الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

العدوان الإسرائيلي وتدمير النظام الاجتماعي في غزّة

محمود صلاح *

“حاولوا فصل الجثتين بعضهما عن بعض، لكنهم لم يستطيعوا، وكانت الاقتراحات للقيام بذلك كسر عظامهما، إلّا أنّ الناس رفضوا القيام بذلك، وقرّروا تركهما معاً في هذا العناق الأخير والأبدي… كانت هذه الحادثة بالنسبة لي صورة الصدمة الجماعية وصورة العنف التي ستظلّ في ذاكرة الناس إلى الأبد، وحقيقةً لا أفهم كيف سيتعافى الأطفال من هذا الوضع الذي لا يمكن تصوّره، والذي يصعب وصفه، والتكلفة، والصدمة التي يتعيّن عليهم أن يمرّوا بها”. … هذا ما قاله مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) في فلسطين المحتلّة، أندريا دي دومينيكو، في تعليقه على ما حدث يوم 26 مايو/ أيّار الماضي، حين قضى عشرات من الضحايا من المدنيين جرّاء غارات جوية إسرائيلية على خيام النازحين في منطقة المواصي، وكان مدير أحد المستشفيات الميدانية في المنطقة يصف لدومينيكو حالةَ رجل كان يحتضن ابنته، وقد احترقت جثتاهما وانصهرتا بفعل النيران. ليست تلك الحالة المأساوية للطفلة ووالدها إلّا صورة مصغرة لما يجري من عدوان مستمرّ في نطاق واسع وغير مسبوق على سكّان قطاع غزّة، الذي وصفته التقارير الدولية (قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) بأنّه أكبر سجن مفتوح في العالم، يخضع للمراقبة الدقيقة والحصار التام منذ العام 2006، ليصير بعد العدوان الإسرائيلي (كما وصفته التقارير الدولية) أكبر مقبرة مفتوحة في العالم.

حتّى وفقاً لمصادر إسرائيلية مستقلّة، إن أعداد الضحايا، في غزّة، غير مسبوقة، وبحسب ما نشره أستاذ علم الاجتماع بالجامعة المفتوحة في إسرائيل، يالي ليفي، فإنّه خلال الأسابيع الثلاثة الأولى التالية للسابع من أكتوبر فقط، ارتفعت نسبة القتلى المدنيين في غزّة من إجمالي القتلى إلى 61%، وهو ما وصفه ليفي بعملية قتل غير مسبوقة تقوم بها القوات الإسرائيلية في غزّة، مُؤكّداً أن هذه النسبة أعلى بكثير من متوسّط عدد القتلى المدنيين في جميع الصراعات في العالم، منذ الحرب العالمية الثانية حتّى التسعينيّات، إذ كان المدنيون يمثّلون في تلك الصراعات نحو نصف القتلى، بحسب ليفي. ويبدو واضحاً مقدار الغموض الذي يحيط بمفهوم القتلى المدنيين، المفهوم الذي يَردْ ذكره في الصحافة الإسرائيلية والغربية، بل وتعيد ذكره مؤسّسات وهيئات دولية. فكيف أمكن التمييز بينهم وبين المقاومين؟!… ولعلّ مفهوم القتلى المدنيين كان يُقصد به الضحايا من النساء والأطفال الذين شكلوا معظم إجمالي الضحايا، بينما يجري احتساب الذكور خارج تلك المعادلة. يمكن تعريف النظام الاجتماعي، وفقاً لمصادر عديدة في علم الاجتماع، بأنّه الآلية التي تقوم من خلالها المؤسّسات والجماعات والقيم السائدة في المجتمع بعملية حفظ استقرار المجتمع وتنظيم ممارسات جماعاته، حيث قواعد السلوك الاجتماعي، فالدين والعمل والقوة والزواج والطلاق والترمّل والتعدد، على سبيل الأمثلة، أنظمة اجتماعية تعمل طوال الوقت في ضبط سلوك الفاعلين، والحيلولة دون انتهاك معايير النظم الاجتماعية. وتندرج تحت النظام الاجتماعي الأبنية والمؤسّسات الاجتماعية (الأسرة، المجتمع المحلّي، الجماعة القرابية أو العشائرية أو الدينية أو العِرقية أو الطبقية، والأمن، والقضاء، وأنماط الإنتاج والكسب وتوزيع الثروة…)، والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية، سواء في صورتيها غير الرسمية أو الرسمية، أو ما يُسمى “التنظيم” (Organization)، مثل الدولة والحكومة والشرطة والمدرسة الرسمية والمحكمة… إلخ. فالنظام الاجتماعي هو الروح الجمعية التي تدير استقرار المجتمع وإجماع أعضائه على أساليب وأنماط الحياة والعلاقات الاجتماعية والثقافية في مناحي الحياة كافّة وصورها، وهو الذي يحفظ ويصون منظومة القيم والمرجعيات المعتدّ بها.

ويدرك المتابع للحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزّة كيف يعمل الاحتلال على تدمير النظام الاجتماعي، وذلك من خلال العمل على تحقيق أهداف عدّة تسقط معها قدرة النظام الاجتماعي في غزّة على الاستمرار.

استباحة القطاع والتخلّص من سكّانه:

كانت الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزّة قد قرَّرت أنّ تدمير المقاومة الفلسطينية لن ينجح إلا بتفكيك النظام الاجتماعي وتدميره، وليس تدمير حركة حماس (الهدف المعلن) فقط، ومن ثمّ كان مقصوداً تدمير معالم الحياة الاجتماعية كلّها عبر تهجير وقتل أكبر عدد ممكن من السكّان، حتّى يمكن إيقاف عجلة النظام الاجتماعي، وجعل الحياة اليومية أمراً صعباً، ولا يمكن ممارسته بطريقة معتادة، فثمّة عمل عسكري منهجي يجري على أساس تدمير النظام الاجتماعي في غزّة، وليس تدمير المقاومة المسلّحة فقط، فعبر عمليات عسكرية شاملة دمّر المكان والعمران والمرافق الحيوية، فمراكز التعليم والصحّة والأمن والمسكن والسكّان والمرافق كلّها صارت أهدافاً معتادة ويومية للتدمير والقتل، فاستُهدِفهت بكثافة وقسوة غير مسبوقة، وهو ما كان واضحاً في خطابات جميع المسؤولين الإسرائيليين من حيث تكثيف الضغط العسكري والاقتصادي على غزّة، وهو ما رصدت نتائجه أخيراً صحيفة لوموند الفرنسية بالقول إنّ 60% من المستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة في القطاع تضرّرت أو دُمّرت بشكل كامل، بحيث لم تعد هناك خدمات صحّية أو تعليمية أو أمنية أو اجتماعية حيوية يمكن تقديمها بأمان، فكان واضحاً أنّ ليس ثمّة مكان آمن في قطاع غزّة كلّه، ولا يزال الدمار والقتل يزيدان في كلّ مكان في قطاع غزّة. بهذه الكيفية، لم تعد ممكنةً ممارسة أيّ أساليب للحياة المعتادة، إذ استُهدفت المؤسّسات الأمنية والقضائية والتعليمية والصحّية، بل المرافق الأساسية، حتّى يفقد النظام الاجتماعي أدواته وقوته المادية والإلزامية، وبما يجعل الحياة اليومية خطيرةً ومستحيلةً وغير آدمية، وهو الأمر الذي يحرص عليه الاحتلال من خلال استدامة العملية العسكرية؛ فيهدف، في نهاية الأمر، إلى تطويع القطاع وتفريغه من أيّ سلطة أو قوّة مهيمنة مقاومة، وتركه في حالة فوضى عارمة. في الوقت نفسه الذي يُسهّل فيه انتهاك القطاع وسكّانه في أيّ وقت تراه إسرائيل من دون أدنى اعتبار لوجود حكومة أو سلطة تدير القطاع وتحكمه، وهو الأمر الذي كرّره قادة الاحتلال عندما أكّدوا رغبتهم في أن تتمكّن قواتهم من دخول القطاع في أيّ وقت، لضمان وتلبية احتياجاتهم الأمنية. “وتعكس البيانات الخاصّة بالتوزيع النوعي والعُمري للضحايا من سكّان قطاع غزّة حالةَ تدميرٍ مُتعمَّد للنظام الاجتماعي وأبنيته الأساسية، وفي مقدّمتها الأسرة واستقرارها، فليس أعزّ من الطفولة في حميمية ومتانة البناء الأسري واستمراريته، فالأطفال هم أمل وعُدة المستقبل ومُؤشّر قوة المجتمع وشبابه”.

