د. عاطف معتمد *
في عام 921 ميلادية (309هـ) خرجتْ من بغداد بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسي «”المقتدر بالله» إلى قلب القارة الآسيوية في مكان عُرف وقتها باسم «أرض الصقالبة»؛ تلبية لطلب ملكهم في التعريف بالدين الإسلامي، تألفت السفارة من فقهاء ورجال دولة ومؤرخين، وفي مقدمتهم كان أحمد بن فضلان الذي اختاره الخليفة لخبرته الواسعة.
حينما عبَّرت هوليود عن اختيار الخليفة العباسي لأحمد بن فضلان في الفيلم الشهير «المحارب الثالث عشر» غمزت إلى أن الخليفة أراد أن يقتنص زوجته الجميلة ويضمها لحريمه فتخلصَ من ابن فضلان في بعثة مُهلكة لا عودة منها.
وبعيداً عن خيال الإغراء والإغواء الاستشراقي لهوليود تشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن قيصر البولجار «ألموش بن يلطوار» أرسل للخليفة المقتدر بالله طلباً بإرسال سفارة إلى القيصرية البولجارية لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبني للقيصر مسجداً يُطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، وهنا جاء الاختيار على رجل يجمع بين الفقه والحكمة «أحمد بن فضلان».
ما وراء النهر:
خرجت القافلة من بغداد مروراً بالمدن الفارسية ومنها إلى نهري «جيحون» و«سيحون»، وصولاً إلى خوارزم وبلاد الأوغوز التركية.
فشل ابن فضلان في تحصيل الأموال التي أمره الخليفة بجمعها من مدن خوارزم لتلبية طلب قيصر البولجار وفقد الموكب رجاله بين البرد والمرض، وبدا أن الأجدى العودة إلى بغداد، وهناك سيقع لا محالة العقاب الواجب بأمراء خوارزم وسمرقند وبخارى الذين رفضوا دعم البعثة بالأموال اللازمة.
وفي منطقة الانتقال بين خوارزم وبلاد الترك في أواسط آسيا تصبح الصدقة للسائل والعابر هي السماح بالجلوس إلى النار ليصطلي، فيرصد ابن فضلان ثقافة الملبس؛ فلا تبدو من الرجل بسبب كثافة ملابسه سوى عينيه، وناقش بشكل أولى فكرة التكيف المناخي.
وفي خط المسير يبدأ ابن فضلان في مواجهة أول أسئلة البيئة الوثنية حينما يسأله رجل:
«قل لربك ما الذي يريده منا لكي يرفع عنا هذا البرد؟
فيجيبه ابن فضلان: يريدكم أن تقولوا: لا إله إلا الله
فيجيب الرجل: لو علمنا أن ذلك سيجدي لقلناها».
ثم يسأله بعض أهل تلك البلاد: «ألربنا امرأة؟»، فيستعظم ابن فضلان الأمر، ويستغفر الله ويعظمه، ويردد التركي خلفه الاستغفار والتعظيم في محاولة للاعتذار.
وبالتوغل نحو الشمال والاقتراب من أراضي البولجار يلاقي ابن فضلان أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول:
«ورأينا أقوامًا يعبدون الحيات، وأقوامًا يعبدون السمك، ومنهم من يزعم أن له اثني عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب… إلخ. والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضي كل واحد منهم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا».
إذا كنت تعرف جغرافية المنطقة ستصيبك الدهشة وأنت تتابع تلك الأحداث وتسأل نفسك:
لماذا اختار ابن فضلان هذا الطريق الوعر وتلك المشكلات الكثيرة عبر خوارزم والأوغوز ولم يختر الطريق المختصر عبر بحر قزوين وصولاً إلى البولجار بشكل مباشر؟
هذا السؤال هو نفسه الذي يثير تعجبنا حين نتابع رحلات الشقاء التي كان يعانيها الحُجاج المغاربة والمصريون والأفارقة خلال توجههم إلى الحجاز في العصور الوسطى.
فبدلاً من اختراق الطريق التقليدي السهل في وسط سيناء (درب الحج المصري)، إذ بهم يضطرون إلى الالتفاف في طريق شاق طويل يتعذبون فيه في صحراء مصر الشرقية حتى يصلوا إلى ميناء «عيذاب» في منطقة حلايب في جنوب شرق مصر حالياً، والتي ظن البعض توهماً أن اسمه مشتق من «عذاب» الحجاج.
كان السبب في عذاب الحجاج هو قيام إمارات صليبية في فلسطين وشرق نهر الأردن وكانت تتربص بالحجاج المسلمين الذين يعّبرون سيناء وتفتك بهم، وهو ما أضر بسمعة مصر خاصة في عهد صلاح الدين الأيوبي فتم التوصل إلى الطريق الطويل المُرهق عبر الصحراء الشرقية المصرية وصولاً إلى المنطقة التي تمثلها اليوم «حلايب» و «أبو رماد» ومنها مباشرة- في قوارب مُهلكة عبر البحر الأحمر- إلى جدة ومكة المكرمة.
وإذا كانت تلك التجربة المؤلمة قد عرفتها مصر في القرون من الثانى عشر إلى الرابع عشر فقد عرفتها رحلة بن فضلان في القرن العاشر قبل ذلك بوقت طويل، هذه المرة بسبب قيام دولة يهودية الزعامة قوقازية الشعب وقفت حاجزاً في وجه الخلافة العباسية.
كانت هذه الدولة تسمى «دولة الخزر»، ومنها عُرف بحر قزوين لقرون طويلة باسم «بحر الخزر».
فى زمن رحلة ابن فضلان كانت الخزر مملكة قوية، وشعباً متنوع الأعراق والقدرات والمهارات وقد وقفت عقبة مانعة أمام 4 قوى جيوسياسية في المنطقة وهي:
- العرب بدينهم الجديد من الجنوب في عهد الخلافة العباسية.
- الروس (الصقالبة) بغزواتهم البربرية من الشمال الغربي.
- بيزنطة من الغرب والجنوب الغربي وعبر البحر الأسود.
- إمارة بولجار الفولجا من الشمال الشرقي.
وكانت الخزر قد تمكنت من إخضاع منطقة واسعة (انظر الخريطة المرفقة) تمتد من كييف (الروس) غرباً إلى بولجار على نهر الفولجا شرقاً.
مملكة الخزر:
وبعد أن انحسرت نسبياً في القرن 10 قوة الخزر وتحرر بولجار الفولجا من سيطرتهم ذهب ملك البولجار إلى البحث عن حليف جديد ليكون له حليفاً استراتيجياً ومرجعاً أيديولوجيا وبالتالي جاءت سفارة أحمد بن فضلان لبناء مسجد وقلعة وتعليم الإسلام والإعلان عن اتخاذ الإسلام ديناً رسمياً لتلك الدولة التي امتدت في الحوض الأوسط لنهر الفولجا.
جدير بالذكر هنا أن الخزر كانت تتألف من مُركب فريد في بناء الدولة، فالجمهور الأعم للمواطنين كانوا مزيجاً من معتنقي الديانات الطبيعية أو المسيحية أو الإسلام أما الحكام فكانوا من اليهود.
وهذه واحدة من الفترات التاريخية الفريدة التي كانت الطبقة الحاكمة لا تدين بدين الشعب ولا يفرض الحكام عليهم دينهم أو يبشرون به (اليهودية ضد التبشير كما هو معلوم).
والحقيقة أن اليهود في الخزر جاؤوا أصلاً من إقليم المشرق ولهذه قصة طريفة.
فبعد أن قهرَ الرومان اليهود من فلسطين (الأصح من اليمن) وطردوهم، رحبت فارس بهم لا سيما أن الدولة الفارسية القوية كانت عدوة للرومان، ومن ثم وجد اليهود المطرودين ترحيباً واحتضنتهم فارس وعاشوا في كنفها قروناً بوضع مميز للغاية.
لكن في القرون التالية حدثت حروب أهلية في فارس ولا سيما في الثورة الشعبية المسماة بالحركة المزدكية، والتي كانت تسعى إلى حكم اشتراكي من أجل توزيع الثروة على الفقراء ونهب ثروة الأثرياء والملوك والأمراء وتوزيعها على عموم الشعب.
وقد انقسم اليهود في إيران بين مؤيد ومناهض للمزدكية، واضطروا إلى الفرار من جحم الحرب الأهلية إلى كل من بيزنطة والخزر، ثم طردت بيزنطة يهودها (لاتهامهم بالخيانة لصالح العرب) فلحقوا بإخوانهم في دولة الخزر.
على هذا النحو كانت دولة الخزر ذات ديانة يهودية رسمية وقوة معادية للخلافة العباسية.
وهنا تظهر المفارقة بين من يرون أن الإسلام وصل إلى تلك الأصقاع الباردة في العمق الآسيوي في الفولجا نتيجة أسباب روحية ومدد ديني وإعجاب بالإسلام ومن يرون أن وصول الإسلام هنا جاء ضمن «اللعبة الاستراتيجية الكبرى» في القرن العاشر الميلادي.
ذلك لأن ملك البولجار كان يريد أن يستعين بالخلافة العباسية ذات البعد الديني المُغاير لليهود وفي نفس الوقت لما بين الخلافة العباسية والخزر من عداوات.
والمدهش أن القدر التاريخي لعب ضد قرار البولجار في البداية، إذ تغافل ملك البولجار عن أن الخلافة العباسية كانت تستهل رحلة انهيار وسقوط ولن تستطيع بغداد تقديم أي مساعدة فعلية للبولجار.
لكن المُدهش في التاريخ أنه مع تراجع الخلافة الإسلامية العباسية حلت مفاجأة غير متوقعة وهي صعود القبائل البدوية غير المنظمة الممثلة في الصقالبة الروس وعملوا لصالح بيزنطة تارة ولصالح أنفسهم تارة أخرى بل وكانوا قد عملوا مرتزقة لدى الخزر قبل ذلك، ثم في النهاية قرروا العمل لصالح أنفسهم وهجموا على تخوم الخزر وساهموا- ضمن عوامل أخرى- في سقوط تلك الدولة التي احتلت مكاناً وموقعاً مهيمناً في أوراسيا.
في هذه الأجواء وصل ابن فضلان في عام 922 ميلادية إلى ملك البولجار ولم يكن أحد يعرف أن التاريخ يُخفي توسع البولجار وانهيار الخزر وصعود الروس من قبائل بدائية لتكون لها الكلمة الأولى في المنطقة وستحكم مصير الخزر وتهدد بولجار الفولجا فيما بعد.
* كاتب وباحث أكاديمي مصري
المصدر: الشروق