عاطف معتمد *
انتقلت رحلة الدعوة إلى الإسلام في روسيا عبر فضاءات جغرافية متباينة: من العراق إلى إيران، فأواسط آسيا، فبلاد بولجار الفولجا أو أرض الصقالبة، إلى الأراضي الروسية، فأراضي مملكة الخزر. ثمة من يضيف إلى ذلك حلقة بين الأراضي الروسية ومملكة الخزر، وصل فيها ابن فضلان إلى شبه جزيرة أسكندنافيا على مشارف القطب الشمالي.
من فارس إلى أواسط آسيا:
في مستهل الرحلة يعفينا ابن فضلان من التفاصيل؛ فلا يُسطر في فارس سوى خط سير الرحلة؛ فيُعرفنا في عدة سطور بالمدن الإيرانية التي مر عليها طريقه لتدخل الرحلة إقليم ما بين نهرى جيحون وسيحون، ولم يسجل ابن فضلان في هذه البيئة الشاسعة سوى بعض ملاحظات عابرة؛ وهو ما قد يرجع إلى معرفة هذا الطريق ومعالمه من قِبَل رحالة سابقين، أو ادخار الكتابة بالتفصيل لحين الوصول إلى المقصد الحقيقي للرحلة؛ وهو أرض البولجار وروسيا.
وفي منطقة الانتقال بين خوارزم والترك في أواسط آسيا تصبح الصدقة للسائل والعابر هي السماح بالجلوس إلى النار ليصطلي، فيرصد ابن فضلان ثقافة الملبس؛ فلا تبدو من الرجل بسبب كثافة ملابسه سوى عينيه، وناقش بشكل أولي فكرة التكيف المناخي.
وبالتوغل نحو الشمال والاقتراب من أراضي البولجار يلاقي ابن فضلان أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول:
«ورأينا أقوامًا تعبدُ الحيات، وأقوامًا يعبدون السمك، ومنهم من يزعم أن له اثني عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب.. إلخ. والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضي كل واحد منهم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا».
ولقد استحوذت مشاهدات ابن فضلان لشعب «روس» على أكبر اهتمام من المستشرقين والباحثين الأوربيين. وكان اهتمام عديد من الكتاب الإسكندنافيين بالرحلة لدعم نظرية الأصل الإسكندنافي للعرق الروسي، ومساندة فكرة أن القبائل الروسية التي شكلت نواة الدولة الروسية في العصور الوسطى هي من شبه جزيرة إسكندنافيا ومن أصول لقبائل الفايكينج، وإن كان هناك خلاف تفصيلي في استبيان إلى أي فرع من فروع الفايكينج ينتمي الروس.. هل لفايكينج الدانمارك أم للنرويج أم للسويد؟ وقد صاغ هؤلاء الباحثون الأدلة على أصل الروس الأسكندنافى بناءً على مشاهدات ابن فضلان مثل:
1- بناء البيوت الخشبية وعبادة الأوثان الخشبية، وهو تقليد يميز قبائل الفايكينج عمن سواها.
2- ما ذكره ابن فضلان من ولع التجار الروس بالدنانير والدراهم الفضية العربية؛ وهو ما دعمته الأبحاث الأركيولوجية التي وجدت شيوعًا بالغًا للعملات العربية في شرق أسكندنافيا ومنطقة بحر البلطيق.
3- ما سجلته مشاهد ابن فضلان للمراسم الجنائزية الروسية، وبصفة خاصة حرق الجثث في مراكب؛ وهو التقليد المتبع لدى الإسكندنافيين منذ القرن السادس الميلادي. وكذلك اتخاذ البشر قربانًا للآلهة عند موت أحد كبار القوم، فتُحرق جاريته معه، وهو مستوى معقد من مستويات التضحية للآلهة لدى الفايكينج.
وفي المقابل يفند كثير من الباحثين الروس هذه الاحتمالات تحت فكرة تداخل العادات والتقاليد الدينية والاختلاط الفكري؛ بسبب حركة التجارة بين الثقافات المختلفة وقت رحلة ابن فضلان ما بين ثقافة بولجارية وخزرية وسلافية.
وعلى الرغم من ذلك لا يمكننا الاستمرار في قراءة متن الرحلة في الجزء الخاص بالمشاهدات الروسية دون أن يداخلنا شعور بأن كثيرًا مما رواه ابن فضلان عن الشعب الروسي ربما سمعه دون أن يراه! حيث تخْلو المعلومات من المصادر المباشرة؛ فيحل السرد محل الديالوج، ويختفي سؤال الترجمان في كثير من المعلومات.
كما تغيب المشاهد الحركية عن محتوى السرد؛ فتختفي مفردات مثل “ركبنا، وسرنا، وقابلنا” في مقابل مفردات تقريرية مُبهمة المصدر مثل «وعندهم، وهم يفعلون.. إلخ». فلا يتبين هل يرصد ابن فضلان ما يشاهد أم يُعيد كتابة قصص سمعها من مصدر آخر؟
كما تتداخل السمات الأنثروبولوجية بين السلافيين والأسكندنافيين؛ فيختلط الأمر على القارئ عمن يتحدث ابن فضلان، وبالأحرى أين هو المكان الذي يسجل منه مشاهداته؟ هل على نهر الفولجا في قلب روسيا الحالية أم على بحيرة لادوجا على حدود أسكندنافيا؟ وستظل مشاهدته الأنثروبولوجية للشعب الروسي محل إعادة قراءة وتفسير لفترة مقبلة من الزمن.
أما الجزء المتبقي من رسالة ابن فضلان عن مشاهداته في مملكة الخزر فلا يزيد على نحو 5% من إجمالي ما دوّنه في رسالته عن شعوب رحلته. ولا تشتمل هذه النسبة إلا على ذكر ملك الخزر دون شعبه، ملقيًا الضوء على اسمه، وكنيته، وملبسه، وطرائق تنزهه، وجواريه وهيئتهن، وكذلك المراسم الجنائزية لموته. وهنا أيضًا لا نتبين ما إذا كان ابن فضلان ما زال واقفًا على نهر الفولجا في أرض البولجار يعيد كتابة ما روي له من معلومات لمصادر ثانوية وليست أصيلة أم أنه توغل في أرض الخزر ويكتب من مشاهداته؟
وفي النهاية لا يخلو إدراكنا للرحلة من بعض المفارقات؛ أهمها:
– إن الرحلة لم تكن أول من قدم الإسلام إلى بولجار الفولجا؛ فمن شأن ذلك أن يبخس حقوق التجار الذين قدموا المبادئ العامة للإسلام، وأهمها تلك القائمة على التوحيد وحسن المعاملة، وقد خط هؤلاء التجار الطريق الطويل بين بغداد وممالك آسيا الوسطى من ناحية وبلاد البولجار والقبائل الروسية من ناحية ثانية. وفضل الرحلة ماثل في الأساس في توقيع «الاتفاق الرسمي» بين ملك البولجار والخليفة العباسي في نقل الأفكار الإسلامية إلى النخبة الحاكمة في بلاد البولجار.
ومع اعتناق هذه النخبة للإسلام مارس البولجار الشعائر الإسلامية مخلوطة بالأعراف والتقاليد والعادات لعقود طويلة تالية، إلى أن تسللت برشاقة الأفكار الجديدة الآتية من مدرسة بخارى (المركز المنير في قلب آسيا) لتُصلح كثيرًا من الأعطاب في الفهم.
– إن الرحلة لم تقدم الإسلام إلى روسيا؛ ففي ذلك التعبير المجازي مغالطة جغرافية؛ لأن ابن فضلان قدم رسالة الإسلام إلى شعب البولجار. وينتمي البولجار إلى أتراك آسيا الوسطى، ومنها تحركوا نحو نهر الفولجا واستعمروا ضفافه. وآخر حدود لروسيا في ذلك الزمان عند جبال الأورال. وبالتالي كانت روسيا مجرد مملكة مجاورة لمملكة بولجار الفولجا. واستمرت العلاقة ندية بين بولجار الفولجا والروس الذين طمعوا في ثرواتهم وأرضهم، وظلوا يتحينون الفرصة من بداية القرن العاشر إلى منتصف القرن السادس عشر (أكثر من 650 سنة)، إلى أن تمكن القيصر الروسي “إيفان الرهيب” من إخضاع مسلمي الفولجا؛ فأسقط عاصمتهم كازان في 1552م. بل إن بعض الباحثين يرون في اعتناق روسيا للمسيحية (988م) مجرد ردة فعل لاعتناق البولجار للإسلام كنوع من التميز الديني أمام الأعداء المسلمين.
وتبقى الأسئلة كثيرة: كيف وأين فُقدت باقي أجزاء رحلة ابن فضلان؟ وهل امتدت يد ما لتحذف النصف الثاني من الرحلة لما فيه من أفكار نظرت إلى “الآخر” المختلف عقائدياً نظرة تعاطف وتفاهم حسبما يدعي البعض؟! ولماذا لم يقدم عمل أدبي وفني بلسان عربي يسمح بتخيل الجزء المفقود نقدم فيه رؤيتنا للعالم؟
الثابت أن الرحلة حصلت على كمية معتبرة من الاهتمام الغربي؛ وهو ما جعلنا نرجع إليها، فنعيد قراءتها برؤية مختلفة نبهنا إليها “الآخر”، وعلينا أن نشكره على ذلك!
* كاتب وباحث مصري
المصدر: الشروق