ياسمين عبداللطيف زرد *
في تموز/ يوليو الماضي، زار رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” موسكو واستقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باحتضان حار. في اليوم نفسه، شنت روسيا غارات جوية في أوكرانيا، ما أدى إلى إصابة أكبر مستشفى للأطفال ومقتل 41 شخصًا على الأقل. ورغم أن مودي أشار بشكل مستتر إلى الضربة والضحايا، فإن تعليقه المهدئ فشل في صرف الانتقادات الدولية- خاصة من الولايات المتحدة- لرحلته وصداقته الواضحة مع بوتين.
في حديثه في منتدى للدفاع في تموز/ يوليو الماضي، كان السفير الأمريكي لدى الهند، “إريك جارسيتي”، حادًا في انتقاده لمودي، مذكرًا الحضور بأن علاقات الهند بالولايات المتحدة لا يمكن اعتبارها أمرًا مسلمًا به. أما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فقد كان أكثر غضبًا بشأن احتضان مودي لبوتين، قائلًا: «إنها خيبة أمل كبيرة وضربة مدمرة لجهود السلام أن نرى زعيم أكبر ديمقراطية في العالم يعانق أكثر المجرمين دموية في العالم في موسكو في مثل هذا اليوم».
رغم أن نيودلهي تجاهلت علناً الانتقادات، فإن ذلك لم يغب عن جهاز السياسة الخارجية الهندي: ففي يوم الجمعة الماضي (23/8/2024)، زار “مودي” “زيلينسكي” في كييف. اعتقد مودي أن الوقت قد حان لمحاولة إصلاح العلاقات مع أوكرانيا والغرب. ومن بعض النواحي، فإنها تمثل تحولًا مُذهلًا في السياسة الخارجية الهندية، إذ لطالما كانت روسيا شريكًا موثوقًا به للهند.
الذي يفسر قرار مودي بالقيام بهذه الخطوة، بجانب محاولة صد الانتقادات العالمية هو أولًا، ربما قرر رئيس الوزراء ومستشاروه أن موسكو لم تعد قادرة على تزويد نيودلهي بالمعدات العسكرية التي تحتاج إليها في الوقت المناسب. ولا تستطيع الهند أن تتحمل العيش في ظل هذا القدر من عدم اليقين، خاصة أن التهديد من جانب الصين- عدوها الرئيسي على المدى الطويل- لم يتراجع. وحتى إذا أزعجت زيارة مودي إلى كييف موسكو، فإن نيودلهي قادرة على التعامل مع أي تداعيات سياسية سلبية، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى أن روسيا أظهرت في ظل الظروف الحالية أنها شريك متذبذب.
من الممكن أيضًا أن مؤسسة السياسة الخارجية الهندية تدرك حقيقة مهمة أخرى، ألا وهي أن جهودها الحثيثة لمنع روسيا من التقارب مع الصين هي في الأغلب قضية خاسرة. ذلك أن العزلة الدبلوماسية المتزايدة التي تعيشها روسيا مع استمرار الحرب في أوكرانيا تعني أن عدد الشركاء الاستراتيجيين المتبقين لديها باستثناء الصين قليل. وعلى الرغم من العلاقات الروسية الهندية العريقة، يتعين على موسكو أن تدرك أن نيودلهي لن تتخلى ببساطة عن علاقاتها المتنامية مع واشنطن والغرب.
- • •
في مسعى لتوفير الأساس المنطقي لزيارة مودي إلى روسيا، استشهد صناع السياسات الهنود بالتزام البلاد المعلن بالاستقلال الاستراتيجي. الواقع أن هذه العقيدة تؤكد في جوهرها على سياسة خارجية مستقلة بشدة، ولكنها في الممارسة العملية تحولت إلى شعارات، وفي كثير من الأحيان إلى مبرر منطقي لنيودلهي في سعيها إلى سياسات معاملاتية برجماتية مؤقتة. كان هذا واضحًا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، عندما استشهدت الهند باستقلالها الاستراتيجي لدرء الانتقادات الموجهة إليها بسبب شرائها للنفط الروسي لتلبية احتياجاتها المحلية الحرجة من الطاقة في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار النفط العالمية.
لكن سفير الولايات المتحدة في الهند قال إنه «في أوقات الصراع، لا يوجد شيء مثل الاستقلال الاستراتيجي». وعلى الرغم من التقليل من أهمية مثل هذه التعليقات، فإن المسؤولين في نيودلهي أذكياء بما يكفي للاعتراف بأن صبر الولايات المتحدة على الهند محدود، وأن الحفاظ على صورة جيدة لدى واشنطن هو أيضًا أحد أولويات السياسة الخارجية الهندية، وقد تعكس زيارة مودي إلى كييف ذلك.
في هذا السياق، يجب ملاحظة أن مودي وبوتين لم يحققا الكثير من الإنجازات الجوهرية في اجتماعهما. كانت الزيارة مليئة بالاستعراضات، فقد منحت روسيا مودي أعلى وسام مدني لديها، وسام القديس أندرو الرسول، ولكنه منخفض الأهمية المادية.
ورغم أن الهند وروسيا وقعتا تسع اتفاقيات، فقد لاحظ المحللون أن معظمها كانت طموحة وتفتقر إلى الكثير من الثقل. وعدم قدرة رئيس الوزراء الهندي على العودة إلى الوطن بأي إنجازات ملموسة قد أزعج صناع السياسات في نيودلهي.
- • •
في لقائهما يوم الجمعة الماضي (23/8/2024) في كييف، عانق مودي الرئيس الأوكراني. كانت هذه أول زيارة لأوكرانيا من قبل أي رئيس وزراء هندي منذ أعلنت كييف استقلالها في عام 1991. قال زيلينسكي إن هذا يوم «تاريخي» و«مميز»، وشكر الهند على دعمها لسيادة وسلامة أراضي أوكرانيا، وحث مودي على الانضمام إلى رؤيته «للسلام العادل» المكونة من عشر نقاط، وأضاف: «إن مسألة إنهاء الحرب والسلام العادل هي الأولوية بالنسبة لأوكرانيا»، مؤكدًا أن كييف تسعى إلى إنهاء الحرب بشروطها، وليس بشروط روسيا.
من جانبه، ركز مودي على إمكانات المفاوضات المستقبلية، وعرض دوره كصديق للدفع من أجل السلام، قال: «لا يمكن العثور على طريق الحل إلا من خلال الحوار والدبلوماسية، ويجب أن نتحرك في هذا الاتجاه دون إضاعة أي وقت. يجب على الجانبين الجلوس معًا لإيجاد طريقة للخروج من هذه الأزمة». كما زار النصب التذكاري للناشط الهندي مهاتما غاندي في كييف، مؤكدًا تركيزه على تحقيق السلام.
ومع ذلك، تستمر العلاقات الوثيقة بين الهند وروسيا في تقويض دعواته للسلام. فقد تفوقت الهند على الصين الشهر الماضي لتصبح أكبر مستورد للنفط الروسي في العالم، كما تُعد روسيا موردًا رئيسيًا للأسلحة للهند، ويظل الكرملين شريكًا قديمًا في المساعدة في موازنة علاقة نيودلهي المتوترة مع بكين. ولهذا السبب، امتنع مودي عن إدانة غزو روسيا صراحة.
في 19 آب/ أغسطس الجاري، قال وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف، إن محادثات السلام أصبحت غير واردة بسبب التوغل المفاجئ لأوكرانيا في الأراضي الروسية في السادس من الشهر نفسه. وأكد ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، أنه لن تكون هناك مفاوضات حتى يتم هزيمة أوكرانيا تمامًا في ساحة المعركة. كانت كييف قد أشارت في وقتٍ سابق إلى أن التقدم نحو “كورسك” كان يهدف إلى منح أوكرانيا نفوذًا في المحادثات المستقبلية.
بزيارته لكييف، ربما يرغب مودي في إرسال إشارة إلى روسيا مفادها أن علاقاتها الثنائية مع الهند لا يمكن اعتبارها أمراً مُسلماً به. ونظراً للمبادرات الروسية الأخيرة تجاه خصم الهند الآخر، باكستان، وعجز روسيا عن دعم عمليات نقل الأسلحة التي تشتد حاجة الهند إليها، فإن نيودلهي لديها ما يدعوها إلى إعادة النظر في اعتمادها على موسكو.
ومن عجيب المفارقات أن مثل هذه الخطوة قد تظهر درجة من الاستقلال الاستراتيجي الحقيقي في السياسة الخارجية الهندية.
ومع ذلك، وفي ظل تعنت روسيا، فقد يتبين أن مساعي مودي الدبلوماسية قد تكون بلا جدوى. وربما تشكك الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب في قدرته على العمل كوسيط نزيه، نظرًا لقرب الهند من روسيا. ومع ذلك، فإن استعداد مودي للقيام بهذه المبادرة الجريئة في ظل التوغل الكبير الذي قامت به أوكرانيا مؤخرًا في الأراضي الروسية قد ينبئ بتحول كبير في الحياد المدروس للهند في الصراع.
وسيتبين ما إذا كانت الزيارة مجرد زيارة رمزية أم لا في الأسابيع والأشهر المقبلة.
…………….
النص الأصلي على مجلة “فورين بوليسي”
ــــــــــــــــــــ
* كاتبة ومترجمة مصرية
المصدر: الشروق