الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

النجمة 51 خفت بريقها

رياض معسعس *

لا مجال للريب اليوم ونحن نقترب من السنة على الحرب في غزة من أن الولايات المتحدة تعتبر دولة الاحتلال كما لو أنها ولاية 51 من ولاياتها، حتى وإن لم تضع في علمها النجمة 51 (ربما فقط لأنها سداسية)، فالدعم المنقطع النظير الذي قدمته لها في جميع حروبها العدوانية على الفلسطينيين والبلاد العربية يؤكد أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة من عام النكبة إلى اليوم لم تكن تعمل لصالح الفلسطينيين خاصة، والعرب عامة، بل كان همها الأوحد هو حماية دولة الاحتلال ومباركة مستوطناتها، وضمها للأراضي العربية مشاركين ضمنا بالمشروع الصهيوني الكبير، والذي يؤكد ذلك الجواب على السؤال ماذا قدمت واشنطن للاحتلال، وماذا قدمت للعرب؟

منذ البداية:

لابد هنا من العودة إلى التاريخ الحديث لمعرفة استراتيجية أمريكا في علاقاتها مع مكونين أساسيين في منطقة الشرق الأوسط: العرب (لا أقول الدول لأنها لم تكن قد تشكلت بعد لأنها كانت تحت الحكم العثماني)، وإسرائيل التي أيضا لم تكن قد أنشئت بعد. فالولايات المتحدة خرجت من عزلتها الأطلسية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وانطلقت نحو العالمية بمشاركة الرئيس وودرو ويلسون في مؤتمر فرساي في فرنسا، وتقديمه المبادئ الـ 14 منها (حرية الملاحة، المحافظة على السلام، تخفيض التسلح، وضع إدارة عادلة للمستعمرات، وإعطاء الشعوب الأخرى غير التركية التي تخضع لها حق تقرير المصير). هذه المبادئ بالطبع التي تعتبر خطوة نوعية في النظر للبلدان الواقعة تحت السيطرة الأجنبية، لكن نرى أن التي أطلقتها لم تحترمها ولا حتى الدول المعنية وخاصة فرنسا وبريطانيا الاستعماريتين.

وكانت معاهدة فرساي تمهيدا للحرب العالمية الثانية. وما بين الحربين وقعت مجموعة من المستجدات استرعت الانتباه الأمريكي (وعد بلفور وهجرة اليهود إلى فلسطين، سايكس بيكو والانتداب الفرنسي البريطاني على دول الشرق الأوسط، صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، بروز الشيوعية والاتحاد السوفييتي، سيطرة عبد العزيز بن سعود على الجزيرة العربية واكتشاف النفط)، ثلاثة أمور كانت الأهم بالنسبة لأمريكا: الدولة اليهودية في فلسطين، تمدد الشيوعية في العالم. النفط في الأراضي العربية.

تفاصيل شيطانية:

كما ورثت أمريكا فيتنام عن فرنسا بعد هزيمتها في معركة “دين بين فو” في الحرب الهند الصينية، وحاربت عنها لغاية الهزيمة المخزية، وتحرير فيتنام، ورثت أمريكا فلسطين ومشروع الدولة اليهودية من حليفتها بريطانيا صاحبة الأفكار الشيطانية التي أصدرت وعد بلفور لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، فالرئيس الأمريكي هاري ترومان كان أول من اعترف بدولة إسرائيل (بعد 11 دقيقة)، منذئذ أرادت واشنطن بناء علاقات استراتيجية مع الكيان المنشأ الطري العود وتقويته وترسيخه، لعدة أسباب بعيدة النظر:

بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية بانتصار ساحق على النازية والفاشية تصدرت أمريكا المشهد العالمي فهي التي أنقذت أوروبا من الغول النازي، وهي التي حررت فرنسا وباقي الدول التي سيطرت عليها ألمانيا النازية، وهي التي جعلت من الدولار عملة عالمية في مؤتمر “بروتون وودز” والآن لابد من ترتيب العالم على مزاج أمريكي بتدخل مباشر أو عن طريق وسطاء، وحلفاء، وهنا يأتي دور حماية إسرائيل كدولة ناشئة تكون حليفا يعتمد عليه كقاعدة متقدمة في الشرق الأوسط، لحماية المصالح النفطية والنفوذ المتزايد للولايات المتحدة التي بدأت معه مرحلة الحلول محل المستعمر القديم (فرنسا وبريطانيا)، والاعتماد على الدولة التي ستنشأ قريبا( في يونيو/ حزيران 1944 أصدر الحزب الجمهوري قرارا دعا فيه إلى “إيواء اليهود الذين طردوا من أوطانهم”، كما دعا إلى فتح أبواب فلسطين لهجرة غير مقيدة وإلى تملك اليهود الأراضي فيها”) ومنذ النكبة بات لزاما على كل رئيس أمريكي أن يؤكّد بعد تنصيبه التزامه بأمن إسرائيل واستقرارها.

ومهمات الدولة الحديثة المنشأ الحليفة هي: خلق نزاعات تضمن فتح سوق جديدة لمصانع الأسلحة في أمريكا، وضرب كل محاولة للنهضة قادرة على بناء دول قوية قادرة على مواجهة إسرائيل (متابعة لاتفاقية سايكس بيكو في تقسيم المقسم وهذ ما يفسر محاولة أمريكا دعم مكونات انفصالية في المنطقة، كردية من ناحية وضرب السنة بالشيعة للوصول إلى مكونات كونفيدرالية لا تربطها أي روابط قومية بل عرقية وطائفية)، دعم خفي لمخطط الصهيونية العالمية بتوسيع رقعة الاحتلال الإسرائيلي (إنشاء دولة بمساحات واسعة من أراض عربية مقضومة بفعل الحروب والاحتلال، وهذا ما يفسر قرار دونالد ترامب بضم الجولان السوري للاحتلال الإسرائيلي (وكأن هذه الأراضي ملكا لأمريكا)، ونقل سفارة أمريكا إلى القدس كاعتراف أنها عاصمة إسرائيل، وغض الطرف عن بناء المستعمرات في الضفة الغربية والجولان، وبناء جدار الفصل العنصري الذي قضم نحو 46في المئة من مساحة الضفة الغربية البالغة 5800 كم2، وبالطبع هي ـ أي أمريكا ـ على علم بالمخطط الصهيوني في احتلال الأراضي من “الفرات للنيل” وربما لما بعدهما، وتوافق عليه ضمنيا لأنها ستمحي دولا عربية من الخريطة وتكون هناك دولة واحدة تسيطر ليس فقط على الدول العربية بل على دول المنطقة بأكملها بما فيها إيران وتركيا). وهذه الدولة يجب أن تفرض وجودها باعتراف الدول العربية بها لضمانها من أي مغامرة عسكرية من جهة، وضمان ازدهار اقتصادها بالتبادل التجاري والصناعي والزراعي معها من جهة أخرى.

ليس كل من رضخ لعصا طاعة واشنطن يمكن اعتباره حليفا، فحلفاء أمريكا هم الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولكن الولايات المتحدة سنت قانونا تعطي بموجبه صفة “حليف من خارج الناتو” في العام 1987 وحسب هذا القانون فإن الدول الحلفاء من خارج الناتو هي (إسرائيل، أستراليا، اليابان، كوريا الجنوبية، نيوزيلندا، الأرجنتين، الفيليبين، تايلاند، باكستان، البرازيل، كولومبيا، كينيا، مصر، الأردن، البحرين، الكويت، المغرب، تونس). في العام 2014 أقر مجلس النواب الأمريكي قانون الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبموجبه أصبحت دولة الاحتلال وحدها من بين كل الدول الحليفة أعلى درجة من “حليف خارج الناتو”، أي لامست مرتبة الولاية الجديدة دون التسمية رسميا.

وهذا ما يفسر الدفاع المستميت عنها عبر المساعدات التي فاقت 270 مليارا منذ إنشائها بنسب كبيرة جدا من التي تلقتها الدول الأخرى، والمشاركة المخابراتية بين البلدين على مستوى رفيع جدا، كما أن أمريكا شاركت رسميا في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد العرب، بل وعاقبت الدول التي تجرأت وضربتها عسكريا (كما حصل في العراق فإن الغزو الأمريكي لم يكن لأن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل كما ادعت أمريكا كذبا، ولكن لأن صدام حسين تجرأ وقصف إسرائيل بصواريخ السكود)، ومن هنا جاء تهديد وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من مصير مشابه لمصير الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وذلك بعد تلويح الرئيس التركي بالتدخل العسكري ضد إسرائيل، وجاء رد أردوغان بتذكير نتنياهو بمصير هتلر).

شوكة غزة:

منذ انطلاقة عملية طوفان الأقصى التي أصبحت شوكة في خاصرة إسرائيل، لم تتوان إدارة بايدن من إرسال أكبر قنابلها الفتاكة وأحدث أسلحتها، ومعها بعض حلفائها (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بشكل خاص) وإعانات بمبلغ تجاوز 50 مليار دولار، وهي تعلم أن أسلحتها تقتل أطفال غزة وتدمر بناها، وهي تستمر في دعمها سياسيا في مجلس الأمن (استخدمت 45 فيتو لصالح إسرائيل) منذ أكثر من عشرة شهور وتنتظر بفارغ الصبر أن يتم القضاء على حماس لإعلان النصر ثم ترتيب القضية الفلسطينية حسب مزاج المنتصر.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المقاومة في غزة فاجأت كل القوى الداعمة لإسرائيل فهي كانت شوكة في خاصرة الجميع لأن هذه القوى لم تعتد على مثل هذه المقاومة وترفض أن تهزم النجمة 51 في غزة فهزيمتها هناك هي هزيمة لأمريكا وكل الحلفاء، ولأنها “الخردلة” التي عطلت الآلية (الميكانيزم) التي كانت تسير على هداها الصهيونية العالمية ومشروعها في الشرق الأوسط، ورغم تحييد معظم الدول العربية من الصراع (بالطبع الدول العربية الحليفة لأمريكا كما أسلفنا لا تتدخل لأن تدخلها يعني محاربة حليفها بالإضافة إلى الدول المطبعة فهي أيضا لا يمكنها الدخول في المعركة مع من طبعت معه، وما تبقى من الدول إما فضلت العمل الدبلوماسي (الجزائر ومصر، وهو جهد كبير على المستوى الدبلوماسي في مجلس الأمن والوساطة لإنهاء الحرب)، أو البيانات والتنديد، والشجب وذلك أضعف الإيمان.

أما من يقاوم من قوات- وليس دولاً- من خارج غزة فهي أقل من عدد أصابع اليد الواحدة بإصبعين. وهي تتوعد برد مزلزل ردا على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بعد اغتيال إسماعيل هنية، وفؤاد شكر، ولكنها تنتظر نتائج المفاوضات التي ترعاها إدارة بايدن لإنهاء الحرب.

والعالم كله يقف اليوم على قدم واحدة. أما النجمة 51 التي كانت ساطعة، فقد خفت بريقها بعد أن بانت حقيقتها. رُفعت الأقلام وجفت الصحف.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.