فايز سارة *
عدتُ مؤخرًا من جولة في ألمانيا، استمرت نحو ثلاثة أسابيع، زرتُ فيها مدنًا وقرى في أربعة اركان البلد الموصوف بأنه أحد أكبر بلدان أوروبا وأكبرها اقتصادًا، وتوقفتُ أكثر في الشمال حيث برلين العاصمة، وفي الجنوب الأغنى وفيه بعض أقرب الأقارب والأصدقاء.
جولتي الألمانية ربما كانت الأهم في علاقتي بهذا البلد الذي أمضيتُ فيه نحو عامين في تغريبة لم يكن مقدرًا لي أن أسير إليها. ففي هذه الجولة كان همي أن أدقق في أوضاع السوريين في البلد الذي توطن فيه نحو مليون سوريًا في سنوات الصراع السوري، وصار بهذا العدد في المرتبة الأولى من بلدان أوروبا، التي استقبلت لاجئين سوريين، وهو البلد الرابع بعدد السوريين بين بلدان العالم، حيث يأتي بعد سوريا وتركيا ولبنان حسب التقديرات الشائعة.
ألمانيا كما هو معروف عنها هي بلد العمل والإنتاج، ومن الطبيعي أن تكون بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومؤسساتها المختلفة متناسبة مع الصفة العامة للبلد، وطبيعي أيضًا أنّ أنماط عيش السكان الأصليين والوافدين من مهاجرين ولاجئين ومقيمين في سياق التوافق ذاته، وأشير إلى هاتين النقطتين لأبرز تمايز حال السوريين وحياتهم في سوريا عن حال الألمان وحياتهم في بلدهم، مما يدفع إلى تأكيد الاختلاف بين الحالتين، والأمر يتعدى التوصيف إلى مقاربة الاختلاف بما له من أسباب وخلفيات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تميّز البلدين والشعبين.
غير أنّ التدقيق في حال السوريين وحياتهم في ألمانيا يُبيّن مقدار توافق السوريين واندماجهم السريع في البلد. فأكثر اللقاءات والنقاشات والأخبار المتداولة مع الأصدقاء والأقارب، توقفت عند قصص السوريين ونجاحاتهم، التي تبدأ من تعلّم اللغة إلى درجة الإجادة حتى مرتبة اللغة الأم الغالبة في أوساط طلاب المدارس من الأطفال واليافعين وصولًا إلى طلاب المعاهد والجامعات، والتي تؤشر إلى مدى التقدّم العلمي والمعرفي للطلبة السوريين، وثمة أمثلة كثيرة عن نجاحات تحققت في دخول الشابات والشباب جامعات كبرى وتخصصات علمية هامة وحساسة، نادرًا ما انتسب إليها طلاب من خارج الفئات الأغنى والأكثر تأثيرًا في المجتمع الألماني.
ولأنّ انخراط القادمين السوريين في سوق العمل، كان يتطلّب اشتراطات إتقان مستوى من اللغة وتدريب مهني وتعديل الشهادات لتناسب المعايير الألمانية، فقد سعى كثيرون ولا سيما الشباب للإيفاء بمتطلبات الاندماج في سوق العمل إلا في حالات بعض كبار السن والذين كانت لديهم أحاسيس بتمايز قيمي واضح مع الواقع في المجتمع الجديد، وسجل شباب من العاملين السوريين (كما كان الحال في التعليم) حضورًا مميزًا في تخصصاتهم وفي المسؤوليات التي تسلّموها، ونجح كثيرون في تطوير مشروعات استثمارية إنتاجية وتجارية وخدمية/مهنية أقاموها سواء كانت مشروعات جديدة أو مشروعات منافسة، كما في حال المطاعم ومتاجر المواد الغذائية والأفران ومصانع الحلويات، وكلها تركت بصمة سورية في واقع ألمانيا.
لقد تكررت إشادة مسؤولين ألمان من أعلى المستويات مرات كثيرة بتميّز اللاجئين السوريين في اندماجهم ودورهم المتصاعد مقارنةً بحال موجات الوافدين واللاجئين إلى المانيا على مدار عقود مضت وبينهم الأتراك الذين تواصل وجودهم عبر عشرات السنين وما زال القسم الأكبر منهم يعيش في تجمعات تركية شبه مغلقة لغويًا وثقافيًا واجتماعيًا.
غير أنّ ما تقدّم من إيجابيات في وجود السوريين في ألمانيا، لا يعني أنّ الوضع بلا سلبيات. فهذه فرضية مستحيلة في بلد لديه اشتراطات وشروط ومواصفات، وفيه بيروقراطية ثقيلة، وأجهزة دولة عميقة، تجعله بلدًا صعبًا، لكنها لا تستطيع منع جزء كبير من اللاجئين الشباب والأطفال من التأقلم فيه ومعه، بخلاف قلة من الشباب ومعظم الكهول وكبار السن، يصعب عليهم التأقلم والاندماج. فيذهب بعضهم إلى العزلة والانكفاء وصولًا إلى المعاناة، فيما يحاول القسم الأكبر التشاطر والتحايل على القوانين والأنظمة، كما في التوجه نحو “العمل” خارج الأنظمة، و”التهرّب” الضريبي، وهذه ظواهر لها طابع مؤقت، لا يمكن أن تستمر، ويتواصل العيش في ظلالها.
لقد عانى السوريون في ألمانيا رغم كل الإيجابيات التي أحاطت بهم هناك من سياسات عجزت عن تحسين مستوى اندماجهم، حيث تركت أمور أغلبهم في عهدة موظفين مقررين بخبرة أقل، لم يسبق أن واجهوا ضغوط هجرة واسعة، فكانت النتيجة أخطاء وخطايا أثّرت في أوضاع بعض اللاجئين على مستويات عدة، ودفعتهم في مشكلات العمل، ولم شمل العائلات، وصعوبات الحصول على الجنسية، وإلزامهم تجديد جوازات سفرهم السورية، التي تجاوز أثرها السلبي، أن يدفعوا من أموالهم لنظام قتل أبناءهم، ودمّر ممتلكاتهم، وشرّدهم في المهاجر، وصولًا إلى استخدام أموالهم في قتل سوريين جدد.
وسط معطيات وحقائق تحيط باللاجئين في ألمانيا وبالسوريين منهم خاصة، جرى وضع وتعديل سياسات، واتخذت إجراءات من أجل معالجة مشاكل قائمة، لكن من الصعب القول، إنّ المشاكل سوف تُحل بالكامل، والأهم أنّ ألمانيا، ورغم كل الكلام والإجراءات، ما زالت تستقبل عشرات آلاف اللاجئين السوريين الجدد سنويًا، وقد سجلت دوائر الهجرة الألمانية في الشهرين الأولين من عام 2024 نحو 15 ألف طلب لجوء لسوريين جدد، وكلّه يؤكد ضرورة الحلول الألمانية الجوهرية لمشاكل اللاجئين والسوريين فيها على نحو خاص.
* كاتب وسياسي سوري
المصدر: “عروبة 22“