جلبير الأشقر *
قبل ثلاثة أشهر ونصف، عند بداية المفاوضات التي لا تزال جارية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، شبّهنا ما يدور بلعبة قمار يحاول كل لاعب فيها الاحتيال على الآخر، وأكّدنا أن الحكم الصهيوني سوف يجتاح رفح لا مُحال وأنه لن يقبل قط بالالتزام بوقف نهائي لحربه على غزة واحتلاله للقطاع («لعبة القمار بين «حماس» ونتنياهو» 7/5/2024). والحال أن الأمور لم تتقدم قيد أنملة على درب وقف الحرب منذ ذلك الوقت، على الرغم من كثرة الزيارات واللقاءات في الدوحة والقاهرة. لا بل تبدو الأمور وكأنها تكرارٌ لامحدود للنغمة ذاتها كما يحدث مع أسطوانة مشروخة تعود إبرة الجهاز عليها إلى بداية القطعة باستمرار.
وها أن السيناريو الذي علّقنا عليه في ذاك المقال يتكرّر مرة أخرى يوم الأحد الماضي. فقد ورد في المقال المذكور ما يأتي: «رأى نتنياهو أن يتملّص من الحرَج بموافقة تكتيكية على وقف لإطلاق النار لبضعة أسابيع وعلى شروط لتبادل المحتجزين اعتبرتها واشنطن بلسان وزير خارجيتها «سخيّة للغاية». كان ذلك قبل أيام قليلة، وقد أضاف أنتوني بلينكن أن الكرة باتت في ملعب «حماس» وأن هذه الأخيرة ستتحمل وحدها مسؤولية مواصلة الحرب لو رفضت المقترح» (7/5/2024).
ويوم أمس الأول الإثنين، إثر زيارته التاسعة لنتنياهو منذ بدء حرب الإبادة على غزة، أعلن بلينكن أن اجتماعه برئيس الوزراء الإسرائيلي كان «بنّاءً للغاية» وأن الأخير أكّد له أنه يقبل المقترح الأمريكي الأخير وأن الكرة باتت من جديد في ملعب «حماس» التي يكفي أن تقبل بالمقترح بدورها كي تنفرج الأمور. وقد ردّت الحركة الفلسطينية بسرعة، مؤكدة أن المقترح الأخير لا يختلف عمّا سبق لها أن رفضته. ذلك أن الفجوة التي بانت بين موقف الحكومة الصهيونية وموقف «حماس» منذ البداية، أي منذ أن تأكّد أن المقصود بوقف النار وانسحاب الجيش الصهيوني من غزة في المقترح الأمريكي الأصلي لا يعدو الوقف المؤقت للعمليات العسكرية الإسرائيلية والانسحاب الجزئي للقوات الغازية من مناطق الكثافة السكانية في القطاع، تلك الفجوة هي من العمق بحيث لا يمكن ردمها سوى بإقرار أحد الطرفين بالهزيمة، وهو ما جعل المفاوضات أمام طريق مسدود منذ البداية.
هذا وقد أكّدنا في المقال ذاته المذكور أعلاه: «أن لإدارة بايدن قسطها في لعبة القمار والاحتيال على الآخرين: فهي تحتال على الرأي العام الأمريكي والعالمي بتظاهرها برفض الهجوم على رفح لأسباب «إنسانية» بينما يضيف دائماً الناطقون باسمها، وبصوت خافت، أن معارضتها للاجتياح هي فقط «في الظروف الراهنة، ما دامت شروط تفادي مجزرة كبرى بالمدنيين لم تكتمل» (7/5/2024).
والحال أن القوات المسلّحة الصهيونية باتت اليوم تسيطر على كامل أراضي غزة بما فيها محور صلاح الدين، الشريط الحدودي بين مصر والقطاع، وقد واصلت إبادتها لأهل غزة بقتل عشرات الآلاف منهم وتهجير أغلب الناجين من الإبادة من «منطقة آمنة» إلى أخرى لا تزيدها أمناً، يواجهون فيها الموت جوعاً أو مرَضاً علاوة على الموت قصفاً الذي ليس من شبر خالص من احتماله في القطاع بأكمله. هذا بينما لم تنفكّ إدارة بايدن تدعم الدولة الصهيونية بالسلاح وتوفّر لها الحماية العسكرية المباشرة ضد أخصامها الإقليميين، بما أكّد تواطؤها الكامل مع العدوان الإسرائيلي ومشاركتها الكاملة في مسؤولية الجريمة ضد الإنسانية التي جرى ويجري اقترافها ضد الشعب الفلسطيني (أنظر «جريمة جو بايدن ضد الإنسانية» 6/8/2024).
لذا يجدر السؤال عمّا إذا كان بلينكن ساذجاً للغاية في تصريحاته المتكرّرة، وآخرها أمس الأول، بأن نتنياهو وافق على مستلزمات إنهاء الحرب وأن مسؤولية مواصلتها تقع على «حماس» أو أنه متواطئٌ مع رئيس الوزراء الصهيوني، يوفّر له تغطية سياسية في وجه الضغط الإسرائيلي الداخلي المُطالب بعقد اتفاق لوقف إطلاق النار والذي يقوده أهالي المحتجزين والمحتجزات لدى «حماس» وحلفائها، كما يسعى لإيهام الرأي العام الأمريكي، وناخبي الحزب الديمقراطي على الأخص، بأن إدارة بايدن جادة في السعي وراء وقف إطلاق النار بعد أن رفضت الدعوة إليه رفضاً قاطعاً طوال أكثر من نصف عام (أنظر « في سرّ تحوّل بايدن إلى حمامة» 11/6/2024).
والحقيقة أن الشكّ بفطنة بلينكن إنما هو تجنّ عليه، والرجل ليس بالساذج قطعاً، بل يشير سلوكه بشكل واضح إلى تواطئهِ مع نتنياهو، انعكاساً لتواطؤ رئيسه بايدن، «الصهيوني الإيرلندي الأمريكي الفخور» مع رئيس الوزراء الصهيوني، وذلك مهما بان من تباين طفيف بين الرجلين. هذا ولم تعد إدارة بايدن طامحة إلى فرض صيغة التسوية بمشاركة عربية التي كانت تعدّها لما بعد الحرب في غزة، إذ باتت على طريق الخروج من المسرح السياسي بعد خمسة شهور.
أما نتنياهو فسوف يستمر في المماطلة ومواصلة حرب الإبادة حتى الانتخابات الأمريكية بعد شهرين ونصف من الآن، ويقرّر ما يفعل في ضوء نتيجتها. فلو فاز صديقه الآخر دونالد ترامب، سوف يسعى لإقناعه بدعم إدامة الاستيلاء الإسرائيلي من طرف واحد على قطاع غزة على غرار السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، ولو بتلبيس الأمر بصيغة مكمّلة لـ«صفقة القرن» التي اقترحتها إدارة ترامب في بداية عام 2020. وإذا فازت كاملا هاريس، فسوف يسعى نتنياهو كي لا تتعدّى الإدارة الجديدة حدود التسوية التي كانت إدارة بايدن تخطّط لها والتي أعدّ لها الزعيم الصهيوني العدّة.
* كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي