أرنست خوري *
منذ حوّلت حرب 1967 العلاقات الأميركية- الإسرائيلية إلى تحالف مطلق في عهد الرئيس ليندون جونسون، بعدما كان يشوبها التنافر وتضارب المصالح خلال عهدي هاري ترومان ودوايت أيزنهاور، لم يسبق أن وصلت لما بلغته اليوم من وضع غير منطقي يهدّد المصالح الأميركية. والحال أن الخلل في هذه العلاقات صار، أكثر من أي وقت مضى، عاملاً مزعزعاً لاستقرارٍ داخل الولايات المتحدة نفسها في علاقات الأميركيين السياسية أفراداً وأحزاباً. تحضُر ملاحظات سريعة عن تهديد هذا النسق من الدلع الذي أرساه جو بايدن منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لمصالح أميركا: قبل 30 و31 يوليو/ تموز الماضي، كانت إدارة بايدن تريد إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزّة أملاً بكسب أصوات شديدة الأهمية لمناهضي العدوان من الأميركيين في الولايات المتأرجحة يوم الانتخابات، الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، كان بايدن سيخسرها على الأرجح لو بقي مرشحاً للرئاسة. حلّت كامالا هاريس مكانه وبدت مواقف مناهضي الحرب أقلّ سلبية تجاهها، فجاء الاغتيال المزدوج لفؤاد شكر وإسماعيل هنية بمثابة نقل للهمّ الأميركي من المستوى المحلي الخاص بحسابات الانتخابات إلى طابق أعلى، ذلك أن الاغتياليْن، في الاعتبارات الأميركية، يهدّدان باندلاع حرب إقليمية سترفع أسعار النفط إلى 200 دولار للبرميل، وهذا ليس أقلّ من كارثة للاقتصاد الأميركي تتحمل مسؤوليته، في حسابات الانتخابات، الإدارة الديمقراطية الحالية، ومن أركانها المرشحة كامالا هاريس. حرب إقليمية ستكلف أميركا مليارات الدولارات، وستفاقم كره أميركا في المنطقة في مقابل توسيع نفوذ روسيا والصين وشعبيتهما، وقد تطيح في طريقها أنظمة عربية حليفة لأميركا، وقد تصيب بمقتل ذلك الحلم الأميركي بإنشاء تحالف إسرائيلي ــ عربي تقوده السعودية، يطفئ أزمات الشرق الأوسط لكي تتفرّغ الإدارة الأميركية للصين في شرق آسيا وجنوبها.
في الحساب الأميركي الاستراتيجي، التحالف العربي (السعودي خصوصاً)- الإسرائيلي لا إقامة دولة فلسطينية حقيقية هو الكفيل بإحلال سلام الشرق الأوسط. من هنا يبدأ الشك في قدرة صناع القرار الأميركيين على التمييز بين الرغبة والواقع، وبين الحقيقة والوهم. هنا أيضاً يبدأ تسلّل قناعة تفيد بأنّ خللاً فادحاً في المنطق السياسي يسيّر القرارات الأميركية الخاصة بإسرائيل على الأقل منذ السابع من أكتوبر، الأدهى فيه أنه يعمل ضد المصالح الأميركية. وبقليل من مسايرة النظريات المؤامراتية، لاقتنع أحدُهم بأن عميلاً إسرائيلياً خرق الإدارة الأميركية ويقف خلف هذا العمى الأميركي.
غداة اغتيال شكر وهنية، اتصل بايدن ببنيامين نتنياهو ودارت مناقشة يقول الإعلام الأميركي إنها كانت كالعادة صاخبة وغاضبة من الرئيس الأميركي خصوصاً، إلى أن وصل الأمر به إلى مطالبة نتنياهو بـ”التوقّف عن استهباله”. ومصطلح الاستهبال هنا هو أقصى ما يمكن الاحتيال من خلاله باللغة العربية لمحاولة توضيح ما قصده بايدن بعبارة stop bulshitting me، وهي تعني أكثر بكثير من الاستهبال، إلى درجة يصعُب أن يُنشر المعنى الحرفي في صحيفة “رصينة”. بايدن يطالب نتنياهو بالتوقّف عن استهباله بينما هو يستهبل نفسه عندما يدعم حرب الإبادة بشكل مطلق بما يهدّد مصالح أميركا نفسها. يستهبل نفسه عندما يقول إنه يريد أن يضغط على تل أبيب لتوقف حربها، ويرسل في الآن نفسه كل الترسانة الحربية الأميركية إلى الشرق الأوسط لتحميها. يستهبل نفسه عندما يجهل حقيقة أن تزويد إسرائيل قبل أيام بأسلحة قيمتها 20 مليار دولار، دعوة صريحة إلى مزيد من الحروب الإسرائيلية. يستهبل نفسه عندما يرفض فرض عقوبات جدية على المستوطنين ووزرائهم وعلى فرقهم العسكرية داخل الجيش الإسرائيلي. يستهبل نفسه عندما لا يدرك، بكل تجربته وخبرته والمعلومات التي في حوزته، أن فرض أميركا إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية، وتحويل إسرائيل إلى دولة عادية، لا دولة استثناء، هو الوحيد الذي ربما، وفقط ربما، يحمي المصالح الأميركية.
* كاتب لبناني ومدير تحرير صحيفة “العربي الجديد”
المصدر: العربي الجديد