غازي دحمان *
يفترض المنطقُ أنّ محور المقاومة الذي تقوده إيران يملك بنكَ أهدافٍ كاملاً داخل إسرائيل، فحالة الحرب المستمرّة منذ عشرة شهور، وينخرط فيها المحور، تستدعي أن يكون هناك تجهيزٌ لمرحلة قد تتحوّل معها الحرب في مستويات أكثر شمولاً، ما قد يدفع أطرافها إلى استخدام أوراقهم كافّة في سبيل منع الخصم من تحقيق أهدافه، التي في مُقدّمتها كسر شوكة الطرف الآخر وإذلاله.
الدافع لهذا الكلام، هو السؤال عن تأخّر الردّ الإيراني، وهل أرادت إيران من ذلك التجهّز لضمان أن يكون للردّ مفاعيل قوية؟ وهل إيران، التي تقوم بتشغيل جبهات عدّة ضدّ إسرائيل، لم تكن متجهّزة لمثل هذه التطورات؟ أم أنّ تقديرات خبرائها العسكريين كانت تستبعد إمكانية شنّ إسرائيل هجمات داخل إيران، كما فعلت في عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة؟
كان الردّ السريع، أيّاً كانت نتائجه، سيصير أكثرَ منطقيةً، وسيجري تفهّمه حتّى داخل إسرائيل نفسها، على اعتبار أنّ إسرائيل قامت بضربة كبيرة، ومن الطبيعي أن تردّ إيران وحلفاؤها، ويمكن امتصاص تداعيات الضربة، لكنّ التأخير في الردّ ورفع سقف التهديدات من إيران وحزب الله، وغموض الردّ وأبعاده ومداه… ذلك كلّه أوجد واقعاً جديداً، يمكن وصفه بتعقّد البيئة الاستراتيجية للحرب بدرجة شديدة، وزاد من تعقيد الحسابات وتشعّب الاحتمالات التي باتت تشكّل عبئاً على أيّ خطوة انتقامية إيرانية تجاه إسرائيل.
الآن، كيف ستردّ إيران وسط تحشيد الأساطيل الأميركية والأطلسية، التي لا تُخفي هدفَها في ردع أيّ قوّةٍ تحاول المساس بإسرائيل؟… بالتأكيد، لم تأتِ هذه الأساطيل لردع إسرائيل من توسيع دائرة الحرب في المنطقة، بل جاءت لردع أيّ طرفٍ آخر، والمقصود إيران وحزب الله، من ردّ يكون سقفه مرتفعاً، حسبما أوحت تصريحات جماعة محور المقاومة، الذين يبدو أنّهم يعطون للحرب النفسية في مواجهة إسرائيل شأناً كبيراً، ويراهنون على مفاعيلها، في حين أنّ حكومة نتنياهو استثمرت هذا الأمر إلى أبعد الحدود، ودفعت الغرب ليحشد أساطيله وقواه لحماية إسرائيل.
لقد أظهرت مُجريات الحرب أنّ التكتيكات التي استخدمتها إيران وأذرعها كان لها دورٌ مهمٌّ في تشجيع نتنياهو على القيام بتصرفات متهوّرة، فمنذ بداية الحرب قامت استراتيجية إيران على عدم الانجرار إلى حرب موسّعة، بذريعة أن نتنياهو يريدها، إمّا للخلاص من حرب غزّة التي لم تحقّق الأهداف التي رسمها، أو لضرب أيّ أفق محتمل لتسوية العلاقات بين إيران وإدارة بايدن. ويبدو أنّ نتنياهو أراد استثمار المُحدّدات التي وضعتها إيران على نفسها إلى أبعد حدّ، فهو يلعب تحت سقف الحرب الشاملة ما دامت إيران (وأذرعها) لن تنخرط فيها مهما تهوّر نتنياهو، على اعتبار أنّها بذلك تكسر أحد أهمّ أهدافه.
اعتقدت إيران منذ البداية أنّها قبالةَ فرصة استراتيجية هيأتها لها الحرب، لجهة تثقيل أوراق مساومتها مع واشنطن، ولدعم موقفها داخل المجتمعات العربية، بالظهور بمظهر الطرف الوحيد المدافع عن القضية الفلسطينية، والأثمان التي دفعتها إيران في مقابل ذلك، ووفق حساباتها النظرية تبقى في إطار الممكن والمحتمل. لكن من قال إنّ تداعيات الحروب يمكن قياسها وفق مسطرة طرف مُعيّن؟ ومن أخبر إيران أنّها ستكسب من هذه الحرب كما كسبت من حروب أفغانستان والعراق؟
أحد أخطر المشكلات التي جرّها تأخّر الردّ الإيراني، وقوع إيران ومحورها في ورطة استراتيجية، بعد أن تبدّل المشهد الاستراتيجي بدرجة كبيرة، إذ أصبحت غاية أهدافهم أن تسنح لهم الظروف بالقيام بضربة يستعيدون من خلالها هيبة الردع، التي فُقدت جرّاء قيام إسرائيل باستهداف بيروت وطهران، وقبلهما الحديدة. راهنت إيران وأذرعها على تحقيق اختراق في المفاوضات الجارية في الدوحة للخروج من المآزق، والقول إنّ الردّ لم يعد مهمّاً طالما انتهت الحرب على غزّة، لكن البادي أنّ نتنياهو يرفض منح إيران هذا المخرج.
إزاء ذلك، باتت إيران أمام خيارين لم تحسب لهما أيَّ حساب، إمّا القبول بميزان ردعٍ مختلٍّ لمصلحة إسرائيل، وبانعكاسه تالياً على طاولة المفاوضات، بما يعنيه ذلك من خسارةٍ للهيبة الإقليمية، أو الدخول في حرب هي أشبه بالانتحار في ظلّ الاستعدادات الأميركية والأطلسية، وهو ما يرغب نتنياهو فيه، إذ رغم محاذير إدارة بايدن من التورّط في هذه الحرب سيجد بايدن نفسه مرغماً تحت ضغط الدولة العميقة في واشنطن، ولحسابات انتخابية، على الانخراط في هذه الحرب لصالح إسرائيل.
في الحرب، يستخدم اللاعبون الخدع وعمليات التضليل بكثافة، بهدف استنزاف العدو إلى أبعد الحدود، ودفعه إلى بناء تقديراتٍ غير حقيقية، تستنزف قواه، وترفع منسوبَ التوتّر لديه، هذا ما حاولت إيران فعله بتأخير ردّها على إسرائيل، لكنّ المشهد الآن تكشّف صورةً مغايرةً لما أرادته طهران، التي كان من الأفضل لها أن تحسم أمر الردّ بسرعة، وحتّى قبل أن يُوارى إسماعيل هنيّة الثَرى، وحتّى ولو كان ردّاً غير متناسب، سيكون أفضل من انتظار نتنياهو لمنحها فرصةَ الخروج من هذه الورطة المعقّدة، التي ستكلّفها كثيراً.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد