جميل مطر *
أسباب كثيرة سوف تكون وراء ضرورة اهتمامنا، نحن العرب والمصريين بينهم، بدول أمريكا اللاتينية. أكتب بصيغة المستقبل وأنا مُدرك لشدة انشغالنا بتطورات غير مسبوقة في منطقتنا. أكاد أعمم فأجزم بأنه لا توجد في المنطقة العربية دولة لا تواجه تحديات تتفوق على قدراتها الفاعلة وإمكاناتها المعبأة مما يجعلها غافلة في اللحظة الراهنة عن أهمية أمريكا اللاتينية في حسابات للمستقبل.
بين الأسباب سبب شخصي جداً. عشتُ هناك أربع سنوات قبل ستين عاماً. كانت بالنسبة لي مرحلة هامة من مراحل تكويني الدبلوماسي والسياسي والشخصي. رحتُ هناك على خلفية تجربة آسيوية قصيرة في الهند والصين وتجربة أوروبية أطول في إيطاليا ومحملاً برغبة دافقة لضرورة التعرف على ثقافة سياسية كنت أسمع أنها مختلفة.
الأسباب الأخرى كثيرة أنتقي منها، من وجهة نظري، أقواها تأثيراً في تاريخنا وفي مسيرة بلادنا الأيديولوجية والسياسية. أنتقي مثلاً مجموعة توجهات وعقائد وسلوكيات كانت أمريكا اللاتينية أسبق منا إلى اعتناقها أو الأخذ بها أو كانت نموذجاً جاهزاً لنا، وأقصد لبعض نخبنا الحاكمة، لتُقلده.
أولاً: التنمية المستقلة؛ كنا شهوداً على مرحلة بدأت هناك في دول بعينها من دول القارة اللاتينية اقتنع بعض أساتذة الاقتصاد والاجتماع فيها وفي مصر على وجه التحديد بسياسات ومناهج التخطيط الاقتصادي القائم على مبادئ التنمية المستقلة والاعتماد على الذات. وجدتُ هناك من يتابع جهود دعاة التنمية المستقلة في التجربة المصرية، وأذكر جيداً أن جاءنا في سفارة مصر بـ”بيونس آيرس” من جهات مصرية مسؤولة استفسارات عن تفاصيل تجارب أكاديمية وواقعية جربتها دول في أمريكا اللاتينية. تعرفتُ عند عودتي لمصر على شخصيات كانت تفخر بانضمامها ذات يوم إلى هذه المدرسة والاستفادة منها في فكر التنمية المصري وأدائه.
ثانياً: كان مثيراً لنا، كباحثين في العالم العربي كما في أمريكا اللاتينية، التعرف على الأصول التاريخية والثقافية لظاهرة تدخل العسكريين في السياسة والحكم. ساد في زعم الطرفين حكاية أن أصل الظاهرة مغروس في شخصية القادة العسكريين الذين أوكل إليهم مهمة فتح أمريكا الجنوبية لصالح إسبانيا والبرتغال. ساد زعم آخر يتعلق بطبيعة المهاجرين وأسباب هجرتهم، فالفاتحون الإنجليز والفرنسيون لم يُخلّفوا في أمريكا الشمالية ثقافة الهيمنة العسكرية على عمليات صنع السياسة بينما خلف الجنود الذين استوطنوا القارة الجنوبية ثقافتهم العسكرية. قيل أيضاً في هذا الصدد أن المهاجرين الذين نزلوا في القارة الشمالية وجدوا السكان الأصليين يعيشون في ظل نظام قبلي طبيعته الانفراط ولا يخضعون لإدارة أو حكم مركزي على عكس معظم المُهاجرين من شبه الجزيرة الإيبيرية إلى أمريكا الوسطى وشمال أمريكا الجنوبية، هؤلاء تصدى لهم نظام إمبراطوري بمركزية مشهودة وحضارة راسخة.
على الناحية الأخرى في الشرق الأوسط ساد زعم أقرب إلى المزاعم السائدة إلى يومنا هذا في أمريكا اللاتينية. الزعم أننا ورثنا من الثقافة الإسلامية عسكريتها وربما ورَثّناها لحكام الأندلس ومنهم إلى خلفائهم المسيحيين الفاتحين للقارة الجديدة، ورَثّناهُ أيضاً لحكام العصر المملوكي ومنهم إلى ولاة الإمبراطورية العثمانية. على كل حال فإننا في مصر لم نبتدعه فقد سبقنا إليه الجنرالات السوريون الذين دشنوا الحكم العسكري في مرحلة مبكرة من مراحل استقلال سوريا وبالتأكيد لم تكن مصر أول من دشنه في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
يهمني في هذا السياق الإشارة إلى حقيقة عشتها في الأرجنتين في ظل حكم عسكري سبقه حكم مدني وهي القدر العالي من احترام قادة العسكريين هناك لقادة جيش مصر في ذلك الوقت والاهتمام بأفكارهم السياسية. قيل لي وقتها من دبلوماسي أرجنتيني خدم في القاهرة، وكانت بلاده تحكمها حكومة مدنية، أن بعض قادة الجيش في وطنه كانوا يطلبون من أفراد في السفارة تقارير سرية عن سياسات الجيش المصري الداخلية والخارجية وأساليب إدارته لهذه الشؤون وتلك.
- • •
ثالثاً: كنتُ هناك في شيلي ثم في الأرجنتين عندما بدأ المهاجرون العرب، وأكثرهم من الجيل الأول، يشعرون بأن أمريكا اللاتينية صارت وطناً أول يستحق الاستقرار فيه بشكل دائم، وكثيرون أعرفهم من أبناء الجيل الثانى اندمجوا فعلاً في الحياة السياسية في بلاد المهجر، وتخلوا عن نوايا الأهل من الجيل الأول وفي صدارتها جمع الثروة بسرعة والعودة لـ«لبلاد»، كما كانوا يُطلقون على مساقط رؤوسهم. عدتُ بعد عشرين عاماً لأجد كثيرين وقد صاروا بالفعل نواباً وقادة أحزاب بل ورؤساء في عدد من الدول.
عدتُ لأجد هؤلاء وقد اختلفوا عن آبائهم في أمور أخرى ليست أقل أهمية. رأيتهم، عن غير تعمد، يُشكلون على اختلاف توجهاتهم السياسية نواة شبكة صد للنشاط الصهيوني في بلادهم الجديدة. اليوم وأنا أستعيد الحوارات التي دارت مع كثيرين من أبناء المغتربين خلال رحلة بحثية شاركني فيها من الأردن “مصطفى الحمارنة” ومن سوريا “بسمة قضماني”، أكتشفُ مجدداً أن إسرائيل سوف تجد قطاعات واسعة في شعوب دول كثيرة في أمريكا اللاتينية تقف مُتصدية لأنشطة أجهزتها الصهيونية. سوف يتكرر في أمريكا الجنوبية وبشكل أوسع ما قدمته الأجيال الجديدة من أصل عربي في أمريكا الشمالية وعديد دول أوروبا وكندا من معارضة قوية لعمليات الإبادة الإسرائيلية لشعب فلسطين. هناك في كل المهاجر ينمو ويتشعب تهديد قوى، وقد يصبح حاسماً، للنفوذ الصهيوني في دول الغرب. لا أستبعد، على كل حال، أن تشتغل إسرائيل ومنظماتها الأخطبوطية، من الآن على استنفار عملائها وأبناء دينها وبعض حكومات أمريكا اللاتينية من أجل وقف هذا التمدد في التأييد للفلسطينيين ومن أجل العمل على تعزيز مواقع النفوذ الصهيوني وبخاصة في الأرجنتين حيث توجد أكبر ثالث جالية يهودية في العالم.
رابعاً: بعد عقود تباعدنا فيها نعود تدريجياً لنلتقي، أقصد عالمنا العربي وأمريكا اللاتينية، على أوجه شبه. هنا أيضاً أنتقي بعضاً من هذه الأوجه أراهُ منفتحاً على مستقبلات متقاربة إن لم تكن متشابهة. انتقيتُ ما يلى:
(1) انسداد في كثير من شرايين تجارب التنمية في العدد الأكبر من دول الإقليمين. أراه مؤشراً لمراحل عدم استقرار قادمة.
(2) تضخم الطبيعة الشبابية للسكان في جميع دول أمريكا اللاتينية والدول العربية وتشابه انعكاسات هذه الطبيعة على كثير من سلوكيات السكان ومن بينها الزيادة في معدلات هجرة الشباب إلى الولايات المتحدة وأوروبا على التوالي وما يتبع ذلك من مشكلات سياسية واجتماعية لكل الأطراف.
(3) اقتراب متوازن ومتزايد من جانب دول عربية من كل من الصين وروسيا. هناك توجه واضح من جانب القوى المؤسسة لمجموعة البريكس لتشجيع دول من المجموعتين للانضمام.
(4) في الوقت نفسه وربما للسبب نفسه بدأت تهب على كل من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط رياح حرب باردة جديدة مصدرها التصعيد المتزايد للتوتر في العلاقات بين أمريكا من ناحية وكل من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران من ناحية أخرى. راجع معي دعوة يسار كولومبيا إلى عقد «مؤتمر عموم أمريكا» يضم جمعيات في ست دول من أمريكا اللاتينية لمناقشة سياسات الولايات المتحدة في القارة.
(5) لا أشك للحظة واحدة في صحة الاقتناع السائد لدى قطاعات رأي بأن الحرب التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين بمساعدة أمريكية خارجة عن المألوف، هذه الحرب تجر في أذيالها عواقب بلا حدود ليس فقط على مستقبل المشاركين المباشرين في هذه الحرب ولكن أيضاً على مجمل العلاقات الدولية والمؤسسات الأممية ومبادئ القانون الدولي.
- • •
الاهتمام بأمريكا اللاتينية صار ضرورة، وأسبابه كثيرة. أوضحتُ بعضاً منها. أغفلتُ ذكر بعض آخر وأكثرهُ يتعلق بالوضع الراهن لحال النظام الإقليمي العربي، وبالآثار المتوقعة، منها المباشر وغير المباشر، لحرب إسرائيل على فلسطين، وأغلبها ينضج على نار متعددة المصادر.
* كاتب ومحلل سياسي مصري
المصدر: الشروق