الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

على خطى أحمد بن فضلان (1 ــ 4)

د. عاطف معتمد *

في عام 2016 أخذت الصورة المرفقة لجدارية في المتحف الوطنى بمدينة بولجار على نهر الفولجا في البلاد العريقة التي تسمى «تترستان» والتي خاضت حروبا شرسة مع روسيا قبل 5 قرون كي لا تصبح جزءاً منها بسبب تمايز عقيدة وقومية شعوبها عن عقيدة وقومية «الروس» الزاحفين عليهم من الغرب.

الجدارية رُسمت في وقت حديث للغاية، ربما قبل زيارتي بعشر سنوات على الأكثر، ولكنها توثق لحدث شهير وقع قبل نحو ألف سنة.

إذا نظرتُ إلى الجدارية (التي يجلس أمامها التتري الأصيل «مراد» الذي كان دليلي في تلك البلاد) ستجد رجلاً ممشوقاً يرتدى رداء أبيض اللون يقرأ رسالة طويلة، وهذا هو السفير والرحالة «أحمد بن فضلان» الذي أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله في عام 921 ميلادية استجابة لرسالة من ملك بلاد البولجار الذي طلب تعريف قومه بالإسلام رغبة في الدخول فيه.

الطريف والمدهش أن الخليفة العباسي آنذاك لم يكن يستطيع أن يتحكم في الأراضي الخاضعة رسمياً لسلطة الخلافة في بغداد، حتى إنه لم يمنح تمويلاً لسفر ابن فضلان وطلب منه أن يأخذ ميزانية الرحلة في طريق سفره إلى تلك البلاد من أموال متأخرة من الإمارات الخاضعة لسلطة الخلافة.

كانت الخلافة الإسلامية في فترة ضعف آنذاك ورفضت الأقاليم أن تمنح ابن فضلان أموالها المتأخرة لبغداد وكادت السفارة أن تفشل نهائياً حيث تعثر عدد من أعضاء الرحلة أو تخلفوا لعدم وجود تمويل يكفي للسفر إلى تلك البلاد البعيدة في الشمال.

وصل ابن فضلان إلى بلاد البولجار وقِبلَ ملكها وشعبها الإسلام وصاروا من دون أية معارك شعوباً تدين بالإسلام بل كانوا يعرفون عن الإسلام ما أدهش ابن فضلان.

لكن هذه الشعوب تميزت بميزة مهمة للغاية، وهي أنها جمعت مع هوية الدين هوية قومية مخالفة لبقية الشعوب المجاورة لها وهو ما أعطاها خصوصية كبيرة في خريطة العالم الإسلامي، تلك الخصوصية التي تقوم على تزاوج الدين مع القومية، وهي خصوصية بالغة الشدة والأثر.

11 قرناً على الرحلة:

أكثر من 1100 سنة تفصلنا عن سنة في 921 م حينما وصل ابن فضلان إلى بلاد البولجار من تاريخ اليوم ستحصل على رقم 1100 سنة.

في هذه البقعة التي أخِذتْ منها الصورة المرفقة تم تشييد أول مسجد في هذه البلاد بعد قبول حاكم الإقليم للدين الإسلامي وفق الرسالة التي جاء بها ابن فضلان مبعوثاً من الخليفة العباسي المقتدر بالله.

بالطبع المساجد الفخيمة التي تبدو في الصورة ليست هي المساجد الأولى التي شهد ابن فضلان وضع لبناتها قبل 1100 سنة بل هذه مساجد تأسست حديثاً جداً لأسباب جيوسياسية، أي أسباب جغرافية وسياسية، وسأعرضها لكم في السطور التالية كمدخل افتتاحي للموضوع الشيق.

حينما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991 سعت جمهوريات ومناطق إدارية عديدة إلى الانفصال عن روسيا أسوة ببقية الجمهوريات التي كانت قد انضمت للاتحاد السوفييتي.

واحدة من تلك الجمهوريات (الشيشان) اختارت مساراً مُسلحاً انفصالياً لوقوعها على التخوم الجنوبية ولأسباب عديدة شرحناها حينما غررت بها بعض دول المركز الإسلامي والولايات المتحدة وبعض عناصر في الداخل الروسي.

