مالك التريكي *
انتشر كتاب «انفجار المشرق العربي» في الأصل الفرنسي ثم في النسخة العربية، وفي الطبعات المتوالية المزيدة والمنقحة باللغتين، فحقق رواجاً كبيراً حتى بات أشهر كتب المؤرخ والمفكر السياسي والخبير الاقتصادي اللبناني جورج قرم الذي فارقنا مغادراً دنيا الظلم والظلمات هذه يوم 14 من هذا الشهر، شاباً متوقد الفكر دائباً في الدرس والبحث، عن عمر يناهز الرابعة والثمانين. بل يكاد الجمهور الواسع في فرنسا والبلاد العربية لا يعرف من كتب الباحث التنويري العروبي سواه. وهو بالفعل كتاب جدير بأن يسلك في كوكبة عيون الكتابة التاريخية العربية المعاصرة لأنه بحث واسع الإطار عكف جورج قرم على إنجازه، ثم تعهُّده بالمراجعة والإغناء والتحديث، منذ مطلع الثمانينيات فصار أشهر مرجع في التاريخ العربي المعاصر، بدء من تأميم قناة السويس عام 1956 حتى الهزات الارتدادية التي أعقبت الانتفاضات الشعبية العربية عام 2012، أي التاريخ النابض الذي لا يزال حياً في ذاكرة كثير من العرب الذين كانوا شهوداً عليه والذين يحترقون اليوم بشظايا انفجاره. وميزة هذا الكتاب أن جورج قرم حاول فيه تجاوز المأزق الناجم عن استحالة كتابة التاريخ العربي من منظور الدولة القُطرية، فعمد إلى حسبان المشرق كياناً تاريخياً قائم الذات تجدر كتابة تاريخ المجتمعات المتنوعة في إطاره الجامع.
ومن اللافت أن جورج قرم كان يؤلف كل كتبه بالفرنسية لتُنشر في باريس ثم يخرجها في نسخة معرّبة في بيروت. وقد أخبرني أنه يعهد بترجمة كتبه لأفضل المترجمين ولكنه يحرص مع ذلك على مراجعة النسخة المعرّبة بنفسه. وهكذا فعل عبدالله العروي مع كتابه الأول «الإيديولوجيا العربية المعاصرة». رأى أنه خرج في ترجمة عربية مشوهة نشرت دون علمه (!) فقرر أن يتولى ترجمته بنفسه. ولا يمكن لمن يتذوق فن الترجمة الراقية إلا أن يطرب لجمال أسلوب العروي في ترجمة مختاراته من النصوص الكلاسيكية، مثل «تأملات مونتسكيو» أو مسرحية «شيخ الجماعة» لمونترلان أو كتاب «دين الفطرة: عقيدة قس من جبال السافوا» لروسو.
ومع أن «انفجار المشرق العربي» مرجع مهم جدير بما ناله من شهرة، فإن الكتب الثلاثة التي أهمّتني وأعجبتني، فعدت إليها مراراً وتكراراً، أكثر من كتب جورج قرم الأخرى هي التالية: «شرق وغرب: الشرخ الأسطوري» الذي يبين أن الثنائية الموهومة بين شرق يسمى عربياً-إسلامياً ويوصف بأنه صوفي وبين غرب يسمى مسيحياً-يهودياً ويوصف بأنه عقلاني هي وليدة المقولات الجوهرانية التي بلورها الفكر الغربي في القرن 19 عن ماهيات الأمم وتَراتُبيّتها، وأبرزها المقولة الهيغلية الشهيرة عن روح الشعب أو عبقرية الأمة. وقد تجددت هذه المقولات المؤسِّسة للنرجسية الغربية على أيدي ماكس فيبر وأميل دوركهايم اللذين يقسمان المجتمعات إلى متحضرة وبدائية. الكتاب الثاني هو «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» الذي يتصدى لنقد النظرة السائدة في الغرب منذ أواخر القرن العشرين والقائلة بعودة الديني أو عودة المقدس وحسبان هذه العودة مفتاح فهم الاضطرابات العاصفة بعالم ما بعد الحداثة. ويبين الكتاب بطلان القول بأن اقتحام الدين للمجال السياسي هو النتيجة المباشرة لانبعاث الهويات الدينية التي كان الظن أن الفكر التنويري قد محاها.
وبينما يذهب الرأي السائد إلى أن العنف المعاصر يستمد جذوره من سنوات القمع والترهيب التي أعقبت الثورة الفرنسية، فإن جورج قرم يبين أن هذا العنف إنما هو وريث محاكم التفتيش وقرن الحروب الدينية الأوروبية الطويل. أما في كتاب «نحو مقاربة دُنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط» فإن جورج قرم يتصدى لتحليل ظاهرة استغلال الدين في السياسة الدولية ولنقض القراءات الطائفية والمذهبية للنزاعات في المجتمعات العربية. وقد تكون هذه المقاربة المضيئة أفضل تجليات الفكر السياسي لدى هذا المثقف اللبناني ذي المعرفة الموسوعية والموقف الحر.
كان رجلاً دمثا آسراً بعفويته وابتسامته. يعملُ بلا كلل. يعزف البيانو ويدخن بشراهة. أعلن لي مرة: أنا مسيحي الديانة إسلامي الثقافة، وكل ما أعرفه عن حقائق الإسلام إنما أدين بالفضل فيه لأحمد أمين. سألته عن أهم المؤرخين عنده فأجاب بأنه ابن جرير الطبري! عمل في الجزائر بُعيْد الاستقلال خبيراً اقتصادياً. وروى لي، ضاحكاً، عن تلك الحقبة ذكريات طريفة. قال لي: لم أَبْكِ في حياتي بحرقة إلا إبان هزيمة 1967. له رواية بالفرنسية أهدانيها مؤكداً أنه أودعها ذَوْب وجدانه. رواية حزينة مادتها مأساة لبنان ومحنة مثقفيه في المنفى.
* كاتب تونسي
المصدر: القدس العربي
رحم الله هذا العلامة الكبير وأسكنه فسيح جناته