عبد الله السناوي *
لا تلخص مدينة القدس القضية الفلسطينية، لكنها ترمز إلى أكثر مواضعها حساسية وإلهاماً لمئات الملايين في أنحاء العالم.
بقوة رمزيتها أطلق على أحداث السابع من تشرين الاول/ أكتوبر (2023) اسم عملية «طوفان الأقصى»، رغم أن وقائعها جرت في غلاف غزة على بعد عشرات الكيلو مترات من المدينة المقدسة.
كما نُسبت التضحيات في قطاع غزة، التي تفوق القدرة الإنسانية على التحمل، من حروب إبادة وتجويع منهجي إلى رمزية القدس ذاتها.
لا يمكن تفريغ الصراع الضاري على مستقبل القضية الفلسطينية من أبعاده الروحية.
وقد أضفت الاقتحامات المتكررة بقيادة الوزير اليميني الأكثر تطرفاً «ايتمار بن غفير» للمسجد الأقصى تساؤلات خطرة حول ما قد يحدث مستقبلاً، كأن يهدم بسيناريو أو آخر.
مصير المدينة المقدسة ليس شأناً يخص المسلمين وحدهم.
بصورة رمزية فإن مصير المسجد الأقصى وكنيسة القيامة واحد.
في التفاته رجل لديه حس استثنائي بالتاريخ أغلق البابا الراحل «شنودة الثالث» ذات حوار بيننا منتصف تسعينيات القرن الماضي جهاز التسجيل متسائلاً: «ماذا قد يحدث، وحاشا لله، إذا ما هدم المسجد الأقصى؟!».
انطوى سؤاله في وقته وحينه على خشية صريحة من مستوى الأداء الرسمي العربي في مواجهة التحديات والمخاطر، لعل الأمور الآن أسوأ.
«زيارة القدس الآن خيانة للمسيح».
كانت تلك عبارة قاطعة كلفتهُ صراعات وصدامات تمكّنَ بثقله الروحي من تجاوزها.
الوجهان متداخلان، الديني والسياسي، الإسلامي والمسيحي، والفصل مستحيل.
«القدس خط أحمر.. ومن يوافق على التفريط فيها ثمنه رصاصة».
كان ذلك من رأي الرئيس الأسبق «حسني مبارك»، كما أعرب عنه أثناء لقاء ضمه إلى مجموعة من رؤساء تحرير الصحف المصرية إثر مقتل الطفل الفلسطيني «محمد الدرة» في (30) أيلول/ سبتمبر (2000).
عمت وقتها شوارع القاهرة تظاهرات غاضبة لتلاميذ المدارس.
كانت تلك العبارة بحذافيرها من مأثورات الزعيم الفلسطيني الراحل «ياسر عرفات».
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ردد «فاروق قدومي» رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية نفس العبارة بحمولاتها السياسية والإنسانية.
ذات لقاء طرحتُ عليه سؤالاً يتعلق بمصير القدس واحتمالات التفريط فيها في أية مفاوضات لاحقة.. صنع بيده اليمني شكل مسدس، ثم لوح بيده كأن رصاصة تنطلق.. قائلاً: «هذا هو مصير من يفرط فيها حتى لو كان عرفات نفسه».
هو رجلٌ عُهد عنه الاتساق في المواقف والسياسات مهما كلفته من صدامات مع رفاقه، الذين شاركهم تأسيس حركة «فتح» كبرى المنظمات الفلسطينية.
عارض اتفاقية «أوسلو» وصوتَ ضدها في اللجنة التنفيذية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووقف دوماً مع حق المقاومة حتى رحيله الحزين قبل أيام في ذروة المواجهات على المصير الفلسطيني.
القدس لا مساومة عليها ولا تفريط فيها.
هذه حقيقة لا يمكن تجاوزها بأي حساب أو اعتبار.
في الأيام الأخيرة شاعت على شبكة التواصل الاجتماعي أقوال متهافتة لناشط مجهول يتحدث باسم جماعة مجهولة تنسب نفسها إلى العلمانية يتحدث باستهتار بالغ عن القدس قائلاً: «إنها مدينة عادية كأي مدينة أخرى، لا شأن لنا بها ولا بقضيتها».
الكلام بذاته لا قيمة له، لكنه ليس مجانياً.
بتوقيته فإنه يدخل في الصراع على مستقبل القدس كتلخيص للقضية الفلسطينية كلها.
وبمنطقه فإنه هدية مجانية تُسلم بشرعية الاحتلال وتهويد القدس بالكامل وطرد الفلسطينيين منها والقبول بهدم المسجد الأقصى.
الكلام ليس جديداً، لكنه هذه المرة أفلتت عباراته عن أي منطق.
قد يقال إن صاحبه مجهول وتأثيره منعدم، لكن الكلام يدخل في سياق الصراع المحتدم على المعاني الكبرى والرموز النافذة.
بصورة أو أخرى فهو امتداد لدعوات أخرى حاولت نزع القداسة عن المسجد الأقصى بالتشكيك في موضعه بالمدينة المقدسة وفي رواية «المعراج» نفسها.
بما هو سياسي فإن التشكيك يستدعي بالضرورة نفي أية أحقية عربية في القدس وينفي عن فكرة المقاومة جدارتها ومشروعيتها.
هذا هو صلب الكلام المتفلت.
إنه الصراع على الرموز والمعاني الكبرى.
الاستهداف نفسه يتمدد جوهرياً إلى ما هو سياسي مباشر بتعمد النَيّل من ثلاث شخصيات تاريخية على سبيل الحصر، «صلاح الدين الأيوبي» برمزيتهِ في تحرير القدس، و«أحمد عرابي» بدوره في تحدي المشروع الاستعماري بقوة السلاح، و«جمال عبدالناصر» بمشروعه التحرري الوطنى والعروبي.
هناك فارق بين النقد المشروع والاستهداف بالتشويه.
الأول مشروع تماماً.. والثاني جريمة تاريخية متكاملة.
إذا لم يكن لمصر وعالمها العربي شأن بقضية القدس فإنها تخسر كل شيء، أدوارها في عالمها العربي واحترامها لنفسها.
إنه التسليم بكامل الرواية الصهيونية، والهزيمة المطلقة التي فشلوا أن يصلوا إليها في ميادين القتال.
بما لديه من مستندات وخرائط حذر شيخ الأقصى «رائد صلاح» مبكراً من حجم الأخطار التي تحيق بالمسجد المبارك وتهدد بانهيار مفاجئ في بنيانه جراء حفريات اقتربت من عمقه تحت المنطقة المسماة الكأس بين المسجد وقبة الصخرة.
كان من رأى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رداً على رسالة من الشيخ «صلاح»: «إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلماً خالداً بالنسبة لنا جميعاً، فهو الحسنيان معاً، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ».
«القضية تتعدى أي شخص وأي مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التي لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسي شعبي واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم- قبل غيرهم وفي مقدمة الصفوف- عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».
كانت تلك رؤية في معنى أن تكون مقدسياً، غير أنها لا تلغي بالوقت نفسه مسؤولية الآخرين في الدعم والإسناد.
برمزية الأقصى في الحرب على غزة دفع أهلها أثماناً باهظة تفوق طاقة البشر على أي تحمل من أجل أن يعاد اعتبار القضية الفلسطينية من جديد.
هذا جوهر الصراع على المصير والمعنى الحقيقي للمقاومة تحت أسوأ الظروف وأخطر التحديات.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق