وسام سعادة *
يأتي التوغل الأوكراني ضمن الأراضي الروسية ليُحدِث انعطافة مشهدية عميقة الأثر في مجرى حرب صار من الصعب تقدير كيف لها أن تُختتم.
هذا التوغل، المتسع رقعةً والمثابر يوماً بعد يوم يعقب عاماً كاملاً دارت فيه رحى الحرب مخيبة للآمال التي عقدها الجانب الأوكراني على الهجوم المضاد الواسع النطاق، على طول الجبهة الممتدة من الدونتسك حتى زاباروجيا بدءاً من شهر حزيران/ يونيو 2023.
أظهر هذا الهجوم المضاد الواسع في الواقع تفاوتين: واحد على صعيد التكنولوجيا العسكرية لغير صالح الروس، والثاني على صعيد القدرة على إدارة عمليات ممتدة على طول جبهة مواجهة ممتدة لنحو ألف كيلومتر، لغير صالح الأوكران.
كانت الدوائر الغربية سبّاقة إلى تحذير الأوكران من مغبة المجازفة بهذا القدر. أما الأوكران فراهنوا على أن ما اكتشفوه من مكامن هشاشة وطيدة في الجيش الروسي، غداة هجومهم المضاد الأول على جبهة خاركيف في أيلول/ سبتمبر 2022 حيث تمكنوا من تحرير 12 ألف كيلومتر مربع، وبالأخص في منطقة احتسبها الروس سابقاً في عداد تلك الموالية لهم، يمكن أن يبنى عليه بزخم أشد وبمدى أوسع. والأهم من ذلك، أن هجوم خاركيف المضاد الناجح هذا رسّخ لدى الجانب الأوكراني التصميم على استعادة كل الأراضي التي خسرتها كييف منذ بدء الغزو الروسي، لا بل عدم القبول بمبدأ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. الموقف الأوكراني هذا عبّر أيضاً عن رغبة في استباق أي استعداد غربي في المستقبل لتليين الموقف تجاه موسكو، والطلب من كييف القبول بتنازلات ترابية كبيرة.
تمكّن الروس من امتصاص اندفاعة ربيع 2023 الأوكرانية بإصرار وبإعادة لململة قطاعات الجيش الروسي وتنظيمها وتأمين تدفق عديد مقبول على مدى الجبهة، مع البناء أيضاً على التحييد النسبي للوضع الداخلي عن أثر العقوبات والعزل الغربيين وتمكن الجهاز الأمني- السلطوي الحاكم من المحافظة على سطوته، بخاصة من بعد التخلص من «فتنة فاغنر». لكن الروس لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة من السيطرة على كامل الأراضي التي سبق لفلاديمير بوتين أن أعلن ضمها، من جانب واحد، إلى روسيا الاتحادية، أي “أوبلاستات لوهانسك” و”دونيتسك” و”خيرسون” و”زاباروجيا”.
خيّم على كييف طيلة هذا العام أكثر من توجّس. في طليعتها أن يتراجع الدعم الغربي، العسكري والمالي كلما طال أمد الحرب، إما تحت تأثير الحسابات الواقعية، حين تعود لتفتي بأن المطلوب إنهاك روسيا وليس تركيعها، وإما تحت تأثير الأحزاب الشعبوية، يمينية ويسارية، غير المعنية «بالتضامنية- الإمبريالية الديمقراطية» سواء لأن النزعة الإمبريالية عندها يُفترض أن تجيء متحررة من أي ابتزاز ديمقراطي لها، أو لأنها مناوئة للإمبريالية أو مشاغبة عليها. أيضاً الحرب الإسرائيلية في غزة والشرق الأوسط، زادت من التوجّس الأوكراني من تناقص الدعم الغربي لها، نظراً لأنه بات يغذي حربين لا واحدة، هذا مع أن استفادة كييف من خبرات تكنولوجية وأمنية إسرائيلية بات عنصراً غير ثانوي البتة من المشهد.
في نهاية المطاف، وأياً كان موقف روسيا في الشرق الأوسط، بدءاً من غزة وحتى إيران، فإن كلاً من أوكرانيا وإسرائيل تخوضان الحرب بروحية أنها من الدونباس حتى رفح حرب واحدة. «تلقين» أعداء الغرب دروساً مؤلمة وفعالة لعقود، دافع موجود في كلا الحربين. وليس من المستطاع القول إنه لن يحقق غايته. يبقى أن خطط عزل روسيا عن بقية العالم اصطدمت بخارطة عالمية من المصالح والشهوات أكثر تعقيداً، بحيث أن الجنوب العالمي لم تفتر عموماً علاقته بموسكو. لا يعني هذا أن الجنوب العالمي متجه لتشكيل كتلة متراصة، أبعد ما يكون. العلاقة بين الصين والهند كما منذ عقود طويلة صعبة، وأكثر من صعبة، وأزمة بنغلاديش قد تعقدها أكثر. لكن كلا من الصين والهند أعاقتا مرامي العزل الدولي لروسيا بالقدر نفسه. كذلك الأمر في الشرق الأوسط. ليس عند روسيا اليوم من خصم فيه، وإن كان هناك التهاب جدي في العلاقة مع إسرائيل مرتبط بشكل أساسي بقناة الدعم الإسرائيلية «السرية» لأوكرانيا، وهو ما يفسر بعض تصريحات المسؤولين الروس الغاضبة من إسرائيل في الوقت نفسه الذي يسعى الروس لتفهيم إيران وحلفائها بأن لا يبنوا كثيراً على دور لموسكو مواكب لهم في المنطقة إن هم آثروا التصعيد. ما زالت موسكو تراهن على الحد من الانخراط الإسرائيلي في منظومة الدعم الغربي لأوكرانيا.
في سياق متعدد الأبعاد على هذا النحو، يأتي التوغل الأوكراني وفي موسم الانتخابات الأمريكية بالذات ليرسم المعالم الأولية لانعطافة جديدة.
فالتوغل يظهر ضعفاً هيكلياً روسيا. لا يمكن تجاهل ذلك. في الوقت نفسه، ما يميز توغل صيف 2024 عن الهجوم المضاد في ربيع 2023 أنه مؤيد أمريكياً وغربياً من الأساس.
فالقوى المؤيدة للاستمرار بدعم أوكرانيا عليها أن تحمي نفسها من الضغط الانتخابي عليها، بإظهار أن الحرب لم تتحول إلى مضجرة أو تراوح مكانها، أو أن الدعم لها بلا طائل ومبدد لأموال المكلفين الضريبيين الغربيين، بل عليها أن تظهر أن الحرب لا تزال تتمتع بعنصر المفاجأة، وأن القدرة على الإنهاك الأقصى لروسيا فيها مصلحة حيوية وأكيدة لكل الديمقراطيات الغربية.
وهنا يختلط حساب «الواقعيين» مع رغبات «القصويين». الواقعيون يرون أن التوغل الأوكراني في اتجاه كورسك سيجبر موسكو على تغيير مسلكها، في اتجاه القبول بسقف أقل لما تطالب به كي تنتهي هذه الحرب. المشكلة أن هذا الحساب «الواقعي» ليس واقعياً على طول الخط، لأن قدرة روسيا على محاصرة التوغل الأوكراني تبقى مرتفعة ولو تأخرت لأسابيع.
في المقابل، يبرز «القصويون». بالنسبة لهؤلاء، هذا التوغل مرشح لأن يحدث مفاعيل لعبة دومينو تؤدي إلى انهيار في الثقة، ضمن الجيش الروسي، وبين الروس وفلاديمير بوتين. القصويون هنا يغالون في الأثر السيكولوجي على المواطنين الروس لرؤية مناطق من بلادهم تحت العلم الأوكراني. إنما يصعب تقدير إلى أين يمكن أن يصل هذا الأثر. من الرغبوية بمكان التعويل على تحوله إلى عنصر تذمّر عام. لا يعني هذا أن الأمر مستحيل أن يحدث، إنما ليس هناك معطيات يبنى عليها لاستشراف ذلك.
كذلك الأمر بالنسبة لمن يعول على الأثر السيكولوجي المعاكس، أي أن يتحول هذا التوغل في الدعاية الروسية إلى نموذج عيني عن «عودة الغزو الهتلري» عن الحقد على معركة كورسك التي أذاق فيه الجيش الأحمر أعداءه في «الفيرماخت» شرّ هزيمة، بالشكل الذي يؤدي إلى استنهاض الحمية القومية الروسية، وبالشكل الذي يصادق «بمفعول رجعي» على الخطاب البوتيني بأنه إن لم نتدخل في أوكرانيا لاقتحموا بيتنا الداخلي أيضاً.
موسكو تحاول بالفعل النفخ في الدعاية في هذا الاتجاه. لكن أثر ذلك لن يكون اليوم إلا متواضعاً. التوغل في كورسك يظهر ضعف النظام وجيشه ودعايته. لكنه يظهر أكثر من ذي قبل سكان روسيا الاتحادية بمظهر من الصعب ترجمته بمقولتي «الشعب» و«المواطنون». أكثرهم مشاهدون!
بخلاف ما يراه أنصار فرضية «التوغل صدمة قد تسرع في إنهاء الحرب» فإنها قد تطيلها بعد أكثر. فروسيا قادرة على استرجاع ما خسرته من أراض ضمن نطاقها، لكنها لم تعد قادرة على استكمال احتلال ما أعلنت ضمه لها من مناطق أوكرانية قبل عامين. وأوكرانيا حتى لو انسحب جيشها من نواحي كورسك، فإن تمكنه من توغل ملحوظ كهذا سوف يبقى انجازاً أساسياً في مسار هذه الحرب.
المفارقة أن صاحب هذا الإنجاز من الجانب الأوكراني هو الجنرال ألكسندر سيرسكي المولود في روسيا نفسها، من والدين اثنين روس. في الدعاية الروسية، هو نموذج المتنكر للجذور، الخائن وطنه.
في الدعاية الأوكرانية، سيرسكي هو على النقيض من هذا: نموذج لفكرة أن الأمة الأوكرانية لا تختصر بالمحددات الإثنية- اللغوية وحدها. وما بين الدعايتين، يسمح نموذج القائد الروسي للاحتلال الأوكراني لجزء من روسيا التي تحتل أجزاء من أوكرانيا بالتذكير بأن هذه الحرب هي بشكل أو بآخر «رجعة» للحرب الأهلية الروسية.
فبعد انهيار امبراطورية آل رومانوف، أعاد الحزب البلشفي بناء الإمبراطورية التي كان ينادي بتحرير الشعوب من سجنها، إنما على أساس أيديولوجيا أممية جرى العمل على مصالحتها مع الشعور القومي «للروس الكبار» ومع التراث المسيحاني الذي حدد دور روسيا في التاريخ برسالة خلاصية كونية، مع إعادة صياغة «إلحادية- تاريخانية» لهذه الرسالة.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، انقسمت روسيا على نفسها بين الحنين إلى ماض إمبراطوري وبين التطلع إلى نموذج الدولة- الأمة. هذا في مقابل تخفيف التركيز على الرسالة الخلاصية والاكتفاء بتلك الاجتماعية المحافظة، وتكثيف الاعتماد على الجيوبوليتيكا واستقاء «أيديولوجيا إعلامية» منها.
بحثت روسيا في الحرب على أوكرانيا عن تأمين التصالح بين الحنين للإمبراطورية المفككة، والنهوض بوظائف الدولة الأمة. علها تكون في الوقت نفسه من الآن فصاعداً إمبراطورية بالكامل، ودولة أمة بالكامل. افترضت مسبقاً في المقابل، أن بناء الدولة الأمة في أوكرانيا لن يكون الا على حسابها. في التوغل إلى كورسك، تظهر أوكرانيا لروسيا أن الأخيرة قد تخسر حلم الإمبراطورية وحلم الدولة الأمة معاً، وهذا بحد ذاته ولوحده ليس عاملا مساعدا على إنهاء الحرب. فأوكرانيا تطرح نفسها على أنها صاحبة «علاج» لروسيا: تحريرها من نفسها، أو أقله من فكرتها عن نفسها.
* كاتب لبناني
المصدر: القدس العربي