الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مذكّرات قسطنطين سيقلي: ذكريات عن ذاكرة مبكّرة

علي حبيب الله *

بحبر القوبيا، ذلك الحبر الأسود الّذي عرفته قلّة ممّن كانوا يجيدون الكتابة في سوريّة القرن التاسع عشر، خطّ قسطنطين أسعد سيقلي مذكّراته به عن سيرته وسيرة عائلته العكيّة في المدينة ورحلات الرحيل عنها، لتكون ذكرًا إلى الأعقاب كما يقول في مقدّمة مذكّراته. ورغم قصر مذكّرات سيقلي الصادرة مؤخّرًا عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، حقّقها ووضع حواشيها الباحث تيسير خلف، فقد جاءت في أقلّ من 150 صفحة من الحجم المتوسّط، إلّا أنّ أهمّيّتها في أنّها من أبكر المذكّرات الفلسطينيّة الّتي كتبت في تاريخ فلسطين الحديث، إذ خطّها صاحبها في عشرينيّات القرن الماضي متذكّرًا أحوال عائلته سيقلي ومدينته عكّا ما بين السنوات 1861-1928.

تعتبر عائلة سيقلي من أبرز العائلات العربيّة المسيحيّة – الأرثوذكسيّة، تنقّل أبناؤها ما بين مدن عكّا وحيفا والناصرة في الجليل. ومثل أيّ قرية أو مدينة لها مؤسّس وحكاية تأسيس، فلعائلة سيقلي حكاية أيضًا ظلّت تسترخي في مخيال أبنائها عن منشئها وأصلها المسكوبيّ (الروسيّ)، أوردها قسطنطين سيقلي في الصفحات الأولى من مذكّراته رادًّا فيها جذور عائلته في البلاد إلى جدّها المؤسّس جرمانوس أو جرمانوف الروسيّ كما يصحّح سيقلي، والّذي قدّم إلى فلسطين ضمن جماعة من حجّاج الأراضي المقدّسة الروس في مطلع القرن السابع عشر، وتحديدًا حوالي 1634م. حيث استقرّ جرمانوس الجدّ وزوجته كاترينا في القدس. ولمّا كانت صنعة جرمانوس الحدادة وصقل الأسلحة الّتي أخذ يتعاطها في فلسطين عرف بالصيقليّ، ثمّ حرفت لـ “سيقلي” فصارت كنيته اسمًا عرفت به عائلته من بعده.

غير أنّ محقّق المذكّرات تيسير خلف يستبعد صحّة هذه الحكاية لأسباب ذكرها في تمهيده للمذكّرات. ومع ذلك تظلّ حكاية تنسيب العائلة نفسها لأصل أجنبيّ، تحمل دلالات وهواجس اجتماعيّة متّصلة بالتحوّلات والتقلّبات السياسيّة والأمنيّة الّتي شهدتها البلاد في القرن التاسع عشر.

ما الّذي تقوله المذكّرات؟

مثل أيّ مذكّرات أو سيرة ذاتيّة ينقل فيها صاحبها من سيرته ومسيرته، وأحوال الناس من حوله، كذلك هي مذكّرات سيقلي ففيها ما فيها من معلومات وإشارات ومواقف استحضرها صاحبها ليعرفنا على جوانب مختلفة من إيقاع حياة فلسطين العثمانيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ما بين مدن وعكّا وحيفا والناصرة في الجليل، وعكّا وبيروت وطرابلس على ساحل المتوسّط.

غير أنّ أكثر ما قد يلفت قارئ المذكّرات هو “معجمها”، أي التعابير والمفردات الّتي استخدمها صاحبها فيها، وقد حرص محقّقها على الإبقاء عليها، بما يحيل القارئ للتعرّف على فضاء الكتابة والتعبير في فلسطين القرن التاسع عشر. تعابير إنشائيّة واستعارات تشي بعالم الكتابة مثل تكرار صاحب المذكّرات حديثه عن “الصافنات” أي الخيل. ومسمّيات عثمانيّة للأماكن والمواقع “الإسكلة” أي المرفأ ويقصد بها مدينة حيفا عادة أو “العيون المتفجّرة” أي حمّامات الحمّة، تسميات ما عادت عليها في القرن العشرين، وقاموس الساحل – البحريّ مثل “القايق” أي زورق البحر، أو “النوتي” وتعني البحار، فضلًا عن مفردات عامّيّة – شعبيّة تصوّر شكل علاقة الناس الاجتماعيّة بمحيطها البيئيّ والاجتماعيّ في حينه. تقاليد من إرث وعادات عكيّة وجليليّة من طقوس “بركة الإكليل” المتعلّقة بالزواج والمواكب والأفراح، وصولًا إلى “شعائر الأسف” المتّصلة بالموت والحزن والحداد، في معجم يعيدنا إلى فلسطين ما قبل كيانيّتها الحديثة بعيون وعلى ألسن بعض من أهلها.

تحيل مذكّرات سيقلي إلى شكل التحوّلات الّتي طرأت على مدينته عكّا خلال تلك الفترة، حين بدأ ينحصر ثقلها الإداريّ، ومكانتها السياسيّة – التجاريّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر لصالح مدينة حيفا الّتي غدت تتربّع على عرش ساحل فلسطين الشماليّ مع مطلع القرن العشرين، هذا من جانب. ومن جانب آخر، علاقة عكّا بريفها القرويّ، إذ عرفت المدنيّة ريفًا متنوّعًا اجتماعيًّا ومذهبيًّا من فلّاحين وبدو، فيهم المسلمون والمسيحيّون والدروز، أحاطوا عكّا ورفدوها بدورهم على مدار تاريخها الحديث، بوصفها عاصمة الجليل منذ أن أعاد ظاهر العمر بعثها أواسط القرن الثامن عشر.

ورغم أنّ مذكّرات سيقلي تستبطن مسوحًا من هواجس طائفيّة بيّنها صاحب المذكّرات في بعض الأحيان، خصوصًا حديثه عن الخوف الّذي خيّم على مسيحيّي مدن وقرى الجليل على أثر مذابح سنة 1860 الطائفيّة في الشام وجبل لبنان الّتي ظلّت فلسطين بمنأى منها. إلّا أنّ مواقف انحياز بعض أعيان عكّا إلى جانب فلّاحي ريفها ضدّ أعيان ومتنفّذين آخرين من المدينة بدت شديد الوضوح في المذكّرات. تملّكت عائلة سيقلي نفسها أراض وأملاك في قريتي جولس ويركا، وهما قريتان درزيّتان، وقد انحازت العائلة في كثير من الخلافات على الأراضي وضرائب المحاصيل لصالح فلّاحي تلك القرى ضدّ وجهاء عكّيّين، فيسوق سيقلي مثلًا، عن الخلاف الّذي نشب بين أهالي قرية ساجور الدرزيّة في الشاغور مع فؤاد سعد أحد وجهاء مدينة عكّا المتنفّذين، والّذي اشترى بدوره كامل أراضي القرية ما عدا بيوت ساكنيها، ولمّا حاول سعد الاستيلاء زورًا على أراض إضافيّة وعريّة فتحها فلّاحو ساجور وحجروها وزرعوها عنبًا، انحاز قسطنطين سيقلي الّذي كان يمتهن المحاماة إلى جانب فلّاحي ساجور ورافع عنهم في محكمة عكّا بمبادرة شخصيّة منه ضدّ ظلم المتنفّذ فؤاد سعد إلى أن أعاد لهم حقّهم، ولم يكن ذلك انحيازًا مصلحيًّا كما يظنّ، بل انحيازًا وجدانيًّا وأخلاقيًّا متنتهما أواصر الجوار والتراحم والاعتبار، على الرغم من الفوارق الاجتماعيّة ما بين عكّا المدينة وقرى ريفها.

سوريّ الهويّة والهوى:

تبرز مذكّرات قسطنطين سيقلي جانب هامّ متّصل بسؤال الهويّة والانتماء الجماعيّ لدى سكّان شمال فلسطين العثمانيّة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حيث لم تكن فلسطين قد تشكّلت كوحدة إداريّة – سياسيّة مستقلّة عن سورية بعد. وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ موقف سيقلي في انتمائه يعبّر عنه شخصيًّا أوّلًا، ودور البعد المذهبيّ خصوصًا مع اعتزاز صاحب المذكّرات بالأصل الأجنبيّ لعائلته وحكاية منشئها الروسيّ المتخيّل، بالتالي لا ينسحب موقف سيقلي في شكل تعبيره عن هويّته على باقي العكيّين أو عموم سكّان مدن وقرى الجليل بالضرورة.

ومع ذلك، تبيّن لنا مذكّراته التكوين السوريّ في هويّة سكّان فلسطين العثمانيّة، خصوصًا وأنّ والبلاد في حينه كانت تعرف وتعتبر جنوب سورية أو سورية الجنوبيّة، وبالتّالي كان التعبير عن الهويّة السوريّة بمثابة انتماء شاميّ – حضاريّ ضمن الفضاء الحضاريّ العربيّ – الإسلاميّ الأوسع، بما يتضمّنه الانتماء إلى سوريّة بتشكيلها الجغرافيّ والاجتماعيّ المتنوّع ثقافيًّا ومذهبيًّا من جانب، وتعبير عن موقف معارض للحكم العثمانيّ عبر الانتماء لسورية كهويّة تنزع إلى تطلّعات سياسيّة من جانب آخر. إذ يبيّن صاحب المذكّرات موقفه المناوئ إلى حدّ العداء من العثمانيّين، رغم عمله في دوائرها الحكوميّة، غير أنّه لم يكن موقفًا طائفيًّا، إنّما سياسيًّا عبّر عنه سيقلي بانتمائه السوريّ، وهذا ما ساد في بلاد الشام وقتئذ، ثمّ لاحقًا مع الحرب العالميّة الأولى، حين رمت الدولة العثمانيّة بأعباء الحرب على كاهل سكّان البلاد، من ضرائب وتجنيد إجباريّ وسياسات قمعيّة.

كما تبيّن سيرة سيقلي ومسيرته التعليميّة أثر العمق الجغرافيّ في تشكيل الرابط المتوسّطيّ على ساحل المشرق ما بين حيفا وبيروت الّذي شكّلته أواصر الاجتماع والمعاش والدين كذلك، إذ كان التعليم في المدارس الحديثة ما يزال في حينه حكرًا على فئة معيّنة من أبناء المجتمع المدينيّ دون غيرهم، وقد التحق سيقلي منذ نعومة أظفاره بغير مدرسة بدءًا بمدرسة دير الروم الخارجيّة في عكّا، ثمّ إلى المدرسة الوطنيّة في بيروت وصولًا إلى مدرسة عين طورًا “عنتورة” الكسروانيّة في جبل لبنان.

وثيقة للتاريخ:

كانت مسيرة قسطنطين سيقلي التعليميّة منذ طفولته حتّى بلوغه، تبيّن طبيعة الحياة التعليميّة في النظام المدرسيّ الداخليّ الّذي كان يلتحق به أبناء أعيان ووجهاء المدن المشرقيّة في حينه. غير أنّ السيرة العمليّة – المهنيّة لسيقلي كانت تزخر بالتفاصيل الّتي تترك انطباعًا لقارئ المذكّرات عن طبيعة حياة المدينة الساحليّة من جوانب مختلفة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة قبل ذلك. فقد عمل سيقلي في مهنة المحاماة في مدينته عكّا وكذلك في مدينة طرابلس اللبنانيّة، وعلى ما يبدو كان من أوّل من امتهنوا المحاماة في البلاد وبالتّالي يمكن اعتبار مذكّرته أوّل وأبكر مذكّرات كتبت في تاريخ فلسطين الحديث.

كما عمل سيقلي موظّفًا فيما كان يعرف بـ “سلك الرزي” شركة انحصار الدخان ومراقبته، إذ أصبح مسؤولًا عن عمليّة زراعة الدخان ومراقبة قطفه ثمّ توريده للسوق الحكوميّ في أقضية عكّا والناصرة وطبريّا، أي كلّ مناطق الجليل ممّا جعله عمله هذا يقود فرقة من الخيّالة الجوّالة في قرى الجليل لمتابعة شؤون زراعة الدخان فيها. ممّا يعطينا صورة هامّة عن عالم الدخان وزراعته وأدوات الضبط والرقابة عليه أيّام العثمانيّين، فضلًا عن عالم التهريب ومهرّبي الدخان في حينه والخطوات الّتي كانت متّبعة لمكافحة التهريب، خصوصًا التهريب البحريّ على شواطئ مدن الموانئ ما بين عكّا وبيروت وطرابلس شمالًا.

وأكثر من ذلك، فقد نشط صاحب المذكّرات سياسيًّا أيضًا في مدينته عكّا، إذ انتسب إلى “جمعيّة الاتّحاد والترقّي” الّتي نشطت في مدن بلاد الشام مع مطلع القرن العشرين. وتعتبر مذكّرات سيقلي بمثابة وثيقة تؤرّخ لنشاط جمعيّة الاتّحاد والترقّي السرّيّ، واجتماعات أعضائها في مدينة عكّا، حيث استقطبت الجمعيّة زمرة من أبناء المدينة المعارضين للحكم العثمانيّ الحميديّ وقتها. كما كان للجمعيّة في عكّا نشاط ثقافي، وقد انخرط سيقلي في ذلك النشاط على مستوى التمثيل والحياة المسرحيّة في عكّا، إذ يذكر سيقلي بأنّه لعب دور تمثيل “رواية صلاح الدين الأيّوبيّ” بما تتضمّنه شخصيّة صلاح الدين من حمولة رمزيّة متّصلة بالهويّة العربيّة – الإسلاميّة لأبناء سورية المحتجّة على سياسات العثمانيّين. كان عالم الثقافة والأدب والمسرح في طور من التحوّل المجدول بالتحوّلات السياسيّة الّتي كانت تعصف بمدينة سيقلي والمدن المشرقيّة على ساحل المتوسّط عمومًا.

الهجرة:

تتضمّن مذكّرات سيقلي فصولًا من معاناته ومعاناة غيره من السوريّين (الشوام) مع الأمراض والأوبئة الّتي كانت تحصد أرواح عائلات بأكملها، إذ فقد سيقلي بناته الاثنتين وزوجته اللّائي قضين بالمرض. كذلك كانت الهجرة من البلاد إلى أميركا الشماليّة واللاتينيّة وتيرتها في ازدياد متواصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خصوصًا من مسيحيّي قرى ومدن الجليل. ولطالما عنون سيقلي مذكّراته “من عكّا إلى تكساس” فقد هاجر سيقلي غير مرّة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، إلّا أنّ هجرته الأخيرة بلا رجعة كانت في حزيران/يونيو سنة 1909. قد يستغرب أيّ قارئ فعلًا دوافع هجرة الشباب وتركهم البلاد إلى ذلك العالم المجهول في حينه، خصوصًا في حالة صاحب المذكّرات الّذي كان ابن عائلة ميسورة الحال في مدينة عكّا، وقد استطاع سيقلي أن يبني سيرة مهنيّة- عمليّة جعلته من أحد أبرز وجوه المدينة.

أورد قسطنطين سيقلي، إشارة واحدة تشي بدافع هجرته وتركه البلاد متّصلة بهاجسه من مرحلة من “التعصّب الطائفيّ” كانت البلاد على موعد بحسب ظنّه كما يذكر وقتها. غير أنّ البلاد في حقيقتها كانت على موعد مع غزوة استعماريّة كبرى (الاستعمار البريطانيّ ثمّ الصهيونيّة) التحم فيها كلّ أهالي البلاد على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم في مواجهتها من حينه إلى يومهم هذا بعد ما يزيد عن قرن من الزمن من ترك سيقلي فلسطين.

كان الفصل الأخير من مذكّرات قسطنطين أسعد سيقلي قد جاء تحت عنوان “هموم أميركا”، حيث انهم صاحب المذكّرات من ظروف الغربة والتشرّد وتقلّب وقسوة أحوال المنفى خارج وطنه. عمومًا هموم أميركا ليست هم سيقلي وحده، فما تزال الهموم من أميركا وسياستها تطاول أبناء شعبه الباقين في بلادهم إلى يومنا.

* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي

المصدر: عرب 48

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.