عمر كوش *
يبدو أن مفاوضات جنيف بشأن الحرب في السودان، التي انطلقت في 14 من أغسطس/ آب الجاري، بناء على ترتيبات أميركية، لن تحقّق المأمول منها بسبب مقاطعة الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، الذي أرجع موقفه الرافض للمشاركة فيها إلى عدم حصوله على التوضيحات والالتزامات التي كان يسعى إليها وفده في اللقاء التشاوري مع الجانب الأميركي، في جدّة، قبيل انطلاق المفاوضات، واعتبرها متطلّباتٍ (شروطاً!) ضرورية للمشاركة في المفاوضات، وتخصّ تنفيذ بنود إعلان جدّة، الذي توصّل إليه ممثّلون عن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 11 مايو/ أيّار 2023 في جدّة، حيث أكَّدت قيادة الجيش أنّها لا مانع لديها من “الجلوس مع المسهّلين لمنبر جدّة للنقاش معهم حول كيفية التنفيذ”، لكنّها أكَّدت رفضها “توسعة قائمة المسهّلين”.
لم تكترث الإدارة الأميركية باعتراضات قادة الجيش السوداني، وأصرَّت على أن تبدأ المفاوضات بحضور وفود كلّ من مصر والإمارات والاتحاد الأفريقي والأمم المتَّحدة، وبرعاية الولايات المتَّحدة والسعودية وسويسرا، على الرغم من أنّ تحقيق الهدف المُعلن منها، وهو التوصّل إلى وقف إطلاق النار لإنهاء الحرب في السودان، ووضع حلول للأزمة الإنسانية الناتجة عنها، لا يمكن أن يتمّ بمشاركة وفد من قوات الدعم السريع فقط، وغياب وفد الجيش السوداني، لذلك لجأت الولايات المتّحدة إلى ممارسة ضغوط كبيرة على قادة الجيش، وأمهلتهم بضعة أيام للالتحاق بالمفاوضات، إذ اعتبر المبعوث الأميركي إلى السودان، توم بيرييلو، أنّ المفاوضات التي ستستمر عشرة أيام تُشكّل “فرصةً للقوات المسلّحة السودانية للمشاركة”، مُحذّراً من أنّ مُخرجات المفاوضات لن تكون في مصلحتها، وستخسر كثيراً.
إذاً، تحوّلت المفاوضات في جنيف محادثاتٍ بين المشاركين والوسطاء، واتصالات يجريها الوسيط الأميركي عبر الهاتف مع البرهان، الذي يبدو أنّه في حاجة إلى وقت إضافي لمعالجة مسائل داخل قوى التحالف السياسي والعسكري الذي يقوده، لذلك يراهن الوسطاء على أن يأتي وقت يُقدّم فيه بعض التنازلات كي يسوقوا نجاح وساطتهم، والأمر يعتمد حجم الضغوط، التي يمارسها الوسطاء، إضافة إلى إمكانية حلحلة الخلافات داخل التحالف الذي يقوده البرهان ومقدرته على حسم قراره.
يكشف مسار الأزمة السودانية أنّ بعض القوى الإقليمية والدولية سبق أن بذلت جهوداً من أجل عقد هُدنٍ، بغية التوصّل إلى وقف الحرب في السودان التي دخلت شهرها الـ17، إلّا أنّها لم تثمر، فراحت تركّز على فتح المسارات الآمنة، وإيصال المساعدات الإنسانية، وإنقاذ الوضع المزري للناس في السودان. وجاءت الدعوة الأميركية إلى مفاوضات جنيف، كي تنقل مكان التفاوض الرئيس خلال المرحلة السابقة، على الرغم من أنّها من المفترض أن تبنى على التعهدات التي تم الاتفاق عليها بين الجيش والدعم السريع في إعلان جدّة، بحسب ما أكّد المبعوث الأميركي إلى السودان. لذلك برز التساؤل عما تريده الإدارة الأميركية من تحديد أجندة المفاوضات وقائمة الوسطاء ونقل مكان التفاوض، فاعتبر قادة الجيش أنّها محاولةٌ أميركيةٌ للتنصل من الاتفاق السابق، وأنّ البدء بمفاوضات جديدة يمكن أن يفضي إلى منح شرعية لقوات الدعم السريع.
استندت الولايات المتّحدة في اجتراحها مسار جنيف إلى أنّه بالرغم من موافقة الطرفَين على عدة هُدنِ، لم تتحقّق في الواقع، وبقيت مُجرّد كلمات معلّقة في الهواء، كما أنّ إعلان جدّة ظلّ حبراً على ورق من دون تنفيذ، فلم يُبيّن كيفية تنفيذ الالتزامات الواردة فيه، والآلية التي ستتولى متابعة عملية تنفيذ بنوده ومراقبتها، ما يعني أنّه كان أقرب إلى إعلان مبادئ، يستلزم تنفيذه جولات أخرى من التفاوض، إضافة إلى أنّه كان جزءاً من اتفاق هدنة لم تطبَّق، ورتّب التزامات على طرفي الحرب لم يلتزم بها أيٌّ منهما. وعليه، اعتبرت الإدارة الأميركية أنّ لقاء جنيف يأتي تطوّراً نوعياً، ويمتلك قيمةً مضافةً، مقارنةً بإعلان جدّة، وذلك من خلال إشراك مصر والإمارات بصفة مُراقبٍ، مع لفت الانتباه إلى أنّ صفة المراقب في الحالة السودانية، لا تقتصر على الاكتفاء بموقف المتفرّج أو المراقبة، لأنّ لكلّ من مصر والإمارات علاقاتهما المباشرة بطرفَي الحرب، ويقوم كلٌّ منهما بدور مُهمّ في تطورات الأزمة السودانية.
يأمل عموم السودانيين التوصّل إلى اتفاق بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ينهي الحرب التي اندلعت في 15 إبريل/ نيسان العام 2023، وراح ضحيتها، بحسب بعض التقديرات، ما لا يقلّ عن 17 ألف شخص، بينما أدَّت إلى نزوح أكثر من عشرة ملايين شخص، منهم نحو ثلاثة ملايين شخص كانوا قد نزحوا من منازلهم بسبب صراعات سابقة، وأكثر من مليونَي شخصٍ آخرين لجؤوا إلى دول الجوار وسواها، بحسب إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتّحدة. لكنّ هذا الأمل يصطدم بأنّ الاتفاقات والهُدَنَ السابقة، التي توصّلت إليها مفاوضات برعاية دولية أو إقليمية، لم تترجم في الأرض، ولم تتوقَّف الحرب، الأمر الذي يطرح تساؤلاتٍ عما ستقدّمه مفاوضات جنيف هذه المرّة، إذ لا توجد مُؤشّرات على أنّها ستكون مختلفةً عن تلك المفاوضات التي انطلقت في جنيف في 12 يوليو/ تمّوز الماضي، وسميت محادثات جنيف غير المباشرة لسلام السودان، وبرعاية أممية، عبر مبعوث الأمم المتّحدة إلى السودان رمطان لعمامرة.
قد تختلف مفاوضات (أو محادثات) جنيف عن سابقاتها، إذ يسعى الوسطاء والمراقبون إلى بناء تصوّر لاتفاق بينهم، يركّز على وضع آلية لوقف الأعمال العسكرية، أو وقف التصعيد، بما يسمح بفتح معابر لإدخال المساعدات الإنسانية. وما يدعم هذا المسعى هو أنّ “مجلس السيادة” قرر فتح معبر أدري الحدودي مع تشاد، بهدف السماح لمرور المساعدات الإنسانية الدولية، ما يعني أنّها ستعبر مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع بموافقة الجيش السوداني، الأمر الذي قد يفيد بأن مفاوضات جنيف يمكنها أن تفتح أبواباً لجولات تفاوضية مباشرة بين أطراف الحرب السودانية.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: العربي الجديد