إلى خسائر في الأرواح. وذلك بخلاف الصراع الدائر عبر الإقليم الذي يكلف لبنان مئات القتلى وتشريد مئات الألوف من بيوتهم، هذا إن لم نحسب أعداد القتلى في قطاع غزة الذي تجاوز الأربعين ألفاً إلى الآن، من غير أن تؤثر حرب «الإسناد» المفترضة التي يقوم بها حزب الله على شهية القاتل الإسرائيلي المفتوحة للدم.

وتقوم الدبلوماسية الخلفية النشطة التي تقودها واشنطن، كلما تجاوزت إسرائيل قواعد الاشتباك مع كل من الحزب وظهيره الإيراني، بالتوفيق بين الجانبين لضبط حدود الرد. ويلتزم كل من الحزب وإيران بتلك الحدود لأنهما لا يريدان الانجرار إلى حرب واسعة كما يريد لهما نتنياهو. الاختلاف بين هذا الغش والغش في مباريات الملاكمة هو أن الطرف الأقوى في الحالة الثانية هو الذي يُخسِّر نفسه طوعاً، في حين أن إسرائيل الأقوى في الحالة الأولى لا تقبل حتى بتلقي رد منضبط وفقاً للاتفاق المسبق، بل تعود فترد على الرد الإيراني كما حدث في شهر نيسان الماضي، أو تستبق رد حزب الله كما حدث يوم الأحد الماضي! ومع ذلك يواصل الطرف الأضعف، إيران وحزب الله، التزامهما بالاتفاق غير المعلن، مع مواصلة التكرار في وسائل الإعلام بأنهما سجلا نقطة!

الواقع أن محور المقاومة والممانعة لا يستطيع التوقف عن إيهام جمهوره مهما تكررت خسائره أمام إسرائيل وظهيرها الأمريكي، فتسجيل النقاط هو ما يستمد منه شرعيته المفقودة، ليس فقط في لبنان، بل كذلك في الداخل الإيراني نفسه. فنظام إيران يهرب من استحقاقاته الداخلية في مواجهة المعارضة الاجتماعية النشطة، بتسجيل النقاط على خصومه الإقليميين، ليعوض هشاشة شرعيته بعضلات «إمبراطورية» خارج الحدود. ولا مفر أمامه من مواجهة المنافس الإسرائيلي المستقوي بدعم أمريكي غير محدود على محيطه الإقليمي الذي تنظر إليه طهران باعتباره مجالها الحيوي.

حزب الله بدوره، إضافة إلى دوره في المشروع الإمبريالي الإيراني، لا يمكنه تجنب الصدام مع إسرائيل لتبرير بقائه شوكة في عين الدولة اللبنانية المستضعفة، وفي عين القسم الرافض لهيمنته من المجتمع اللبناني. وإذا كان صراع تسجيل النقاط بين الحزب وإيران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ميسوراً في أزمنة سابقة، فقد أصبح، منذ غزوة السابع من تشرين الأول، مكلفاً جداً على صورة محور المقاومة وقيادته الإيرانية. فنتنياهو بدوره يهرب من الاستحقاقات الداخلية إلى مزيد من الهمجية في غزة والضفة الغربية، مع فارق أن إسرائيل هي القبضاي المدلل المدجج بالسلاح والمستثنى من المحاسبة، بخلاف إيران وأتباعها الإقليميين المحاصرين بالعقوبات والتضييق والتهديد الدائم.

هناك كثير من الأصوات المعبرة عن عدم التعويل على القضاء الدولي أو الرأي العام في الغرب، وأنه لا سبيل لمواجهة العدوانية الإسرائيلية إلا بالمقاومة المسلحة. لكن شيئاً من الموضوعية ومواجهة الواقع بلا إنكار سيقول لنا أن أثر المحاكمة الجارية بحق إسرائيل في كل من محكمة العدل ومحكمة الجنايات الدوليتين، وكذلك مفعول الحراك الاجتماعي الغاضب ضد جرائم إسرائيل في دول الغرب، لهما أكثر تأثيراً على إسرائيل من كل النقاط التي يزعم محور المقاومة تسجيلها مقابل الكلفة الباهظة التي يدفعها الفلسطينيون واللبنانيون.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.