معقل زهور عدي
يتضمن مفهوم الحرب الأهلية العام حالة حرب داخل الدولة بين مجموعتين بشريتين متمايزتين تتحاربان إما على السيطرة على الدولة أو الانفصال عن جزء منها ويكون التمايز عنصرياً أو طائفياً أو سياسياً.
ويمكن القول إن الحروب الأهلية العنصرية أو الطائفية تحصل في البلدان الأقل تطوراً حيث ينحسر الوعي السياسي العام مفسحاً الطريق للنزعات الطائفية والعنصرية المتشددة, لكن الحروب الأهلية حصلت أيضاً في التاريخ الحديث ضمن أطر سياسية كما هو الحال في الحرب الأهلية الروسية التي اندلعت بعد الثورة البلشفية حين انحاز قسم من الجيش الروسي والبيروقراطية والأرستقراطية للحكم القيصري بينما قاتل العمال والفلاحون وقسم من الجيش الروسي مع الجيش الأحمر, وكذلك في الحرب الأهلية الأسبانية بين الجمهوريين الذين ضمت صفوفهم اليسار الاسباني وبين القوميين بزعامة فرانكو الذين استطاعوا كسب قسم كبير من الجيش الإسباني إضافة لتأييد الكنيسة الكاثوليكية والأرستقراطية الأسبانية.
ويشمل المفهوم العام للحرب الأهلية امتلاك المجموعات البشرية المتصارعة ضمن الدولة تنظيمات مسلحة إضافة لاستمرار الصراع فترة من الزمن.
إن إسقاط المفهوم العام على حالة الثورة السورية دون وعي خصوصية تلك الثورة يمكن أن يخلق التباساً حقيقياً في كون ما جرى في سورية هو نوع من حرب أهلية بالنظر للفترة التي نشأت فيها الفصائل المسلحة التي واجهت الجيش النظامي لعدة سنوات وأوقعت به خسائر فادحة قبل أن يتمكن النظام السياسي القابض على الدولة من تعديل كفة الصراع لصالحه عبر تحالفاته الخارجية.
لكن المسألة هنا تتلخص في الأساس الذي نشأ فوقه الصراع السياسي والذي تحول إلى صراع مسلح أولاً.
ثم بمعرفة وفحص واقع انتهاء الصراع السياسي هذا الانتهاء الذي يبرر غلبة أي من الطابعيّن ” حرب أهلية أم ثورة ” على الآخر.
ففي حال الثورة البلشفية مثلاً يمكن القول بحرب أهلية جرت لعدة سنوات في روسيا لكن تلك الحرب جرت داخل ” الثورة البلشفية “، فلا يصح وصف ما جرى في روسيا بالحرب الأهلية والسكوت بعد ذلك.
أما في أسبانيا فرغم وجود حالة ثورية تمثلت في الجمهورية الإسبانية اليسارية لكن انتهاء تلك الحالة بصورة تامة سياسياً اجتماعياً وتاريخياً يتيح تسيّد مفهوم الحرب الأهلية في وصف ما جرى في إسبانيا وانحسار مفهوم ” الثورة الاسبانية ” نحو حقل الدراسات التاريخية المتخصصة.
في سورية هناك واقع يفقأ العين يتمثل في أن الصراع السياسي مازال مفتوحاً بين النظام السياسي الحاكم والكتلة الكبرى من الشعب السوري. ومظاهر ذلك لا تتمثل فقط في وجود إرادة شعبية تتمسك بالمفاهيم والأهداف التي أعلنت منذ بداية الثورة والتي بدأت سلمية وظلت سلمية أكثر من ستة أشهر قبل تتحول لصراع مسلح. لكن أيضاً بوجود مولدات رئيسية لاستمرار الصراع السياسي كمشكلة اللاجئين وعدم حصول أي تغيير في طريقة الحكم وإيجاد حلول للأسباب التي أدت لاندلاع الثورة.
إن بقاء الأزمة بكل مظاهرها ومفاعيلها والكلفة الباهظة التي دفعها الشعب, وما أفرزه حراك السويداء والشمال السوري من إرادة للتمسك بأهداف الثورة يحيل أي قارئ للمشهد السوري إلى أن ما جرى من صراع مسلح لا يسمح بتعميم مفهوم الحرب الأهلية على الحالة السورية, فالثورة السورية باقية ليس بدلالة أن الصراع السياسي مازال مفتوحاً فحسب ولكن بدلالة هيمنتها على تفكير الغالبية الساحقة من السوريين ووضوح ذلك في أي مكان تضّعف فيه سيطرة النظام.
بالتالي فمحاولة تسويق مفهوم ” الحرب الأهلية ” كمفهوم بديل أو مُهيمن على مفهوم الثورة السورية لا تمتلك ما يكفي من المسوغات آخذين بالاعتبار خصوصيات الحالة السورية, لكن ما هي النتائج السياسية لمثل تلك المحاولة ضمن الصراع السياسي المفتوح في سورية؟
ببساطة يطرح ذلك المفهوم نقضاً كلياً لمفهوم الثورة في الحالة السورية ولا يمكن أن يتعايش المفهومان مع بعضها البعض في مساحة معرفية واحدة.
فإذا أقررنا بمفهوم الحرب الأهلية للحالة السورية فمعنى ذلك أننا نذهب بطريق غير مباشر نحو الحرب الطائفية, بالتالي فنحن ننزع الطابع الوطني عن ذلك الصراع السياسي الذي تحول نحو العنف, ثم ننزع عنه الطابع التحرري الديمقراطي ” ثورة الحرية والكرامة ” ولا يمكن تجزئة عملية النزع هذه على مرحلتين, المرحلة السلمية التي استمرت ستة أشهر والمرحلة التي أخذ فيها الصراع طابع صراع مسلح, وهذا ما واجه سامر بكور صاحب كتاب ” الحرب الأهلية في سورية ” عندما لم يتمكن من فصل المرحلتين السلمية والحربية في وضع توصيفه لما جرى في سورية تحت عنوان ” الحرب الأهلية “.
ولا بد لمفهوم الحرب الأهلية أن يدل على حسم الصراع وانتهائه لصالح طرف على حساب طرف, فلا توجد حرب أهلية غير محسومة, وذلك يمس بطريقة مباشرة وعنيفة كون الصراع السياسي مازال مفتوحاً في سورية, إنه يُزيّف الحالة السورية ويخلق صورة وهمية عن انتصار كلي تام ومنجز للنظام السياسي وهو انتصار غير موجود.
وكون ذلك المفهوم ” الحرب الأهلية” يحمل كل ذلك التضاد مع مشاعر وإرادة كتلة واسعة من الشعب السوري فقد حرض رد فعل قوياً لدى الشباب السوريين في حين خلق نوعاً من الانقسام لدى النخب السياسية السورية الشائخة التي تمثل عقلية ما قبل الثورة السورية.
أخيراً:
باستثناء تلك الموجة الواسعة من رد الفعل السلبي على محاولة تسويق مفهوم الحرب الأهلية على حساب مفهوم الثورة السورية, لا يبدو أن لتلك المحاولة أي نصيب في إحداث اختراق في الوعي الجمعي السوري, لكن ما يمكن أن تفعله هو إقامة جفوة بين النخب الثقافية السورية وبين الرأي العام السوري خاصة لفئة الشباب. ومثل تلك الجفوة لن تكون لصالح النخب الثقافية السورية وربما يتطلب ردمها جهداً ووقتاً ليس بالقليل.