جمال الشوفي *
لا تكاد تمر مرحلة في تاريخ الثورة السورية إلا وتتقدم مجموعة من المفاهيم للحوار والخلاف حولها، خاصة تلك المتعلقة بمستقبل سورية والتي شكلت صفات الدولة ونظام الحكم المستقبلي محوراً أساسياً فيها. فثمة من يريدها “دولة عَلمانية” وآخرون “دولة مدنية” وفرق أخرى تريدها دولة “دينية” أو “قومية” أو “اشتراكية”.. وكل فريق يصبغ عليها الصفات التي يرغبها ويحلم بها من موقعه وحسب، لدرجة الاختلاط بين مفهوم وصلاحيات نظام الحكم والدولة بعمومها.
اللافت للنظر أن الباحثين عن شكل الدولة ونظام حكمها يعتقدون أن صفات السلطة كنظام حكم هي ذاتها صفات الدولة، ويستهلكون حواراتهم وأفكارهم حول المستقبل دون العمل على مقتضيات الواقع الحالي وإمكانية التوافق على آليات حدوث التغيير السياسي الوطني. فالتغيير السياسي يعني بالمبدأ وضع حد للكارثة السورية واستبعاد نظام حكمها من مشهدها السياسي، النظام الذي أبتلع الدولة ومؤسساتها وجلب لسوريا كوارثها المتتالية لليوم، ومنها شدة الخلاف على من يكسب السلطة بعده! فما لم يحدث هذا التغيير فإن الهيمنة السلطوية للنظام القائم ستذرو كل هذه الحوارات والجدالات المستقبلية وتسوقها أدراج الريح. وتتناسى أو تتجاهل هذه الحوارات إن إمكانية تعاقد السوريين على شكل دولتهم ونظام حكمهم المستقبلي يمكنه أن يصبح معقولاً وممكناً في المرحلة الانتقالية، حين يرسون على أرضية آمنة على حياتهم اليومية.
مبكراً، ومنذ بواكير الثورة وقبل أن ترسو على نتائج سياسية تمكن الشعب السوري من اختيار مستقبله، بدأ الخلاف على صفات الدولة، وبات كل فريق يدرج لها صفات تشبهه وتنفي غيره في جزيرة سياسية ضيقة. وليتها كانت دولة ذات شعب بل مجرد حكم واقع لا يتعدى سطوة عسكرية ما أو تبعية دولية يتحكم فيها فريق دون غيره. والنتيجة اليوم، وعلى الرغم من عديد المحاولات البحثية والإنقاذية لتفادي كارثة التشظي هذه، إلا أنها تصطدم بجدار تلك المشاريع، مشاريع “دويلة” ذات صفات ما، تفيد جهة ما وتنفي الأخرى، وكل في فلك يسبحون!
في مفهوم الدولة:
وحتى لا يصنف المقال تهكمياً، أو جلداً للذات، أو يحاول اختزال المسألة في صراع سياسي محدود، تبدو محاور الصراع الدولي أكثر قسوة ووطأة وقوة منه، اتساءل مع من يتساءلون، ماذا لو استعدنا المسألة من جذرها وتوقفنا عند مفهومين:
الأول: هو مفهوم الدولة المشتق من الوضع الزمني القائم State، والذي يفترض أن الدولة جملة من المؤسسات التي يشكلها المجتمع لخدمته العامة دون تخصيص لصالح جهة ما دون غيرها. وبالضرورة تشكل هذه المؤسسات جملة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين دون تمييز سياسي بينهم أو ديني أو عرقي. فحق الحياة والرأي والعمل.. حقوق يتوجب على هذه المؤسسات تقديمها بالتساوي للجميع. من هنا أتى مفهوم الدولة الحيادية تجاه كل المكونات السياسية والدينية والمجتمعية. وبالضرورة إدارة الموارد العامة وفقاً للقانون الوضعي المتفق عليه رضائياً بين المجموع العام، ونفي تسلط جهة سياسية ما على موارد المجتمع لمصلحتها وفقط دون الآخرين كما لازلنا نعيش في سوريا. فالدولة ليست مدنية، بل نظام حكمها، أي السلطة وهي احدى مؤسسات الدولة وحسب، هي سلطة مدنية وليست عسكرية، منتخبة لمدة محدودة وفقاً للقانون.
ونظام الحكم يمكن أن يكون ذا صفات قومية أو اشتراكية أو دينية مثلاً، وذلك حين يفوز فريق سياسي بالانتخابات العامة، لكن المشروط بألا يمارس تغوله على الدولة ويستلبها لمصلحة حزبه أو تحالفه السياسي، وحق التنافس على السلطة يأتي بعد تأسيس الدولة وقوانينها الوضعية لا قبلها.. فيما أن العَلمانية هي الأرضية الزمنية للثقافة المجتمعية التي تفترض الاحتكام للقانون الوضعي، والمساواة في حقوق المواطنة السياسية والفكرية والاقتصادية، كما المساواة في حقي الإيمان والتدين وممارسة شعائره في أماكن العبادة. الدولة ليست علمانية ولا دينية، بل الثقافة المجتمعية هي علمانية تذهب في البناء المجتمعي مادياً ومعنوياً وليست حالة نزاع مع الأديان.
الثاني: مفهوم الزمن، ويعني إمكانية التفريق بين المستقبل والواقع الحالي. فالمستقبل الذي نفترضه هو دولة لكل السوريين، دولة الحق والقانون والمواطنة دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي، وفق ما اُفترض أعلاه. بينما الواقع الحالي هو، وبكل ألم، ورغم كل التضحيات السورية خلال 14 عام مضت، لم يزل النظام الشمولي هو القائم في السلطة، وبقية المناطق خارج سيطرته تحكمها قوى أمر واقع متخاصمة فيما بينها على ذات الأسس المستقبلية. والأكثر تعقيداً في المشهد السوري هو حجم القوى الأجنبية المتدخلة في الشأن السوري عسكرياً وسياسياً ومادياً، والنظام القائم هو القادر لغاية اليوم على إدارة اللعبة بينها جميعاً بنفعية محضة تخدم بقاءه في السلطة وتجرف سوريا وكل أحلام السوريين وخلافاتهم حول المستقبل إلى كارثة محدقة.
التوافق الوطني الممكن:
اليوم، يمكن للسوريين تجاوز خلافاتهم الراهنة حول شكل الدولة المستقبلي والعمل اليوم على أحقية التغيير السياسي، والمستند بالعمل على التوافق الوطني بين جميع القوى السورية السياسية والمدنية والثورية على أولوية تشكيل تحالف وطني واسع يستهدف التغيير والانتقال السياسي كما تطالب به ساحات الكرامة من السويداء لإدلب لشمال حلب. وهذه ليست جملة وصفية بل حيثيات واقعية تقوم على استبعاد المختلف عليه والمستفيد منه سلطة النظام، والعمل على أرضية مشتركة تحقق مفهومي التعدد والتوافق العام على تحقيق جملة من الحقوق العامة تكون أساس العمل على آليات فعل سياسي تشاركي دون غلو أو تعالٍ، ويشكل نواة الدولة المستقبلية دون اصباغها بصفات سياسية دون مستوى مفهومها الممكن:
- حق الإنسان الفرد (رجل امرأة طفل) أيا كان انتمائه الديني أو السياسي المدني أو الأهلي بالحياة الحرة والكريمة، ومنها ممارسة فكره ورأيه وانتمائه الديني دون اكراه أو مغالبة.
- حق تشكيل الجمعيات والأحزاب والمؤسسات المدنية، وحق تمثيلها الانتخابي وإقامة تحالفاتها السياسية ضمن القانون الوضعي.
- الإقرار بأن القانون الوضعي هو تعاقد البشر الرضائي على طريقة إدارة أمور حياتهم بين حدي عدم الاعتداء الشخصي أو العام، ودون ميزة لجهة سياسية أو دينية على الأخرين.
هذه الثلاث تحديداً هي جذر مفهوم الدولة بلا صفات أو نكهات، حيث مثلث: الشعب والمؤسسات ضمن حيز جغرافي مضافاً لها الإرادة الشعبية، أو هويتها الذاتية، شخصيتها العمومية، والتي تقر بوجود الجميع بأفكارهم ومعتقداتهم جميعاً مهما اختلفوا فيما بينهم، لكنهم ملتزمون ببقاء الدولة شعباً ومؤسسات وإرادة حرة غير مرتهنة لأي نموذج سلطوي وحيد سياسياً كان أو دينياً أو عسكرياً أو لأية مشاريع استثمارية تدار من الخارج، فهل هذا يتعارض مع العلماني أو المدني أو الديني أو الماركسي أو القومي؟
السوريون اليوم وكل يوم مدعوون للتنازل لبعضهم عن افتراض أحقية عليا ما سواء كانت سياسية أو أكثرية أو أقلية، أمام ترجيح أحقية المشروع السوري في التغيير السياسي، وذلك في خضم صراعات الأمم على تركة سوريا التي أجهضتها صراعاتها من جهة وانسياقنا الطوعي خلف أوهامنا بكسب السلطة وحسب.
هي دولة بلا صفات سياسية او نكهات أيديولوجية بل وفق محددات دستورية وقانونية ومؤسساتية، لنصل اليها اولاً ثم نختلف على سلطات الحكم سياسياً ومدنياً بحق الانتخاب الديموقراطي، وهذا بعيد المنال بلا حشد كل طاقتنا لإحداث التغيير السياسي، فهل هذا ممكن؟
* كاتب أكاديمي وباحث سوري
المصدر: موقع تلفزيون سوريا