استمرت تلك الحرب عشر سنوات دامية وانتهت بإخضاع الشيشان في حرب أكلت الأخضر واليابس.

في تلك الأثناء كانت هناك جمهورية أخرى هي «تترستان» تُطالب بالاستقلال نظراً لما لديها من مقومات قيام دولة منفصلة عن روسيا، خاصة أن هذه الجمهورية من أغنى الجمهوريات في البلاد.

في عهد بوريس يلتسين ثم في عهد فلاديمير بوتين تم اللجوء إلى الخيار التفاوضي وهو أن تُمنح تترستان امتيازات كبيرة من الميزانية الفدرالية شريطة أن تبقى ضمن سلطة «الاتحاد الروسي» وهو الاسم الصحيح للترجمة الخاطئة التي نقولها عن روسيا حين نسميها «روسيا الاتحادية» فالاسم الصحيح هو «الاتحاد الفدرالي الروسي».

يقوم النظام الفدرالي على منح صلاحيات عديدة للجمهوريات، فـ«تترستان» مثلاً لديها رئيس للجمهورية ومجلس وزاري (التقيتُ مثلاً مع سفير بلادنا في موسكو في عام 2015 مع وزير الثقافة في هذه الجمهورية ضمن فعاليات نشاط ثقافي مشترك مع مصر، وهو وزير ثقافة للجمهورية غير وزير ثقافة عموم الاتحاد الروسي).

أي أن الجمهورية تتمتع (بشكل عام) بمزايا الحكم الفدرالي الذي يستثني منها التمثيل الدبلوماسي الخارجي أو شؤون الدفاع والجيش.

ملف تترستان شائك شائق، ويحتاج إلى مجلدات كي نوفيه حقه، لكن بخصوص الصورة المرفقة فإن ما نراه هو جزء من إعادة إحياء مدينة بولجار الإسلامية التاريخية التي كانت واحدة من أهم المراكز الحضارية في تلك البلاد قبل 1100 سنة.

وبما أني زرتُ هذه المدينة في الصيف فقد وجدتها قبلة للسياحة الوطنية من أبناء الجمهورية الذين يشعرون بفخر ديني وقومي تجاه تاريخهم في هذه البلاد.

البولجار في تترستان:

تجمع تترستان كما ألمحنا بين هويتين:

– هوية إسلامية اختارتها رسمياً في عام 921 مع رحلة ابن فضلان (وإن كان الإسلام قد وصل هنا قبل ابن فضلان بعدة قرون بشكل روحي وعبر التجار وليس عبر بعثات دبلوماسية)

– هوية قومية باعتبار أن لسكان الإقليم تكويناً عرقياً وقومياً مختلفاً عن العرق الروسي.

لو تحدثنا بلغة المفاوضات البراجماتية فإن التدمير الذي شهدته الشيشان في العشرية السوداء حتى عام 2000 قد انعكس على تترستان إيجاباً كما انعكس على بقية الجمهوريات ذات المقومات الانفصالية.

صحيح أنه اليوم عادت جروزني العاصمة الشيشانية إلى بنية عمرانية حديثة وعمائر عصرية إلا أن ذلك حدث بعد أن دمرت الحرب كثيراً من المقومات البشرية في تلك الجمهورية.

تترستان لم تشهد حرباً، واستفادت نسبياً من الضغط الذي سببته المشكلات الانفصالية في الشيشان فشهدت نهضة عمرانية وتنموية، أخذاً في الاعتبار أن أبناء هذه الجمهورية يرون هذه النهضة «مستحقة» وهي جزء من إمكانات بلادهم التي يجب أن تعود عليهم.

بولجار إذن التي تظهر مساجدها في الصورة المرفقة مدينة إسلامية أعيد ترميمها خلال العقدين الماضيين فقط.

والمساجد التي تراها في الصورة هنا تحاكي بشكل أو بآخر مُجمع “تاج محل” في الهند وهو اختيار بالغ الدلالة والتوفيق.

لا أستطيع أن أقول لكم إن بولجار مدينة عامرة بأرواح زمن ابن فضلان، فهي مدينة تأسست بإنفاق باذخ لاستعراض الفخر القومي والديني والتأكيد على أن موسكو تدعم الهوية القومية والدينية لشعوب تلك الجمهورية.

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.