وفي الجدول الآتي بيانات عن التركيب الاجتماعي لسكّان قطاع غزّة ونتائج العدوان على القطاع، كما ورد في التقارير الدولية والفلسطينية:

“قد حطّمت الحرب المستمرّة البنية الاجتماعية في غزّة”… ورد هذا في تقرير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ويأتي على تدمير مُتعمَّد للأبنية الاجتماعية مثل الأسرة والجماعات القرابية والتعليم والصحّة، إذ دُمّرت معالمها وجُعلت غير قابلة للاستمرار، وقد قدّرت الوكالة أنّ عشرات الآلاف قد قُتلوا، وأنّ 70% من الضحايا كانوا نساءً وأطفالاً، فيما جرى تدمير أو تضرّر ما يقارب أكثر من ثلثَي المساكن في قطاع غزّة، وكان للمنازل والوحدات السكنية نصيب الأسد في حجم الدمار الذي تعرّض له قطاع غزّة، فسُجّل تدمير 87 ألف وحدة سكنية تعرّضت للدمار الكامل، بحيث لا يمكن التعرف عليها، علاوة على تعرّض 297 ألف وحدة سكنية للتدمير الجزئي، الأمر الذي يكشف عشوائية العدوان على قطاع غزّة ووحشيته، وعدم مراعاته حياة وسلامة السكان المدنيين؛ خاصّة مع اكتظاظ مدن ومخيّمات قطاع غزّة، ومحدودية الحيّز العمراني. وتُلقي عملية القتل أو التهديد اليومي لحياة سكّان القطاع بظلالها على الاستقرار الاجتماعي والنفسي للسكان، حيث تسيطر مشاعر الفقد والأسى وترقّب الموت، بل وتطبيع الموت مع استمرار القتل الجماعي من دون وجود طريق للخروج أو مكان آمن للاحتماء فيه، وبما يحوّل الحياة الاجتماعية مأساةً يوميّةً لا تتوقّف، فيفقد الناس الأمل والثقة في قدرتهم على تحمّل مسؤولية أدوارهم الاجتماعية أمام زوجاتهم أو أطفالهم، وأسرهم، ونشهد حالةً من تدمير حياة الفلسطينيين وأجسادهم وانتهاك حياتهم ونزع الهُويّة والأمل من حياتهم الاجتماعية ومعنى بقائهم. وتنتشر وتسود مشاعر جمعية بصدمة الحرب لدى القطاعات الاجتماعية كلّها؛ خصوصاً الأطفال وصغار السن، وهو الأمر الذي رصده أحد الأطباء النفسيين، ديفيد موساردو، الذي كان متطوّعاً في غزّة لمصلحة منظّمة أطباء بلا حدود، وكتب تقريراً رصد فيه حالة المجتمع في غزّة تحت النار بقوله: “في بعض الجلسات، كان علينا أن نصرخ حتّى يسمع بعضنا بعضاً، وذلك للتغلّب على صوت الطائرات من دون طيّار والقنابل؛ وحتّى في الأوقات التي لم يكن ثمّة قتال فيها، كان الصوت في الخلفية هو صراخ الأطفال في المستشفى؛ أطفال مشوّهون، ومحترقون، ويتامى؛ وأطفال يعانون من نوبات هلع لأنّ الألم الجسدي يثير ويهيّج الجروح النفسية، فيذكّركَ الألمُ بالقنبلة التي غيّرت حياتك إلى الأبد؛ وحتّى الأطفال الأكثر هدوءاً كانوا يرسمون طائراتٍ من دون طيّار وطائرات عسكرية، كانت الحرب في كلّ مكان في المستشفى؛ رائحة الدم لا تطاق؛ هذه هي الصورة التي أحملها من غزّة”. وتُقدّر “أونروا” أنّ ما يقارب المليون طفل يحتاجون إلى الدعم النفسي والاجتماعي، وأحصت “أونروا” 17 ألف طفلٍ يعيشون حالياً من دون ذويهم. وليست تلك الآثار النفسية فردية أو منعزلة؛ لكنّها آثار بعيدة المدى والعمق الاجتماعي؛ فهي تمسّ سكّان القطاع كلّهم، وتُؤثّر في واقعهم ومستقبلهم؛ فكل الوجوه بائسة أو بلا ملامح تعبير، كما لاحظ الطبيب النفسي، وهو الأمر الذي يحوّل المجتمع مأتماً مفتوحاً وعلى الناس تقبّل الموت أو الإعاقة، وليس من سبيل لحمايتهم أو بعث الأمان والراحة فيهم. ويرصد البنك الدولي في أحدث إصدار له (إبريل/ نيسان 2024) كيف أنّ مؤسّسات المجتمع والخدمات في غزّة قد تعطلت، علاوة على توقف النشاط الاقتصادي وانخفاض الناتج المحلي لقطاع غزّة بما يتجاوز 86%؛ حيث يشهد المجتمع الفلسطيني صدمةً اقتصاديةً غير مسبوقة في تاريخه الحديث، وفقاً لما ورد في التقرير، والذي ذكر أنّ “الدمار في الأصول والممتلكات الثابتة، وكذا التدمير الشامل لجميع جوانب الحياة في غزّة، كان كارثياً، فتشير التقديرات إلى أنّ منازل أكثر من مليون شخص قد دُمرت أو تضرّرت بشدّة، وأفادت مجموعة الإيواء التابعة للأمم المتحدة عن وجود 1.7 مليون شخص جرى تشريدهم في غزّة، أيّ نحو 75% من السكّان، وتعرّضت البنية التحتية لأضرار شديدة، إذ تشير البيانات المنقولة عن شركة إبسوس للدراسات التحليلية إلى أنّ أكثر من نصف الطرق في غزّة تعرّضت للضرر الشديد أو دُمّرت بالكامل”. يضاف إلى ذلك تعطّل قطاعَي الصحّة والتعليم، فتوقّف 80% من المنشآت الصحّية نتيجة تعرّضها لدمار وقصف وحصار واستباحة لمرافقها ومرضاها، وكذلك توقّف قطاع التعليم الذي كان يضمّ 625 ألف طالب قبل العدوان الإسرائيلي؛ وبما لذلك من آثار تربوية وثقافية تزيد من تأخّر جيل كامل، بل وبما ينذر بمشكلات كبيرة في التنشئة الاجتماعية، وبروز صور واسعة من العنف، والانحراف، والاغتراب، علاوة على زيادة حجم تكلفة التضامن الجمعي والعشائري، نظراً لزيادة مُعدّلات الأطفال المعاقين والأيتام؛ سواء من فقدوا أحد والديهم أو من فقدوا الوالدين معاً، وهذا ما أكّده المفوّض العام لوكالة أونروا، الذي صرّح بأنّ “عشرة أطفال يفقد كلّ منهم ساقاً أو ساقين يومياً في غزّة في المتوسط، بالإضافة إلى وجود 17 ألف طفل آخر غير مصحوبين بذويهم”، فالأمر يصل إلى تشويه وتدمير جيل كامل سيظل فترة طويلة من الزمن في حالة غضب وألم ومعاناة اجتماعية ونفسية وعصبية، علاوة على الفقر واحتياجهم إلى من يعولهم، حيث سجّل مُعدّل الإعالة 72% قبل العدوان على غزّة، ومن المتوقّع أن يصل إلى مستويات قياسية، خاصّة مع توقّف الإنتاج وتدمير أغلب المنشآت الصناعية والخدمات العامة، وأدوات وخامات الإنتاج، وغياب “أونروا”، مع توقّعات بانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي، الذي سجّل انخفاضاً ملحوظاً قبل العدوان ليصل إلى 3367.6 دولارا قبل العدوان، فيما يتوقّع أن ينخفض إلى ما يناهز 36%، وذلك في الوقت الذي يبلغ فيه نصيب المواطن الإسرائيلي 52261.7 دولاراً.

