الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لماذا الصناعة الدفاعية في أمريكا معزولة لهذا الحد عن اقتصادها؟

ياسمين عبداللطيف زرد *

في نيسان/ أبريل 2022، أعربت نائبة وزير الدفاع، كاثلين هيكس، عن قلقها إزاء «التراجع الكبير» في المنافسة داخل الصناعة الدفاعية في الولايات المتحدة، كما وجدت دراسة أجرتها وزارة الدفاع في شباط/ فبراير 2022 انكماش عدد المقاولين الرئيسيين في مجال الدفاع من 51 إلى أقل من عشرة! علاوة على ذلك، أصبحت العديد من قطاعات سوق الدفاع خاضعة لسيطرة شركات ذات طابع احتكاري أو شبه احتكاري.

وفي حين أن نائبة وزير الدفاع تعمل في إدارة بايدن الديمقراطية، إلا أن مخاوفها غير حزبية، فقد صرح أيضا الرئيس السابق، دونالد ترامب، في عام 2019 بأن شركات الدفاع الأمريكية «اندمجت جميعها، لذا فمن الصعب التفاوض.. إنها بالفعل غير تنافسية».

الإفراط في دمج الصناعات الدفاعية وعدم كفاية المنافسة يشكلان تحديين حقيقيين لوزارة الدفاع، لكن هناك مشكلة أخرى يتم تجاهلها ولا يتم دراستها بشكل كافٍ وهي عزل القاعدة الصناعية الدفاعية عن الاقتصاد التجاري الأوسع للولايات المتحدة. لماذا مشكلة؟ لأن هذا الانعزال يحد من الاستثمار الرأسمالي في التكنولوجيا المرتبطة بالدفاع، كما يحد من قدرة وزارة الدفاع على الوصول إلى التكنولوجيا التجارية الناشئة، وأخيراً يترك لشركات الدفاع التقليدية نفوذاً هائلاً في مواجهة عملائها الحكوميين.

  • •  •

لا داعي للقول أن الولايات المتحدة في عصر جديد من المنافسة الجيوسياسية والتكنولوجية. ومع ذلك، فإن قاعدتها الصناعية الدفاعية مختلفة تمامًا عن تلك التي ساعدت في الفوز بالحرب الباردة، عندما كانت الشركات التجارية رائدة في كل من الأسواق الدفاعية وغير الدفاعية على حد سواء.

لكن أدت التخفيضات الكبرى في ميزانيات الدفاع بعد نهاية الحرب الباردة إلى قيام الشركات الأمريكية التي كانت علامات تجارية بارزة في كل من الأسواق التجارية والدفاعية ببيع أقسام الدفاع الخاصة بها، بينما قامت الشركات التي اختارت البقاء في قطاع الدفاع بتوحيد برامجها وعملياتها.

على سبيل المثال، كانت شركة (فورد موتور Ford Motor  Company) العملاقة لصناعة السيارات تمتلك شركة تابعة، وهي شركة (فورد إيروسبيس Ford Aerospace)، التي كانت تصنع الصواريخ والأقمار الصناعية. باعت فورد شركتها التابعة في عام 1990 وخرجت من سوق الدفاع. ثم اشترت شركة (لورال كوربوريشن Loral Corporation)، وهي شركة طيران ودفاع، أعمال فورد الدفاعية، والتي باعت بدورها عملياتها الدفاعية لاحقاً لشركة (لوكهيد مارتن Lockheed Martin) في عام 1996.

عمليات الدمج والبيع هذه تمت بدعم صريح من قادة الأمن القومي الأمريكي، ومع تفكك الاتحاد السوفييتي، شعر قادة وزارة الدفاع بالقلق من أن ميزانيات الدفاع المتراجعة لن تكون قادرة على دعم اتساع وتعميق الصناعة الدفاعية التي كانت قد توسعت بالفعل خلال ثمانينيات القرن العشرين.

ومع ذلك، عمليات الدمج والبيع استمرت حتى بعد عودة نمو الإنفاق الدفاعي. ففي العقد الذى أعقب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، زاد الإنفاق الدفاعي بنسبة 50%، وخلال هذه الفترة، استمرت الشركات التجارية الرائدة في التخلص من فروعها الدفاعية. مثلاً، شركة (كوداك Kodak)، اسم الشركة المشهورة طوال القرن العشرين بأفلامها وكاميراتها، قامت ببناء المعدات البصرية عالية الأداء التي تُشكل جوهر أقمار التجسس الأمريكية، ثم باعت أعمالها في مجال الأمن القومي في عام 2004 لشركة (آي. تي. تي ITT)، التي قامت بدورها بفصل أعمالها الدفاعية ككيان مستقل في عام 2011.

  • •  •

الشركات المتخصصة في الدفاع قد لا تعرف الكثير عن القطاعات التجارية، ولكنها تعرف الكثير عن فن البيع للحكومة. وفي الحقيقة، الخبرة اللازمة للمشاركة في التعاقدات الحكومية معقدة ومكلفة للغاية في التطوير والصيانة، وتتجنبها العديد من الشركات التجارية تماماً.

إذ يعد الالتزام الحكومي الأمريكي في التعاقدات هو خندق واسع وعميق ومليء بأسماك القرش يتنافس خلفه المتخصصون في الدفاع ضد بعضهم البعض (غالباً ما يشير الخبراء الماليون إلى «الخندق» باعتباره ديناميكية تعمل على ردع الوافدين الجدد إلى سوق معينة). إذن، ديناميكية «الخندق» تفسر سبب هيمنة الشركات المتخصصة على سوق الدفاع، حتى في القطاعات التي يشتري فيها العملاء السلع والخدمات، مثل خدمات التنظيف ولوازم المكاتب.

ومع ذلك، بعض الموردين الرئيسيين لوزارة الدفاع الأمريكية يشاركون في الطيران التجاري كمجال قريب من الدفاع. تعد (بوينج Boeing)، و(تيكسترون Textron)، و«(جي دي GD) التي تمتلك شركة تصنيع الطائرات النفاثة التجارية جلفستريم»، من اللاعبين الرئيسيين في كل من الطيران الدفاعي والتجاري.

إن التعاون الفني بين الطيران التجاري والعسكري مفهوم، لكن الحاجة إلى إدارة العلاقات المعقدة مع الهيئات الحكومية الأمريكية تؤثر أيضاً على العديد من شركات الطيران التجاري لخدمة الأسواق الحكومية.

باختصار، تم ردع العديد من الشركات التجارية عن خدمة وزارة الدفاع الأمريكية بسبب عبء التزام الحكومة في التعاقد، بل تم ردعها أيضاً بسبب المكاسب المالية المحدودة، فعلى الرغم من أن عقود الدفاع قد تكون ضخمة من حيث القيمة الدولارية والإيرادات المرتبطة بها، إلا أنها تنطوي عادةً على هوامش ربح أقل بكثير من العديد من المجالات الأخرى. مثلاً، في عام 2023، حققت شركة لوكهيد مارتن، التي تعتمد أعمالها بشكل كبير على الحكومة الأمريكية، هوامش تشغيلية بلغت حوالى 10.9 %. على النقيض من ذلك، حققت شركة آبل المصنعة لهواتف آيفون في عام 2023 هوامش ربح تجاوزت 44 %. وتعتبر القيود المفروضة على ربحية المقاولين الدفاعيين منطقية، بالنظر إلى أن الحكومة تتحمل معظم مخاطر الاستثمار في تكنولوجيا الدفاع.

  • •  •

بطبيعة الحال، مع توجه وزارة الدفاع الأمريكية نحو القدرات في مجالات مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، فإنها تحاول جذب مزيج من الشركات الناشئة والشركات التجارية الراسخة.

وفي السنوات الأخيرة، أطلقت وزارة الدفاع مجموعة من المبادرات لإغراء الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا التجارية لدخول سوق الأمن القومي. وهناك أدلة على أن هذه التحركات بدأت تجتذب مجموعة أوسع من الموردين، وتمثلت هذه التحركات في آليات تعاقد جديدة تنطوي على عقبات بيروقراطية أقل، وممارسات استحواذ تؤكد على السرعة على حساب إتمام العملية.

نفهم من ذلك أن قادة وزارة الدفاع يدركون أن التكنولوجيات التي قد تقرر الحروب المستقبلية- الذكاء الاصطناعي، التعلم الآلي، وشبكات الجيل الخامس- يجري تطويرها بشكل أساسي بين الشركات التجارية. لكن الابتكار الذي يحاول البنتاجون الآن تعزيزه يتعارض مع أولوية مضادة لسياسة وزارة الدفاع وهي حماية أموال دافعي الضرائب. فإغراء الشركات التجارية لخوض غمار سوق الدفاع قد يعني تخفيف بعض الممارسات المقصود منها حماية الحكومة الأمريكية، مثل التنازل عن السيطرة على الملكية الفكرية والسماح بهامش ربح أعلى. والسؤال الآن هو ما إذا كان الشعور بالإلحاح من جانب وزارة الدفاع والكونجرس كافياً للتفكير في تغييرات وتنازلات مثل هذه.

……………………..

بتصرف من النص الأصلي على (CSIS)   Center for Strategic & International Studies

ــــــــــــــــــــــ

* كاتبة ومترجمة مصرية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.