عبد الباسط سيدا *
القاسم المشترك بين الأزمات والصراعات السائدة في منطقتنا في العقدَين الأخيرَين، في لبنان والعراق وليبيا وسورية واليمن والسودان على وجه التخصيص، أنّها تبدو مسدودةَ الآفاق، نتيجة غياب العامل الوطني الداخلي القادر على حسم الأمور بإمكانياته الذاتية، وبالتعاون، بناءً على شروطه وعلى تقاطع المصالح مع القوى الإقليمية والدولية، الراغبة فعلاً في مساعدة شعوب هذه البلدان، وتمكينها لتصبح قوىً شريكةً مُؤثّرةً مُنتجةً في عملية ضمان الأمن، وتحقيق الاستقرار في الإقليم، وتغدو قوىً تفاعليةً قادرةً في عملية التنمية التي تظلّ الطريقَ الأمثلَ لتجاوز الأزمات التي تعاني منها دول المنطقة، لا سيّما على صعيد الشباب والنساء والأجيال المُقبلة.
غير أنّ غياب العامل الوطني المطلوب الضروري للقيام بمهام التغيير ليس وحده المسؤول عن أزمات الدول المعنية، وإنّما غياب الاهتمام الإقليمي والدولي بمعالجة تلك الأزمات أيضاً له دوره، بل مساهمة قوى إقليمية ودولية عديدة في استمرارية تلك الأزمات وتعميقها وتعقيدها، ربّما انتظاراً لتهيئة الظروف والشروط بغية الوصول إلى اللحظة الحاسمة التي تكون فيها شعوب المنطقة قد وصلت عندها إلى اليأس المطلوب، وأصبحت مُستعدَّةً لتقبّل أيّ حلّ أو مخطَّط يُنقذها من الفوضى الكارثية التي تعاني منها في مختلف المستويات.
ففي سورية ما زالت السلطة الأسدية تعلن انتصاراتها رغم تسبّبها في تهجير أكثر من نصف الشعب، وقتل نحو مليون سوري، إلى جانب مئات الآلاف من المُغيَّبين والمُعتقَلين والمُعاقين والمُصابين. هذا إلى جانب أرقامٍ مُفزعةٍ بشأن الذين يعانون من الأمراض النفسية بمختلف أسمائها. وفي المقابل، ما زالت المُعارَضة الرسمية، الهلامية الهشَّة تُعلن تمسّكها بأهداف الثورة السورية، وهي من الأكثر بُعداً عن تلك الأهداف، وهذه هي المُعارَضة التي تسبّبت في اختزال القضية السورية في لجنة دستورية، بات وجودها وعدم وجودها سيّان، تدعو، بمناسبة ومن دون مناسبة، إلى الالتزام بقرار مجلس الأمن 2254 (أكّد أن الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية)، بوصفه القرار الذي يُحدّد إطار الحلّ الواقعي الممكن للقضية السورية، وهو القرار الذي بات يُذكّرنا بالقرار 242 (يطالب إسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي التي احتلّتها عام 1967)، أو بالقرار الخاص بحلّ الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أيّ مُجرَّد قرار ورقي لا قيمة له في ظلّ عدم وجود قوىً فاعلةٍ إقليمياً ودولياً تسعى وفق خريطة طريق واضحة، وبسقف زمني مُحدَّد، يتم الالتزام به من أجل تطبيق القرار والوصول إلى الحلّ. هذا في حين أنّه على صعيد الواقعي تتم عملية إعادة تدوير السلطة الأسدية عربياً وإقليمياً ودولياً؛ ولم تعد محنة الشعب السوري سوى مادَّةً للشفقة، تُستخدم لتسجيل المواقف الاستهلاكية غير الملزمة.
وفي لبنان، لا توحي الأوضاع القائمة بأيّ إمكانية لاستعادة الدولة اللبنانية سيادتها، التي كانت، في ما مضى، رغم كلّ المثالب التي اتّسمت بها الدولة المعنية منذ بداية نشوئها، وهي المثالب التي أدَّت إلى انفجارات مجتمعية قوية من حين إلى آخر، كان منها الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، وهي التي أتاحت الفرصة لحافظ الأسد لإرسال قوات سورية إلى البلد، والسيطرة على مفاصل الحكم والمجتمع فيه، وذلك كلّه لم يكن بعيداً عن تفاهمات مع الغرب، ومع إسرائيل نفسها، وإن بصورة غير مباشرة.