التدمير والصراع الديموغرافي:

إذا كانت الأسرة الفلسطينية تقاوم بالكمْ؛ فإنّ ثمّة تغيّرات واضحة تنال من قدرة الأسرة على المقاومة الكمّية، فثمّة انخفاض ملحوظ في متوسّط حجم الأسرة الفلسطينية؛ إذ بلغ المُعدّل الإجمالي للخصوبة ما يتراوح بين 3.4 و 3.6 طفل لكلّ أسرة في العام 2022، ليصل حجم الأسرة الفلسطينية في قطاع غزّة، بعد إضافة الوالدين، إلى 5.7 فرد، وعلى الرغم من أنّ آخر سنوات سجّلت انخفاضاً في مُعدَّلات الخصوبة، نظراً للظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، علاوة على مجهودات الهيئات الدولية في نشر ثقافة تنظيم الأسرة، إلّا أنّه لا يزال الشعور بالتكدُّس والتزاحم مرتفعاً، نتيجة تركّز السكّان في قطاع جغرافي صغير ومُحاصر ومُرَاقب، نظراً لعدم توزيع السكّان بعدالة وحرّية، في حين يُعوض الكيان الصهيوني انخفاض حجم الأسرة لديه (2.9 إلى 3 طفل لكلّ أسرة بحسب إحصاءات البنك الدولي لعام 2022) عبر استقبال اليهود من كلّ أنحاء العالم للهجرة والإقامة في فلسطين. ففي العام 2022 تمكّنت الوكالة اليهودية من نقل 70000 مهاجر يهودي من 95 دولة، ومن ثمّ فإنّ التوازن الديموغرافي يتجّه في السنوات العشر الأخيرة لمصلحة إسرائيل، ليصبح صراعاً ديموغرافياً، علاوة على ارتفاع مُعدّل الخصوبة الكلّي للسكّان اليهود المُتديّنين، الذي بلغ حتّى آواخر عام 2022 نحو 3.9 طفل، ومن ثمّ فلا يمكن التعويل على الإنجاب والخصوبة وحدهما، باعتبارهما قادرين على مواجهة الاحتلال والاستيطان، خاصّة في ظلّ الإبادة المنهجية التي يمارسها الاحتلال، التي تستبيح الدم الفلسطيني من دون خطّ أحمرَ، أو رادعٍ، أو حساب وتقدير لأيّ معايير إنسانية وأخلاقية أو دولية، علاوة على محاولات عملية لتهجير الفلسطينيين، والتخلّص من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (أونروا)، وتحويل الحياة اليومية جحيماً لا يطاق؛ وهو حلم قديم للمشروع الصهيوني يقوم على تصفية قطاع غزّة من سكّانه، بدايةً من مشروع أو مبادرة غزّة، التي طرحتها كلٌّ من الولايات المتّحدة وبريطانيا في مايو/أيّار 1949 خلال مؤتمر لوزان، والتي قامت على استيلاء إسرائيل على اللسان الساحلي لغزّة في مقابل عودة 300 ألف لاجئ فلسطيني إلى أراضيهم؛ إلّا أنّ مصر والدول العربية رفضت تماماً المقترح، الذي رفضته إسرائيل أيضاً، بعد ما أبدت قبولاً به في البداية، مروراً بالخطط والتصريحات الإسرائلية كلّها، التي تعتبر سكّانَ غزّة المشكلةَ التي ينبغي القضاء عليها، عبر الضغط عليهم وإيذائهم وحرمانهم، حتّى يضطروا إلى الرحيل عنها.

ويدرك الاحتلال الطابع الجمعي للبناء الاجتماعي في غزّة، ومن ثمّ فقد اتّجهت نيّته إلى التدمير والقتل الجماعي، وظهر ذلك جلّياً على لسان أغلب وزراء وساسة الاحتلال، فالرئيس الاسرائيلي إسحاق هيرتسوغ، في تصريح له بعد أسبوع واحد من بداية العدوان على غزّة، يقول: “إنّ الخطاب القائل إنّ المدنيين غير متورطين غير صحيح، فليس صحيحا أنّهم غير ضالعين في الأمر، هم ضالعون من خلال عدم الانتفاض على نظام حماس الذي استولى على غزّة عبر انقلاب”. وكان نوّاب في الكونغرس الأميركي قد ساندوا تلك الرؤية التي تدعو إلى العقاب الجماعي لسكّان القطاع، جاء ذلك صريحاً على لسان ليندسي غراهام الذي صرّح لمحطة “إن بي سي نيوز” الأميركية: “يحقّ لإسرائيل تسوية قطاع غزّة بالأرض باستخدام سلاح نووي لإنهاء الحملة العسكرية، كما حدث في مدينتي هيروشيما وناغازاكي في الأربعينيات”، وأيده في ذلك النائب تيم والبيرغ، عضو الحزب الجمهوري من ولاية ميشيغان؛ الذي أدان ورفض تقديم الولايات المتّحدة مساعداتٍ إنسانية لسكّان غزّة، وخلص إلى القول إنّه “يجب التعامل مع غزّة كما تم التعامل في الماضي مع هيروشيما وناغازاكي؛ وحتّي ننتهي من الموضوع بسرعة”، على حدّ قوله.

وكان الطابع الجمعي للبناء الاجتماعي في غزّة هدف الاحتلال؛ فمنذ اليوم الأول فرض النزوح والتهجير إلى الجنوب على سكّان شمال ووسط غزّة، ثمّ النزوح والتهجير مرّة أخرى لسكّان جنوب القطاع كلّهم، وما ترتب على ذلك من تدمير نسيج العلاقات الاجتماعية، ومصادر التضامن وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية، لتسود حالةٌ من التفكّك الاجتماعي والأسري؛ وحياة الشتات وعدم الاستقرار، وغياب الخصوصية الأسرية، وتحول المجتمع بقعةً بائسة ويائسة، ما يُعطّل النمو الديموغرافي الطبيعي اللازم لاستمرار النظام الاجتماعي، وعمل وتكامل الأبنية الاجتماعية، وتحقيق مهامها، إذ تسبّب العدوان الإسرائيلي على غزّة في حدوث فجوة في النمو الطبيعي للمواليد بلغت 10%، علاوة على قتل الآلاف من النساء الشابّات، والذكور في سنّ الزواج والإنجاب، وهو أمر مقصود حتّى يصل الناس إلى اليأس من الحياة والإنجاب على هذه الأرض، ما يُحقّق التفوّق الديموغرافي الإسرائيلي، والذي هو من بين الأهداف الرئيسية للعدوان الإسرائيلي.

ضبابية المستقبل السياسي للقطاع:

غالباً ما يوصف مجتمع غزّة بأنّه مجتمع لاجئين، فتشير الإحصاءات إلى أنّ 60% من سكّان غزة هم مِمّن أُجبروا على ترك أراضيهم ودُورهم ومدنهم، في مدن وبلدات وقرى فلسطين عام النكبة (1948)، ومن ثمّ وفدوا إلى غزّة، ليسكن أغلبهم في مخيمات بسيطة البنية أُقيمت على عَجَل، وما لبثت أن تحوّلت أحياءً سكنيةً لا تزال تحمل اسم المخيّم؛ فقد حمل أهل فلسطين الفارّين من مذابح العصابات الصهيونية إلى غزّة مظالمهم معهم، ووَرِثَها أبناؤهم وأحفادهم، الذين حُرموا من بلادهم، وأُجبروا على حياة اللاجئين في ظروف إنسانية صعبة؛ خاصّة مع التكدّس والازدحام السكاني الكبير.

وفقاً للتقارير الدولية الحديثة، فإنّ قطاع غزّة هو أكثر المناطق كثافةً سكّانيةً في العالم؛ حتّى بلغت الكثافة السكانية، وفق تقارير الأمم المتّحدة، 30 ألف نسمة لكل كليومترٍ مربّعٍ في بعض مخيّمات ومدن شمال قطاع غزّة. ومنذ أن أُقيمت مخيّمات اللاجئين تغيّرت الخريطة السكّانية لغزّة، ذات الـ80 ألف نسمة لتصبح بين عشية وضحاها 230 ألفاً، حتّى أضحت غزّة من أكثر مناطق العالم نموّاً وتكدّساً بالسكان، وكذلك انخفاضاً في الدخل ومستويات المعيشة، وجودة الحياة. فالإغلاق والحواجز وفقر الموارد الطبيعية والممارسات الإسرائيلية القمعية تزيد من مصاعب الحياة اليومية، وتحطّم طموحات الناس وتطلّعاتهم.

وتفيد الوثائق التي نُشرت عن تلك الفترة الخاصّة بجذور الحالة المأساوية لللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزّة، بأنّهم عاشوا حياةً قاسيةً، علاوة على إثارة حفيظة السكّان الأصليين للقطاع، حيث اللاجئ أو الوافد الجديد والمقيم، جميعهم يشغلون نفس الحيّز بإمكاناته وموارده، وهو الأمر الذي شكلّ مُعضلةً سكّانيةً واجتماعيةً، ونجم عنها إنشاء ثمانية مخيّماتٍ لإيواء اللاجئين، وكانت تحدّياً للإدارة المصرية محاولةُ ضبط أو إشباع احتياجات السكّان الجدد، فاضطرت عام 1950 إلى إشراك وكالة أونروا، معها في السيطرة الإدارية على القطاع. ويطرح العدوان الوحشي الراهن تحدّياتٍ غيرَ مسبوقةٍ على المجتمع الغَزّي، ومستقبله، إذ يقوم المجتمع في غزّة على التضامن الجمعي، وتدعيم أواصر وقيم التراحم الاجتماعي، حيث التئمت العشائر وكانت بُنىً اجتماعيةً كاملةً، وفّرت لأبنائها الحماية والمكانة والدعم، ورغم الأهمية النسبية للبنية العشائرية في غزّة إلّا أنّها لم تعكس تماماً حالة الدولة العشائرية، فكانت السلطة القائمة تنجح باستمرار في تطويع العشائر أو إخضاعها، والظهور بمظهر الاستقلال النسبي عن المكوّن العشائري للمجتمع؛ ومن ثمّ تشكّلت رغبةُ الاحتلال الاسرائيلي في تشكيل إدارةٍ مدنيةٍ من مجموع تلك العشائر الغَزّية لأنّه يعلم أنّها لن تستطيع التحكّم وفرض السيطرة تماماً، ومن ثمّ ستكون مرتبطةً عملياً بالاحتلال، وهو الأمر الذي رفضته تلك العشائر، التي تدرك أنّ قوّتها الاجتماعية أكثر فاعلية من قوّتها السياسية والتنظيمية المُسيطِرة، وأنّ مساحات التنافس والتمايز بين العشائر ذاتها لن تسمح لها ببناء نظام سياسي وإداري مستقلّ عن الاحتلال. وتصبّ تلك القضية في مسألة اليوم التالي للحرب، أو مستقبل غزّة بعد الحرب؛ في حين يريد الاحتلال الهيمنة الكاملة على تلك المسألة، فإنّ المقاومة تريدها مسألةً فلسطينية خالصة، يقررها الشعب الفلسطيني، غير أنّ الدول الكبرى الحليفة لإسرائيل لن تسمح بمرور صيغة المقاومة، وتدعو إلى نفي “حماس” والتخلّص منها، الأمر الذي يزيد المشهد تعقيداً ويطيل من حملة الإبادة الوحشية التي قاربت العام من دون توقّف، ويبدو أنّ تلك المسألة ستكون محلّاً للجدل والمساومات فترة من الزمن، حتّى تضمن إسرائيل، وحلفاؤها، أنّ قدرات المقاومة وصلت إلى أضعف مستوياتها، وقضت تماماً على كلّ يدٍ أو صوتٍ يقاوم؛ إلّا أنّ ذلك لا ينفي حالات القلق والشكّ وعدم الاستقرار، التي تضرّ بحياة سكّان غزّة؛ وتزيد معاناتهم وعدم تمكّنهم من استعادة الحياة الطبيعية، والبقاء طوال الوقت تحت نير الاحتلال وعدوانه وحصاره، في ظلّ غياب سلطةٍ أو تنظيم سياسي وطني قادر على توفير الأمن وحماية النظام الاجتماعي في القطاع .

حتّى بعد أن تهدأ نيران العدوان وتلتفح السماء برماد ورائحة الدماء والمعارك وجحيم البارود، وأرواح عشرات الآلاف من الشهداء، ودموع الأطفال وصراخ الأمهات، فإنّ مأساة غزّة لن تنقضي، ستظلّ شاهدةً على صمت المجتمع الدولي عن إبادة على الهواء، أو كما تحدّثت ياسمينا غويردا، من مكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية، عن زيارتها وعملها في غزّة، فقالت إنّ سكّان غزّة “فقدوا كلّ شيء في ظلّ النزوح القسري، مع عدم وجود سنتيمترٍ واحدٍ آمنٍ في غزّة”.

* كاتب مصري

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.