الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

على خطى أحمد بن فضلان (3–4)

د. عاطف معتمد *

قبل 1100 سنة وصل ابن فضلان إلى نهر الفولجا الذي أقف على ضفته في الصورة، هذا ليس نهراً صغيراً مثل دجلة والفرات، ولا طيني الضفاف مثل نهر النيل، هذا نهر واسع عريض حَفرَ في خوانق جبلية شديدة الانحدار وعلى ضفتيه غابات وأشجار كثيفة.

وإذا كان المصريون والعراقيون قد بنوا مساكنهم بالطوب اللبِن في العصور القديمة وبالحجارة في العصور الوسطى فإن ابن فضلان قد اندهش حين وجد أهل البولجار يبنون كل مساكنهم من أخشاب الغابة.

تعود صورتي إلى عام 2015 أما الجدارية فتُمثل مشهداً من عام 921 حين وصل ابن فضلان إلى ضفة هذا النهر فاستقبلهم ملك تلك البلاد، وكتب ابن فضلان يقول:

«فلما صرنا منه (ملك البولجار) على بعد فرسخين تلقانا هو بنفسه؛ فلما رآنا نزل فخرَ ساجدًا شكرًا لله جل وعز، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصبَ لنا قبابًا فنزلناها. وقرأتُ عليهم كتاب أمير المؤمنين، والترجمان يترجم حرفًا حرفًا، فلما انتهيت كبروا جميعًا تكبيرة ارتجت لها الأرض».

وبعد أن احتفى ملك البولجار بالبعثة العباسية في فنون مختلفة من الطعام وكرم الضيافة يخبرنا ابن فضلان أن ملك هذه البلاد، على عادة من يدخلون الإسلام حديثا سمّى نفسه اسماً جديداً واختار أن يكون هذا الاسم «جعفر» تيمنًا باسم أمير المؤمنين الخليفة العباسي، وغيّر اسم أبيه إلى «عبد الله»؛ فصار يُنادى على المنبر «جعفر بن عبد الله، أمير البولجار»، بدلاً من «ألموش بن يلطوار».

استراحت بعثة ابن فضلان وأخذت ضيافتها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع وقعت أزمة بين الوفد وأمير البولجار.

ففي الجدارية التي نراها في الصورة المرفقة نلاحظ أن ابن فضلان يقرأ رسالة خليفة المسلمين، وفي الفقرة الأخيرة منها تنص الرسالة على أن ابن فضلان يحمل أربعة آلاف دينار أرسلتها بغداد لبناء مسجد وقلعة حصينة.

دون جدوى، شرح ابن فضلان للملك الغاضب أن عمال خوارزم أعاقوا تحصيل الأموال وسيقع بهم العقاب، ولم يكن أمامهم إلا إكمال الرحلة لبلوغ الهدف الأسمى، غير أن الملك لم يصدق ووقع سوء من الفهم دام لعدة أيام بين أمير البولجار وابن فضلان.

ويحضرني هنا حضوري لافتتاح المسجد الجامع في العاصمة موسكو في ذات الفترة التي زرتُ فيها البولجار في عام 2015. كانت بعض وفود إسلامية تجلس بجوار الرئيس فلاديمير بوتين في افتتاح المسجد وفي مقدمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلنت الصحف الروسية أن بلاده ساهمت بمبلغ مالي كبير في تجديد مسجد موسكو الكبير بعد أكثر من 120 سنة على تأسيسه.

لم يكن بوتين في حاجة إلى أموال تركيا في ظل العلاقات الندّية والتنافس بين الطرفين، لكن التقاليد تقول إن مساهمة دولة إسلامية في تجديد مسجد هو على سبيل قبول الهدية والعلاقات الودية بين الدول وتلبيةً لرغبة مسلمي تلك البلاد بأن أبناء عمومتهم يشاركون في بناء مساجدهم.

يمكننا هنا فهم السبب الذي أدى لوقوع أزمة دبلوماسية قبل 1100 سنة بين ملك البولجار وبعثة أحمد بن فضلان. فملك البولجار عنده من الثراء ما يكفيه ويُغنيه عن الهدية المقدرة بـ «أربعة آلاف دينار» لبناء مسجد لكن الموقف في حد ذاته يُعبر عن القيمة الرمزية بأن دولة الخلافة هي التي أسست مسجد البولجار بنفسها فيعطي ذلك قيمة دينية وثقافية وعقائدية كما يمنح ملك البولجار شرعية دينية أكبر من مجرد إنفاق أمواله على تأسيس المسجد الأول في تلك البلاد.

يفسر لنا المؤرخ الروسي “رافيل بخارييف” في كتابه القيّم «الإسلام في روسيا.. الفصول الأربعة» أن الغضب الذي وقع لملك البولجار ليس طمعًا في المال؛ إذ أن مملكة البولجار كانت في رغد من العيش، كما أن الأربعة آلاف درهم ليست مطمعًا لملك بمكانة يلطوار، وإنما كان المقصود هو التبرك بهذه الأموال.

ويستند بخارييف في ذلك إلى نص رسالة ابن فضلان نفسه التي جاء فيها قول ملك البولجار لابن فضلان:

«تعّلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعثَ إلي جيشًا أكان يقدر عليّ؟

قلت: لا.

قال : فأمير خراسان؟

قلت: لا.

قال: أليس لبُعد المسافة وما بيننا من قبائل الكفار؟

قلت: بلى.

قال: فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو عليّ فأهلك بمكاني وهو في مملكته»!

موضوع الدعاء وأخذ البركة هذا مهم ومُلهم جداً، وقد ذكرني هذا الحوار ببحث أجريته عن أدب الرحلة في سيناء (وألقيت البحث في مؤتمر لعلم الاستشراق في روسيا)، وقد عرجت في البحث على مراجع تناولت رحلات الحج الروسية إلى القدس وكان من تقاليد الحج الروسي أن تتوجه بعثة الحج المسيحي هذه أولاً إلى بابا الإسكندرية في مصر وتطلب منه أن يمنح روسيا البركة وأن يرفع أكف الدعاء للقيصر وللشعب الروسي، ولا تغادر البعثة الروسية إلى مراسم الحج إلا بعد أن يتم ذلك.

نعود إلى ابن فضلان قبل 1100 سنة، ونتابع الخلاف الذي وقع بسبب عدم وصول الهدية لبناء المسجد فنجد إشارة بالغة الأهمية تكشف لنا عن أن شعب البولجار كان يعرف عن الإسلام الكثير قبل وصول البعثة.

فالمؤرخ الروسي بخارييف يلفت انتباهنا إلى أن أنه فور وقوع النزاع والشقاق بين الملك وبعثة بن فضلان لم يصدق ملك البولجار أن أمراء خراسان وخوارزم رفضوا دفع الأموال المستحقة عليهم للخليفة فأخذ يغمز في أمانة ابن فضلان وكان يناديه على سبيل المزاح الثقيل «أبو بكر الصديق».

ورغم أن هذه مداعبة ثقيلة أحزنت ابن فضلان إلا أنها كشفت كيف أن أهل تلك البلاد لم يتأخروا في معرفة الإسلام حتى عام وصول ابن فضلان في 309 هجرية (921 م) بل جاءتهم المعلومات والأخبار والسير والمفاهيم مبكراً قبل ذلك بكثير.

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.