واليوم، يهيمن حزب الله، بالتعاون مع النظام الإيراني، على لبنان، ويتحكّم فيه، ويفرض عليه قرارات الحرب والسلم، ويتدخّل في كلّ شاردة وواردة في الأمور السيادية، وذلك كلّه أمام مسمع حكومة عاجزة مشلولة وبصرها، وشُغورٍ في موقع الرئاسة. ولم يكن في مقدور الحزب المذكور فعل ذلك كلّه لو ارتقت القوى السياسية اللبنانية التقليدية إلى مستوى التحدّيات، وتجاوزت الحسابات الطائفية والأسرية والشخصية، لصالح الروابط الوطنية التي من شأنها إشعار اللبنانيين بأنّهم يعيشون في كيان سياسي يمتلك قابليةَ التحوّل دولةً وطنيةً قادرةً على احتضان ورعاية الجميع.
والطامّة الكبرى في الأزمة اللبنانية، كما هو الحال في الأزمات الأخرى التي تعاني منها الدول العربية الأخرى، أنّها قد باتت مُزمِنة، تُكيّف معها العالم، ولم تعد القوى الدولية الفاعلة المُتحكّمة بالمنطقة تبدي أيّ استعدادٍ جِدّي لمعالجة هذه الأزمة معالجةً جذريةً سببيةً حقيقيةً، وذلك بعدما أثبتت المعالجات العَرَضية الآنية الإعلامية فشلها، وعجزها عن الوصول إلى المطلوب.
أمّا الأزمة العراقية في صيغتها الجديدة، التي بدأت مع سقوط نظام صدّام حُسين قبل نحو عقدَين، فهي مستمرّة وتتمثّل في الخلافات البينية بين ممثّلي المكوّنات المجتمعية، وضمن كلّ مكوّن بين ممثّلي القوى السياسية التي اعتادت الاستقواءَ بالقوى الإقليمية والدولية من أجل تعزيز المواقع في مواجهة القوى العراقية الأخرى. وهذه الخلافات كلّها، بل الصراعات، تجري في مناخ عامٍّ يسوده الفسادُ الأسطوري الذي يبدّد مواردَ العراق، ويجعل الحكومات في موضع غير القادر على تأمين المُستلزمات المعيشية الأساسية، ومنها المياه النظيفة، والكهرباء، والرعاية الصحّية، والمستوى التعليمي اللائق؛ هذا إلى جانب الإخفاق في تأمين فرص العمل لمئات الآلاف من الشباب العراقي، خصوصاً بين خرّيجي الجامعات ممن يبحثون عن العمل.
وكما هو الحال في لبنان، يتحكّم النظام الإيراني في مفاصل الحكم والمجتمع العراقيَين، ويُهدّد المُخالفين، ويُغدق العطايا والوعودَ الورديةَ والنعمةَ المشروطةَ على الدائرين في فلكه، المُتلزمين بتعليماته وأوامره. ومثلما هو الوضع بالنسبة إلى الأزمتين اللبنانية والسورية، لا توجد مُعطياتٌ ملموسةٌ مبشّرةٌ بإمكانية معالجة الأزمة العراقية عبر استعادة السيادة العراقية، والتوافق الوطني لصالح سائر العراقيين من دون أيّ تمييز أو استثناء.
ويتقاطع الوضع في اليمن، في أوجه كثيرة منه، مع ما هو عليه الحال في العراق، حيث يُؤدّي الحوثي وأتباعه دوراً وظيفياً لصالح النظام الإيراني. وذلك من جهة تهديد دول الخليج من ناحية، ولا سيّما السعودية. كما برز هذا الدور أخيراً من خلال الأزمات الإقليمية، التي تفاقمت نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزّة، من خلال تهديد حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، عبر التحكّم بمضيق باب المندب، وقصف البواخر، بحجّة مساندة أهل غزّة ضدّ العدوان الإسرائيلي. وهناك معطياتٌ توحي بإمكانية انضمام بعص الأطراف السودانية إلى هذا الجهد، الأمر الذي يعني حرفياً تحكّم النظام الإيراني بهذا الممرّ الدولي المهم، وستكون لهذا الأمر انعكاساتٌ سلبيةٌ كُبرى على واقع التجارة العالمية، وسيُؤثّر على وجه التحديد في مصالح الدول المتشاركة في حوض البحر الأحمر. ويُشار هنا على وجه التحديد إلى كلّ من السعودية ومصر. والأزمة اليمنية تبدو هي الأخرى عديمةَ الآفاق، مستحيلةَ الحلّ إذا ما استمرّت المُعالجات غير المُجدية المُستخدمة حالياً مستقبلاً.
أمّا الأزمة الليبية، فهي الأخرى مُزمِنة، بفعل تضافر جهود جملة عوامل، في مُقدّمتها توافق اللاعبين المحلّيين والإقليميين والدوليين على استمرارية الفوضى في غياب الدولة لتقاسم الغنائم، بغضّ النظر عن الشعارات التي يرفعونها في المناسبات المختلفة، على استنزاف موارد البلاد الاقتصادية الهائلة، وتحوّل البلاد ساحاتِ نفوذٍ وتحكّم، بل تحويلها ورقةً تفاوضيةً تُستخدم في البازارت الخاصّة بأدوار (ومصالح) الدول الإقليمية، ومنها مصر وتركيا على سبيل المثال، وبالتوافق مع القوى الدولية المُؤثّرة، لا سيّما الدول الغربية منها، وفي مُقدّمتها الولايات المتّحدة. هذا بالإضافة إلى روسيا الباحثة عن المياه الدافئة في المتوسّط.
أمّا السودان فهو الآخر يعيش اليوم حرباً طاحنةً بين أقطاب المؤسّسة العسكرية (الجيش وقوات الدعم السريع) على السلطة والثروة، وما كان لهذه الحرب أن تستمرّ لولا الدعم الخارجي لطرفَي الصراع في هذه الحرب، وهي حربٌ تُنذر بتحوّل السودان، بموارده الطبيعية والبشرية وبثرواته الاستراتيجية، ساحاتِ نفوذٍ، ومستودعاً على صعيد الثروات والبشر، لصالح القوى الدولية والإقليمية، ومن هذه القوى إيران ومصر، وبعض الدول الخليجية، إلى جانب روسيا وحتّى الصين، بالإضافة إلى بعض الدول الغربية.
وللموضوع الفلسطيني خصوصيته، ويحتاج تناوله بعمق جهداً أكبر، ومساحةً أوسعَ لتناوله من مختلف جوانبه، وهو الأمر الذي قمنا به مراراً، وسنتابع ذلك مستقبلاً.
ستؤدّي هذه الأزمات المُستعصية، في حال استمرارها، إلى أحدِ أمرين، أن تتحوّل الدول المعنية مُجرَّد ساحاتٍ تهيمن عليها قوى الأمر الواقع بمساعدة القوى الإقليمية والدولية، وتتعرّض الموارد والثروات للنهب والسلب، في حين يتحوّل سكّانها خزّاناً بشرياً لدعم المليشيات وقوّات المُرتزقة في مناطق مختلفة. أو أنّ المنطقة بأسرها في انتظار توافقاتٍ دوليةٍ جديدة، تأخذ بالاعتبار المُتغيّرات التي كانت خلال السنوات المنصرمة، لتجري عملية إعادة نظر في الحدود والكيانات، وذلك بما يتوافق مع حسابات القوى المعنية، لا سيّما إسرائيل، التي تأخذ بالاعتبار واقعَ تزايد عدد الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي، وفي الضفّة وقطاع غزّة، وفي الجوار الإقليمي، حيث مخيّمات اللجوء التي تشكّلت بعد النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948. وتتحسّب، في الوقت ذاته، لواقع التمدّد الإيراني في دول المنطقة ومجتمعاتها، وتوجّهه نحو الممرّات المائية الحيوية فيها.
أما البديل الوطني الجامع المُتماسك الغائب حالياً، فهو الذي يظلّ، في جميع الأحوال، مخرجَ النجاة الآمن، ولكن هذا البديل لن يتحقّق من دون وجودِ مجموعةٍ رياديةٍ مُستعِدَّةٍ للتخلّي عن أنانياتها ونرجسيتها وجشعها، لتعمل بحزم وتفانٍ من أجل جمع الشمل، وإتاحة الفرصة أمام الشعوب لتُعبّر عن آرائها ومواقفها بخصوص مستقبلها، ومستقبل أجيالها المُقبلة بكلّ وضوح وحرّية.
* كاتب أكاديمي وسياسي سوري
المصدر: العربي الجديد