د. مدى الفاتح *
عادت الأزمة الأوكرانية مرة أخرى إلى الواجهة، خلال الأسبوعين الماضيين. ففي السادس من الشهر الجاري تم الإعلان عن توغل الأوكرانيين داخل منطقة كورسك الروسية، التي تقابل إقليم سومي في الشمال الشرقي لأوكرانيا.
كان ذلك تطوراً خطيراً وله دلالات متعددة. فمن ناحية كان يشير لاستعداد أوكرانيا لنقل الحرب، التي كانت على أرضها، إلى الأرض الروسية، كما كان ذلك يشير من ناحية أخرى إلى حجم الإسناد، الذي وجدته كييف من قبل حلفائها الغربيين ومن حلف الناتو. على سبيل المثال، إلى جانب أسلحة نوعية مختلفة حصلت أوكرانيا مؤخراً على أربع طائرات «إف 16» من ضمن اتفاق يقضي بتسليمها 80 طائرة. هذه الأسلحة والطائرات، التي يتم تدريب طيارين عليها حالياً في عدة بلدان أطلسية على رأسها فرنسا، شكلت إضافة نوعية للجيش وللمقاتلات الأوكرانية.
في هذا الإطار، فإنه يصعب تصديق التصريحات حول كون العملية، التي أعلن أنها تهدف لخلق منطقة عازلة، تمت دون تشاور مع الأمريكيين، الذين يمثلون الحليف الأقوى، إلى جانب المجموعة الأوروبية.
اعتمدت عملية كورسك على عنصر المباغتة واستغلال انشغال الروس بالتوغل وبالتفكير في كيفية تأمين مناطق أخرى في الجنوب. هذه النقطة الحدودية بالذات لم يجر تأمينها بشكلٍ كاف، واعتمدت على مجموعة من صغار المجندين وحرس الحدود. هذا ما استنتجه المراقبون، الذين تابعوا تقدم القوات الأوكرانية، دون عقبات، ما اعتبر بمثابة ضعف للاستخبارات العسكرية، التي ركزت قوتها على الجبهات الساخنة ولم تنتبه لعمليات التقدم.
يمكن قراءة العملية الأوكرانية باعتبارها وسيلة للفت الانتباه لقدرة كييف على المواجهة والانتصار وعلى كسر هيبة الخصوم، لكن بالإمكان أيضاً قراءتها في إطار نظرية أن خير وسيلة للدفاع الهجوم، التي تبنى على أنه لابد من إظهار القوة، حتى وإن كانت الأطراف لا ترغب في توسيع رقعة الحرب. يمكن أن يتأكد هذا من خلال معرفة الغرض من هذا التوغل المفاجئ. فمن المستبعد أن يكون هدف الأوكرانيين، الذين دخل منهم آلاف المسلحين بالفعل، هو الاحتلال النهائي للأرض الروسية. هذا لا يتناقض مع تصريح المستشار الرئاسي الأوكراني “ميخايلو بودولياك”، الذي قال بالتزامن مع الحدث إن الحرب هي الحرب، وإن لها قواعدها، وإن على المعتدي أن يدفع الثمن، وهو نفس المعنى الذي كرره الرئيس فلوديمير زيلينسكي، الذي اعتبر أن صناعة السلام لا تأتي إلا بالقوة وبالضغط على المعتدي.
مع كل هذا يظل غرض تلك العملية، المستمرة حتى اليوم، والتي نجحت في إسقاط سودجا، إحدى أهم مدن الإقليم، غير واضح. المتحدثون العسكريون والقنوات الرسمية الأوكرانية، التي كانت تعلق بشكل متصل على التطورات اليومية آثرت الصمت في البداية، تاركة المجال للمحللين، الذين اتفقوا على أن غرض العملية ربما انحصر في جذب انتباه الروس، وحملهم على التراجع عن ساحات القتال الساخنة الأخرى، مثل جبهة دونباس، التي تمدد فيها الروس لدرجة الاقتراب من مدينة كراماتورسك الاستراتيجية. التراجع الروسي عن التقدم في تلك الجبهات كان سيمنح الأوكرانيين فرصة التقاط الأنفاس.
كان لهذه العملية أثر كبير على الداخل الروسي. ومما يشار إليه هنا أن روسيا لم تتعرض لمثل هذا الاعتداء منذ أيام الحروب العالمية الثانية، إذ كان أدولف هتلر هو آخر من تجرأ على محاولة الوصول إلى موسكو. للمفارقة، فقد كانت كورسك آنذاك أيضاً ساحة لمواجهات عسكرية مهمة. أما اليوم فإن أكثر ما كان يخشاه المواطنون، الذين كانوا يعيشون في أمان، وتنحصر معاناتهم في الجانب الاقتصادي، هو أن تنتقل الحرب إلى داخل حدودهم، وأن يروا البيوت المهدمة وطوابير اللاجئين والنازحين، وهو ما حدث بالفعل مع التوغل الأوكراني، ليتحقق كابوس كان كثيرون يحذرون منه.
على الصعيد العالمي جاءت الأحداث في وقت يستعد فيه بايدن، الذي تتهم إدارته بالوقوف خلف هذه العملية، لمغادرة البيت الأبيض، كما تتزامن مع صعود اسم كامالا هاريس، التي لا تبدو متحمسة للمسألة الأوكرانية، باعتبارها مرشحة قوية ضد دونالد ترامب، الذي لا يؤيد هو الآخر تطاول الحرب.
هنا أجدني لا أتفق مع التحليلات، التي تظهر الأمريكيين بمظهر مشدود الأطراف ما بين مطالبات زيلنسكي المتكررة بالتدخل المباشر، من أجل حسم الحرب لصالح بلاده، وما بين ضغوط نتنياهو ومخططاته، التي تحرج الأمريكيين وتجبرهم على مواصلة تقديم دعمهم لمخططه الهادف لتوسيع رقعة الحرب.
الولايات المتحدة برأيي قادرة على وقف أي تحرك، ترى أنه لا يوافق هواها، ومثلما يتأكد اليوم أنها شريكة في كل العمليات الإسرائيلية، على الرغم من التصريحات العلنية، الداعية إلى وقف إطلاق النار وإلى احترام حقوق الإنسان، فإن من المؤكد أنها قدمت العون العسكري والاستخباري للأوكرانيين، بما يساعد على إنجاح مهمة كورسك. الأمر لم يقتصر على هذا، فقد تواترت التصريحات الأمريكية والأوروبية المساندة، والتي تعتبر أن كل إجراءات كييف بشأن الدفاع عن نفسها شرعية.
على طريقة نتنياهو، نجح زيلينسكي في الربط بين مصلحته الذاتية ومصالح الغربيين، من خلال تفسير الحرب على أساس كونها اعتداء على الديمقراطية والقيم الغربية. هذه القراءة، التي يكررها في كل محفل معتبراً أوكرانيا جزءاً من المنظومة المهددة من قبل الاستبداد، كان الهدف منها ابتزاز العواصم الأطلسية، وإجبارها على الوقوف مع قضيته ودعمه، وهو ما تحقق له بشكل كبير عبر التضامن الواسع، خاصة من قبل عواصم مثل باريس، التي قدمت له منحاً بمبالغ كبيرة، ودربت من جيشه ما يزيد عن العشرة آلاف عسكري، إضافة إلى أشكال أخرى من الدعم المعنوي والرمزي، مثل منع روسيا من المشاركة في الأولمبياد على سبيل المثال.
محاولة الربط هذه يمكن أن تقرأ أيضاً من خلال ملاحقة أوكرانيا لروسيا في مناطق نفوذها الإفريقية، ففي هذه الاستراتيجية خدمة لمصالح أوكرانيا الباحثة عن أصدقاء جدد، لكن فيها في الوقت ذاته خدمة لمصالح الحلفاء، وخاصة فرنسا، التي اضطرت للخروج من أغلب مستعمراتها السابقة، في الوقت، الذي كانت تتابع فيه التمدد الروسي، الذي لم يتأخر في ملء الفراغ.
من الفوائد، التي حصلت عليها القيادة العسكرية الأوكرانية، نتيجة لهذه العملية، تجديد الثقة فيها وفي قدرتها على الانتصار. سوف يكون كل هذا مفيداً خارجياً، إذ سيشجع الحلفاء على تقديم مزيد من الدعم العسكري واللوجستي، كما سيكون مفيداً على المستوى الداخلي، من خلال رفع الروح المعنوية للمواطنين الأوكرانيين، الذين كانت قد خيمت عليهم حالة من الإحباط واليأس، لدرجة مطالبة البعض بوقف الحرب، وإن كان الثمن هو التنازل عن الأقاليم، التي تطالب بها روسيا.
رفع الروح المعنوية للمواطنين والجنود هو النتيجة الأهم، لكنها تظل نتيجة مؤقتة، ومرهونة بسير المعارك، فأي عملية مضادة أو مساع للاحتواء من قبل الجانب الروسي سوف تصيب الجميع بالانتكاس، وتعيد الناس لحالة الإحباط.
المتحمسون للعملية يرون أن بإمكانها أن تقلب موازين المعركة، وأن تنهي الحرب، وتغير معادلاتها، عبر الوصول إلى خطة انسحاب متبادل. هذه النظرة غير واقعية، إذ لا يمكن مقارنة الهجوم الخاطف على منطقة حدودية بضم الروس لمنطقة القرم مثلاً، بل إن الخبراء العسكريين يشككون في قدرة القوات الأوكرانية، التي كلفها هذا الاجتياح الكثير من الأرواح والعتاد بالفعل، على البقاء داخل الأراضي الروسية لفترة طويلة.
* كاتب سوداني
المصدر: القدس العربي