بشار نرش *
على الرغم من سيطرة الدولة بمفهومها التقليدي، المُكوَّن من إقليم وشعب وسيادة، على أدبيات العلوم السياسية فترةً طويلةً، إلّا أنّ تطوّر المفاهيم والأدبيات الحديثة أنتج نماذجَ عديدةً من الدولة بأسماء مختلفة، جعلت العلاقة ما بين الدولة والمجتمع تتراوح ما بين نموذج وآخر؛ كالدولة الكوربوراتية والدولة الفاشلة والدولة الرخوة والدولة الريعية، إلى جانب مفهوم الدولة العميقة الذي يُعَدُّ من المفاهيم المُهمّة التي تساعد في فهم طبيعة بعض الدول.
يشير هذا المفهوم، في إطاره العام، إلى الدولة الأمنية، التي تتغلغل فيها شبكاتُ المصالح والفساد بين رجال المؤسّسة العسكرية ورجال الأعمال ورجال القضاء وأعضاء المجالس التشريعية، كما يشير أيضاً إلى نموذج حكومةٍ سريّةٍ تتكوَّن من أطرافَ خفيّةٍ في السلطة تعمل بشكلٍ مُستقلٍّ عن القيادة السياسية الرسمية للدولة، وتتحرّك من خلال هياكلَ معيّنةٍ، مثل وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية ومؤسّسات الصناعات العسكرية والمؤسّسات الإعلامية الكبرى، لتكون بمثابة دولة داخل دولة، ولهذه الدولة وجهان، الأول مُعلَنٌ يُعبّر عنه الأفراد والجماعات الذين يتولّون مناصبَ داخل مؤسّسات الدولة والنقابات وغيرها، لتسهيل عملية التحكُّم بقرارات الدولة، والثاني غير مُعلَنٍ ويتحرّك سريّاً، ويتوغّل في مؤسّسات الدولة بهدف إحباط أيّ مُخطَّطاتٍ مُوجَّهةٍ ضدّ الدولة القائمة، ومحاربة أيّ نظام جديد يريد أن يُطيح وجودها أو يغيّر خريطةَ التوازنات ومراكز القوى والسيطرة داخلها.
أمّا في أميركا، ومن خلال مراجعة أدبيات أميركية عديدة شائعة تناولت مفهوم الدولة العميقة، نجدها تعني، بشكل عام، وجودَ مجموعةٍ غير مرئيةٍ وعميقةِ التجذُّر، غير خاضعةٍ للمساءلةٍ أو للمحاسبة، تسيطر على صنع السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، وتتخفَّى تحت السطح المظهري للنظام الديمقراطي القائم على أسس دستورية وقانونية، وتتشكّل هذه الدولة من حلقتَين: الأولى، وهي الأساس، وتُكوِّن النواةَ الصلبةَ لهذه الدولة، وتأتي من داخل بيروقراطية الدولة، وتضمّ مسؤولين غير مُنتخبين يعملون في وظائف دائمة، ويحتلّون مواقعَ مُهمّةً ومِفصليةً في المنظومة الإدارية – الأمنية للدولة، كوزارات الدفاع والأمن الداخلي والعدل والمالية، ويُضاف إلى هؤلاء مسؤولون من الوكالات والأجهزة التابعة لمنظومة الأمن القومي، وهي 17 وكالةً وجهازاً متخصّصاً، تقف في رأسها وكالة المخابرات المركزية، ووكالة الأمن القومي، وجهاز الاستخبارات، ومكتب التحقيقات الفيدرالي.
أما الحلقة الثانية، فهي الإضافية، تعمل لتقوية وتوسيع الحلقة الأولى، من خلال تمدّدها عبر شبكة من الأنفاق، التي تخترق القطاعات الحيوية في البلاد، لتُنتج نُخبةً متوافقةً في الفكر والرؤية والتوجّه، ومؤتلفةً على هدف الحفاظ على الصيغة العامَّة لهذا التوافق، تضمُّ سياسيين مُخضرمين، حاليين وسابقين، وشخصياتٍ مؤثرةً في سوق المال وقطاع الأعمال، وخصوصاً من تلك الشركات العملاقة المُرتبطة مع الحكومة بتعاقدات كبيرة ومستمرَّة، ومجالي الفنّ والإعلام، ورؤساءَ جامعاتٍ وأساتذةً مُهمّين، وأعضاء من مراكز البحث والتحليل المرموقة في البلاد، الأمر الذي يمنحها قوّة تأثير هائلة، لا يستطيع معها الساسة المُنتخَبون تجاوزها، أو حتّى تجاهلها.
ولنا في التاريخ الأميركي شواهد عديدة على تأصّل الدولة العميقة في النظام السياسي الأميركي، بدءاً بالمخاوف التي عبّر عنها جورج واشنطن، أول رئيس أميركي عام 1789، ورابع رئيس أميركي، جيمس ماديسون، عام 1809، بشأن مخاطر تحوّل قوّة العسكر أداةَ استبدادٍ تكبح الحرّية، مروراً بحديث الرئيس الأميركي الـ26 ثيودور روزفلت في عام 1901 عن “الحكومة الخفيّة”، وتحذير الرئيس الأميركي الـ34 دوايت أيزنهاور من مخاطر ازدياد النفوذ السياسي للمجمّع الصناعي – العسكري على حرّية الأميركيين وديمقراطية بلدهم، وصولاً إلى الرئيس الـ45 دونالد ترامب، الذي أشعل مصطلح الدولة العميقة في صراعه مع خصومه الديمقراطيين، بعد تحدّثه بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ عن الدولة العميقة في أميركا، المؤلَّفة من جهاز الدولة البيروقراطي الإداري مع أطراف من الوسط الأمني، وبعض الديمقراطيين والليبراليين الموالين للرئيس الأسبق باراك أوباما، ووسائل الإعلام الليبرالية، واتهامه لها بالتآمر ضدّه وتزوير الانتخابات، ليُخرج تداول هذا المفهوم إلى الفضاء العام الأميركي، ويصبح جزءاً من العقلية الأميركية والخَطاب السياسي الدارج في البلاد، لدرجة أصبح فيها حوالي 60% من الأميركيين يعتقدون حالياً أنّ واشنطن مُسيطَر عليها من الدولة العميقة.
في الخلاصة، فكرة الدولة العميقة في الولايات المتّحدة جزء من نقاش أوسع حول القوّة والنفوذ في النظام السياسي الأميركي، وسواء كان يُنظر إليها على أنّها حقيقةٌ مخفيّةٌ، كما أظهرت استطلاعات رأي عدّة في السنوات القليلة الماضية، أو مجُرَّد سردية ضمن نظرية المؤامرة الوهمية كما يدّعي بعضٌ آخر، فإنّها تعكس قلقاً كبيراً لدى جزء من الشعب الأميركي بشأن من يتحكّم فعلاً في سياسات البلاد ويحدد مسارها.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد