أيمن الشوفي *
يستلهم بشّار الأسد الصمتَ والغياب، ويستغرق بهما وصفةً طبيّةً مُجرّبةً لديه، وذلك كلّما أصابَ الصداعُ والترقّبُ مزاج العلاقة القائمة بين إسرائيل وما يُسمّى “محور المقاومة والممانعة”، فيحاول بهذا تفادي إصابته بشبهةِ أن يكون راغباً حقّاً في مواجهة إسرائيل المُستعجِلة عسكرياً، أو حتّى الإيحاء بمُجرّد اقتراب هذه الفكرة الباهظة الكلفة من ذهنه البراغماتي الضيّق. ولعلّه بهذا السلوك المصطنع، ينالُ مزيداً من قبوله لدى دولة الكيان، وجوداً شائكاً ومتصدّعاً، لكنّه مرحليٌّ وضروريٌّ عند حدودها معه، وبوصفه راعيّاً مُخلص النيات لتدمير “سورية الأسد”، وشريكاً حيويّاً في إيصالها إلى ضفّة هذا الخراب الآمن، الذي بدأ يستوطنها منذ 13عاماً.
ومع تدفّق احتمال نشوب حربٍ إقليمية واسعة الطيف، واختلاطه بيوميات القاطنين داخل هذه الجغرافيا المُستفزّة، المحيطة بإسرائيل، تصير الحياة هنا “عملاً شاقّاً” وخاصةً في الجغرافية السورية التي يحتلّها النظام، ليكون بمقدور الاسترزاق أن يصيح بوجه الجميع، وكأنه توجّهٌ عام ينال مسوغاتٍ كثيرة تبرّره من دون الالتفات إلى المعيار الأخلاقي أو القيميّ، الذي قد يقارعه، والذي يُعتبر لصيقاً بمفهوم “المواطنة” الغائبة كلّياً عن ثقافة النظام السوري بنسختَيه القبيحتَين، نسخة الأسد الأب، ونسخة الأسد الابن.
إذ لطالما كان النظام، ومن خلال تسلّطه على الشأن العام، حريصاً على إلهاء الناس عن تفسير وجودهم مواطنين داخل دولة حقيقية، بل دفعهم إلى التشبّع بإحساس أنهم أقنانٌ، أو أرقامٌ محضة تخصُّ القيود الاجتماعية في سجّلات النفوس، أو أرقامٌ مضجرة يبثّها المكتب المركزي للإحصاء كلّ عدّة أعوام، عندما يُجري مسحاً ديموغرافياً للتعداد العام للسكّان، فلم ينشأ طوال نصف آخر قرن من تاريخ سورية المعاصر ما يدلُّ على تأسيس وطنٍ حقيقي بالمعنى الدستوري، وبما يضمنه عقدٌ اجتماعي حضاري، بحيث صار شائكاً أن تقبل سورية وطناً جادَّ الدلالة في زمن حكم عائلة الأسد، وإنما تجرّع الجميع الخوفَ، ودسائسَه ليقبلوا به حالةَ تعايشٍ قسريّةٍ بين مجتمع مُنهكٍ، وسلطةٍ عجفاءَ تحاربه، فظنّوا أن ذلك هو الوطن.
ولأنّ ترويج فعل الاسترزاق في سورية جرى تداوله على نحوٍ جاذبٍ ومعمّق، بالاستناد إلى أنّ السلطة الحاكمة مُجرَّد عصابة تسترزق أينما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما جعل الاسترزاق معفياً من تقديم أيّ ضريبة أخلاقية تتفهّم منشأه، أو تستدرك نموّه واتساعه، وذلك بدءاً من نهب أثاث المناطق التي ثارت على النظام ودمّرها بالكامل، مروراً بتراكم الحواجز العسكرية والأمنية وما تفرضه من إتاواتٍ مقابلَ ترانزيت عبورٍ آمن، ولا سيّما حواجز الفرقة الرابعة، التي يقودها شقيق رأس النظام السوري، وصولاً إلى حجب الخدمات الأساسية عن الناس من كهرباء وماء ومحروقات، وإدارة بيعها، أو بيع ما يماثلها في أسواقٍ موازية تقبض على مُدخلاتها ومُخرجاتها عصابةٌ حاكمة سواء في أعلى هرمها، أو في قاع ذاك الهرم النتن للحكم.
وإن سلّمنا بصحّة خبر زيارة رئيس أركان جيش النظام السوري، العماد عبد الكريم محمود إبراهيم، طهران من دون إبلاغ بشّار الأسد بذلك (؟) فإنّنا نكون واقفين قبالةَ فعلِ الاسترزاق مُجدَّداً، لأنّ رئيس الأركان السوري، وكما أفادت الأنباء التي حَدَجَتْ تلك الزيارة، واستمرأت تحليلها، قد اتخذ قراراتٍ عسكريةً من شأنها زيادة ارتباط (الارتباط هنا يعني التبعيّة) جيش بشّار الأسد بإيران، وما رافق ذلك من نقل مُعدَّات عسكرية وقتالية من ثكنات جيش النظام السوري، إلى ثكنات مليشيا حزب الله. وهذا بذاته استرزاقٌ فاضحُ النَسَبِ يؤمن بأنّ سورية فُسحةٌ خصبة تصلحُ فقط إمّا للبيع أو للتأجير أو للاستثمار، أي ليست وطناً أو قيمةً عليا داخل الفضاء الاجتماعي العام.
ثمّ أليس بشّار الأسد أوّل من أقدم على بيع سورية وكأنّها ملكيةٌ تخصّه، بما فيها من استثمارات، ومظاهر سيادة، إلى كلّ من إيران وروسيا؟ أليس رأس النظام هو قدوةُ من يتبع له من مكوّنات سلطته الفاقدة للشرعية والأخلاق؟ فالسوريون إذاً يكابدون بمفردهم لأجل النجاة من فعل التَهْلُكة الذي يتربّص بمصائرهم على الدوام، إذ يسعى النظام الذي يحكمهم إلى جعل الجوع قيمةً ضاربة، يخاطب بها المجتمع السوري، محاولاً تثبيتها أيضاً متلازمةً مجحفةً تُمسك برقاب الذين بقوا عالقين داخل حدود سيطرته، وإن عدنا إلى مطلع شهر مارس/ آذار من هذا العام (2024)، لوجدنا برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتّحدة يقول إنّه ساعد أكثر من 135 ألف سوري خلال يناير/ كانون الثاني من العام نفسه، لكنّه يحتاج إلى نحو 480 مليون دولار لتمويل جميع أنشطته الإغاثية الخاصّة بالسوريين، بين فبراير/ شباط ويوليو/ تموز 2024.
تبدو تلك المساعدات ضروريةً لأنّها تقلّل من أوجاع الجوع إنْ انكشفت عورته فوق الوجوه، وهذا الانكشاف سيطاول 13 مليون سوري هذا العام. في المقابل نجد كيف كان النظام يستولي على جزء كبير من تلك المساعدات الغذائية، وهذا استرزاقٌ أكثر رُخصاً من سابقيه، إذ تعود دوائرُ من السلطة الرخيصة إلى بيع تلك المساعدات إلى الناس، وكأنّ النظام دفع ثمنها، حتّى أنّه اضطرَّ إلى دفن أطنانٍ منها، وذلك بعد انتهاء صلاحية استهلاكها نتيجة تخزينها فترةً طويلةً، وهذا حدث بالفعل في منطقة عمريت بريف طرطوس، حيث يُقيمُ جزءٌ من حاضنة النظام الطائفية، التي اكتشفت ذاك الغذاء المدفون مصادفةً في منتصف أغسطس/ آب من العام الماضي (2023)، مغروساً داخل التراب في أماكنَ متعدّدة من تلك المنطقة.
الأشد إيلاماً من ذلك كلّه أن تتوجّه زوجة أحد المصابين من جيش النظام إلى فرع الهلال الأحمر السوري (يتبع عملياً لمنظمةَ الصليب الأحمر الدوليّة)، في مرفأ اللاذقية، مطلع أغسطس/ آب الحالي، لاستلام معونة مخصّصة لزوجها المصاب بإعاقة دائمة نتيجة دفاعه عن كرسيّ الطاغية بشّار الأسد، لتكون المعونة المنتظرة “بيدون” ماء بلاستيكيّاً فارغاً ومثقوباً، عاد وتصوّر معه هذا الجنديّ، وتناقلَ الصورةَ نشطاءٌ كثيرون، ووسائلُ إعلام موالية، وكثيرٌ أيضاً من صفحات التواصل الاجتماعي، وتركّزت التعليقات والتفاعلات حول المرارة، والسخط المزري من تلك الممارسات السلطوية، والتي تتجاوز فعل الاسترزاق بكثير، لتبلغ أقصى درجات الدناءة والنذالة في إدارة الشأن العام للبلاد.
ألا يقطف السوريون هنا ثمارَ ما أنضجته مواسمُ قبولهم هذه العصابة الحاكمة، واستمرارها باختطاف البلد، واستمرار زعيمها وأفراد أسرته متربّعين على قمة قهر الناس، وتوزيع المهانة عليهم، للموالين منهم قبل المعارضين؟ فالأمر برمّته ينحني ويلتف حول فعل الاسترزاق، ليصير ملتصقاً أكثر باستعباد المجتمع وإذلاله الممنهج، فتلك المساعدات المثقوبة، والمُعيبُ توزيعها على أتباع النظام يسهلُ رثاءُ حال من طاولتهم، ويسهلُ معها هجاءُ هذه السلطة المثقوبة من الجهات كلّها.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد