رانيا مصطفى *
يدخُلُ الحراكُ الشعبيُّ في محافظة السويداء عامَهُ الثاني بزخمِ كبير تمثَّلَ في تظاهرات يوم الجمعة الفائت، ويمكن القول إنّ انتفاضة السويداء نجحت في امتحان الوطنية، حين تغلبت على المشاريع التخريبية كلّها، والتشويه الذي يمارسه الإعلام المقرّب من النظام، وكذلك أطراف من المُعارَضة في حقّه، من طريق الردِّ بتظاهراتٍ عارمة في كلّ مرّة، لمواجهة تُهمِ الطائفية والتخوين وأنّ دروز سورية يريدون الانفصال والاحتماء بإسرائيل، وأوصاف مسيئة للنساء المشاركات في حضور بارز في ساحة الكرامة، وللردّ على أنّها ثورة جياع عبر تقديم المناسف والفواكه في الساحة بسَخاءٍ ورفضِ المساعدات الغذائية التي أُشيْعَ أنّها قادمةٌ من روسيا، وعدم الانسياق وراء استفزازات النظام بعد قتل متظاهر، ثمّ اغتيال قائد لواء الجبل، مرهج الجرماني، الذي يقوم بدور الحماية الأمنية والدفاع عن المحافظة ضدّ عصابات الخطف والاتجار بالمخدّرات ممن ورَّطَهُم النظام من أبناء المحافظة، واعتقال شبّانٍ خارج السويداء من طلاب أو رافضين للخدمة العسكرية الإلزامية، أو نساء، وإخراجهم بمبادلة بعد خطف فصائل السويداء لضبّاط النظام، وتعيين محافظ جديد له خلفية أمنية، واستقدام تعزيزاتٍ أمنيةٍ وتطويق مدخل المدينة بالحواجز الأمنية لعزلها عن محيطها، والتي أُبطل مفعولها بعد مفاوضات مع الجهات الأمنية، وتحوّلت حواجزَ عسكريةً لا تتدخّل بالمارّة المدنيين.
كذلك، نجح المُحتجُّون في الاتفاق على منع إجراء الانتخابات التشريعية في المحافظة في 15 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وأخيراً في تشكيل هيئة عامّة للحراك، بارَكَها شيخ عقل الطائفة، حكمت الهجري، وفي انتخاب لجنة سياسية في بلدة قنوات، وفي الاتفاق على ثوابت وحدة الأراضي السورية وسلمية الحراك والمطالبة بالحلّ السياسي برعاية أممية، وفق قرار مجلس الأمن 2254 (أكّد أنّ الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخاباتٍ برعاية أممية). لكنّ المكوّنات الفاعلة في الحراك ما زالت عاجزةً عن التوافق على صياغة برامجَ سياسيةٍ ثوريةٍ يمكن أن تمثِّلَ مشروعاً وطنياً يجمع السوريين حوله، بسبب اختلاف التوجّهات والخلفيات السياسية والاجتماعية.
هذا العامُ من الصُّمود في الساحات، ولكن أيضاً التعثُّر في التوصّل إلى برامجَ سياسيةٍ في أرض الواقع تُترجِم الشعارات العامّة التي توافقت عليها قيادات الاحتجاج، هو نتيجة طبيعية للحالة السورية المعقَّدة والمركّبة، سواء حالة النُخَب السياسية والاجتماعية من الطبقة الوسطى المتعلّمة الطامحة إلى الديمقراطية والحرّيات والمشاركة السياسية، أو حالة الفئات الأهلية التقليدية، الساعية إلى ارتقاء أوضاعها المعيشية والخدمية وتأمين مستقبل أفضل لأبنائها. تكمُنُ أهمّية استمرار انتفاضة السويداء في وطنيَّتها واستنادها إلى ما أنجزه السوريون في ثورتهم منذ 2011، من سلبيات وإيجابيات، وفي أنّها تجمَعُ أطيافاً سياسية واجتماعية متنوّعة ومتخالفة في الرؤى والتطلّعات والأهداف، لكنَّها تقاربُ تنوّع الحالة السورية الأم. وهذا العامُ المُتعثِّر سياسياً أنجز كثيراً في صعيد إيجاد فضاءٍ عامٍّ حرٍّ، وحواراتٍ سياسيةٍ مفتوحةٍ تحت ضغط الحفاظ على استمرارية الحَراك والقطيعة التامّة مع إمكانية العودة إلى ما قبل منتصف أغسطس/ آب 2023، خاصّة مع فشل إدراة النظام ملفَّ الفساد، والاقتصاد، والحالة المعيشية، وهذا خلق توافقاً بين المُحتجِّين، ومنهم جماعاتٌ أهليةٌ كانت تقف في صفّ النظام أو على الحياد، على ضرورة التغيير السياسي وفق القرارات الأممية. هذه التجربة تستند إلى بدايات الثورة في 2011 وما تلاها من انحرافات دراماتيكية، ولكن أيضاً إلى إجراء مراجعة لأخطائها، وإن كانت غير منضبطةٍ أو مدروسةٍ، ومحاولة تجنُّبها؛ فأولاً، اتخاذ الشكل السلمي للحراك وعدم الانجرار نحو العمل المسلّح، رغم وجود فصائل متعدّدة تحمل السلاح، وحصر دورها في الحفاظ على أمن المدينة، خاصّة من انتهاكات عصابات الخطف والاتجار بالمخدّرات، وهنا يلحظ المُحتجُّون خطأ تحوّل الثورة عملاً مسلَّحاً من دون وضع استراتيجية تُبقي على أولوية العمل المدني والسياسي في الداخل. وثانياً، هذا الحذر من العمل المسلّح يقود إلى فكرةٍ أخرى، هي تجنُّب انفصال المحافظة عن الدولة المركزية في دمشق، ما يبقي على أهمّية أن يكون التغيير السياسي مركزياً بعد فشل سياسة تحرير المدن، التي اتبعها “الجيش الحرّ” في الثورة السورية، وكذلك المُعارَضة، التي راهنت على دعم خارجي، وانتهى الأمر إلى حكمٍ مناطقيٍّ، ثمّ دخول جماعات جهادية وسلفية، ليس لها علاقة بالثورة، وما تبعها من تدخّلات خارجية.
عدم قدرة النظام على مواجهة احتجاجات السويداء بالعنف، كما فعل مع باقي المناطق السورية، يسمح للمنتفضين باتّخاذ قرار الحفاظ على سلمية الحراك، لكنّ ذلك أيضاً لا يُبرّر خطأ الانقياد وراء مشاريع فئوية سَمح بها العمل المسلّح، والتمويل الخارجي، خلال إنهاء دور الحراك الشعبي في 2013. المقارنة هنا بين عجز النظام عن مواجهة حراك السويداء بالعنف في مقابل استخدامه العنفَ المُفرِط في تظاهرات العامَين الأولَين للثورة، هي مقارنةٌ خاطئةٌ، لأنّ حَراك السويداء هو نتاج الثورة السورية، والنظام أصبح شديد الضعف، وتابعاً، ويحسب حساباً لتدخّل خارجي جديد إذا قام بارتكاب مجازر في السويداء.
ثالثاً، حراك السويداء أسقط مقولةَ تأييد الأقلّيات للنظام، والأكثر أهمّيةً أنّه يُرسّخ ثوابتَ الدولة العلمانية عبر رفع شعار “الدين لله والوطن للجميع”، الذي قال به مشايخ العقل، وهذا يطرح سؤال العلمانية في الفضاء السوري، الذي لم يُناقش خلال سنوات الثورة والحرب العنيفة، وطرح هذا النقاش يُعبّر عن مخاوف الأقليات الدينية، وشرائح عريضة من المجتمع السوري، من خطورة حكم الجماعات الإسلامية، وعدم فصل ما هو مُقدَّس عن العمل السياسي، وبات من الضروري حسمه لدى الفئات التي لديها رؤية ضبابية بخصوصه، خاصّة بعد التجارب الرديئة لحكم مجموعات إسلامية بأيديولوجيات متفاوتة في تشدّدها، وذات مصالح متضاربة ومتصارعة.
يبقى سؤال الديمقراطية، الذي تطرحه غالبية النُخَب السورية، هو ما يحتاج إلى نقاش، نُعوّل على أبناء السويداء وهيئة الحراك السلمي ولجنته أن ينجزوه قبل صياغة برامجهم؛ إذ إنّ الديمقراطية القائمة على أساس المواطنة ليست وحدها الوصفة السياسية الكافية والناجعة والمقنعة لمستقبل سورية، إلّا إذا رُبطت بعلمانية الدولة، وبمشاركة الشعب عبر النقابات والاتّحادات المستقلّة، وبالنمط الاقتصادي القادر على تأمين احتياجات غالبية الشعب السوري، والخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعدم التعويل على أوهام سياسات الانفتاح الاقتصادي، في مقابل التقشّف وتقليص دور الدولة في توفير الخدمات الصحية والتعليمية للشعب؛ وإنجاز هذه البرامج هو ما يكفل عودة الشعب السوري إلى الثورة في المناطق السورية كلّها.
أخيراً، إنّ حراك السويداء يخلق تجربةً سوريةً مهمّة للمرّة الأولى، ستنعكس نتائجها في كلِّ الفضاءات السورية، في مناطق النظام، ومناطق المعارضة شمالاً، والإدارة الذاتية في الشمال الشرقي.
* كاتبة سورية
المصدر: العربي الجديد