الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لا بد من هزيمة التطرف

سمير العيطة *

لم يكن أفق المقايضة بعدم رد إيران على اغتيال ضيفها إسماعيل هنية على أراضيها كافياً لإبرام صفقة توقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. فلا المخاوف من حرب إقليمية شاملة ولا قرارات محكمتي العدل والجنائية الدوليتين ومجلس الأمن ولا الآمال بهدنة بالحد الأدنى لإيصال مساعدات الطعام والمعالجة إلى غزة قادرة على وقف ما عزمت القيادة الإسرائيلية عليه. كذلك لم تردَع الضربات المستمرة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة وتهجير المستوطنات الشمالية، ولا تراجع الملاحة في باب المندب وقناة السويس بشكل كبير، ولا تراجع الاقتصاد الإسرائيلي وتوقّف كثير من شركات الطيران عن رحلاتها إلى مطار بن جوريون. لا شيء يبدو قادراً على الوقوف أمام حرب الإبادة حتى النهاية. ولكن أية نهاية؟

عندما يتقصّد أحد أطراف حرب تصعيد حربه عبر اغتيال من يمكن أن يتفاوض معهم، وخاصة الجناح السياسي لخصمه، فهذا يعني أنه بكل بساطة ووضوح أنه لا يريد وقف الحرب وحلاًّ سياسياً. وعندما يُفلِت الطرف المعني وزراءه ومستوطنيه لتهديد مقدسات من يختلف معه، أي قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وحرق القرى في الضفة الغربية، فهذا يعني أيضاً أنه ذاهب إلى أقصى الاستفزاز في تصعيد الحرب. وعندما يقوم بتدمير البنى التحتية بشكل منهجي، ليس فقط في غزة بل في بلدات الضفة، فهذا يعني أيضاً أن هدفه هو قطع سبل الحياة عن شعب الطرف الآخر وتهجيره. وعندما يأخذ برلمانه «الديموقراطي» للتصويت بقصد منع الاعتراف بدولة فلسطينية، فهذا يعني أيضاً أن لا سلام يلوح في الأفق.

بالمقابل، تسمح متابعة وسائل الإعلام «الغربية» لمعاينة كيفية استيعاب موجة الاحتجاجات الشبابية والاجتماعية على الإبادة المستمرة، تارة عبر التشديد أن ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يماثل المحرقة النازية، وتارة عبر إبراز أن حرب إسرائيل كدفاع عن قيم «الغرب». هذا دون الحديث عن الإلهاء بالألعاب الأولمبية ومشاهدها. 

  • •  •

إن صفقة إطلاق سراح الرهائن مقابل المساجين الفلسطينيين ووقف إطلاق النار مؤقّتاً لن تحل «إشكالية» قطاع غزة المستدامة منذ عقود الاحتلال. فلا القيادة الإسرائيلية ولا «السلطة الفلسطينية»، التي لا حول لها ولا قوة، ولا الدول العربية الفاعلة أو تلك الوسيطة لديها تصور لمستقبل غزة وأهلها.

إن أي مستقبل حقيقي لغزة لا يُمكن عزله عن تاريخها. فغزة كانت منذ القدم صلة الوصل بين مصر، الأقرب إليها، وبلاد الشام. ولها رمزيّتها. ففي رفح جرى زواج كليوباترا الأولى، ابنة أنطيوخوس الثالث السلوقي بالملك بطليموس الخامس، ورثة الإسكندر الأكبر والمتنازعين آنذاك. لقد لقّبها المصريوّن حينذاك بالسورية قبل أن تصبح وصيّة على عرش مصر. وطوال التاريخ، عُرفت غزة بأنها مرفأ ومركز للتجارة، وفيها توفي ودفن جد النبي هاشم بن عبد مناف أثناء رحلاته التجارية. وبين آثارها معابد رومانية وكنائس ومساجد وكنيس يهودي وآخر سامري، حيث كانت دوماً رمزا للتعايش الديني، بفضل تجارتها. فلا معنى أن تبقى غزة سجناً كبيراً معزولاً، ليس فقط عن الضفة الغربية، بل أيضاً عن مصر وبلاد الشام. كما لا معنى لضم غزة إلى دولة «يهودية»، إذ لم تتبَع يوما مملكتي يهودا أو السامرا التوراتيتين. هذا إلا إذا كان الهدف هو تحقيق الحلم الأسطوري «من الفرات إلى النيل».

وغزة لها رمزيّتها «الثورية» في العصور الحديثة، إذ زارها تشى جيفارا أثناء الإدارة المصرية قبل «نكسة 1967» ووقوعها مع سيناء تحت نير الاحتلال.

بالمقابل ماذا إذا وقعت الحرب الإقليمية المتوقعة؟ بالطبع سيكون هناك دمار كبير يحل بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا… ولكن أيضاً في إسرائيل. لن تكون إسرائيل وحدها في هذه الحرب بل ستكون الولايات المتحدة طرفاً فيها وعلى الأغلب بعض الدول الأوروبية. وستحاول إسرائيل بفضل مناخ حرب كبيرة التضييق أكثر على الفلسطينيين والفلسطينيات وطردهم من قطاع غزة والضفة الغربية نحو مصر والأردن. كما ستحاول، أبعد من ذلك، احتلال أراض عربية جديدة في جنوب لبنان، بحجة تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، بل أيضاً في حوران، جنوب سوريا، الذي اشترت الوكالة اليهوديّة أراضي فيه في القرن التاسع عشر  تحت حجة طرد النفوذ الإيراني. وإذا لم يأت الاحتلال صريحاً لهذه الأراضي، فلتكُن «قوات دولية» من نفس الدول التي تؤيد إسرائيل، بعد اتفاقية «هدنة» الحرب الشاملة.

هذه ليست رؤية تهويلية. فمن الذي يمكنه منع إسرائيل من فعل ذلك، إذا لم يستطع أحد بعد أحد عشر شهراً من الإبادة والتجويع والتدمير… أن يوقفها؟

  • •  •

لندع التصريحات الإعلامية المطمئِنة والمضللة بقرب الصفقة وحل الدولتين جانباً. إذ لا يُمكن التعويل على الولايات المتحدة، التي يحتفي مجلس الكونجرس فيها، في خضم الإبادة، بمجرم حرب تلاحقه مذكرة اعتقال دولية، ويزداد توريد الأسلحة منها لاستمرار الحرب. ولا يُمكن التعويل على أوروبا، التي انخرطت في الصراع الروسي- الأوكراني، ولا تقوم دولها الكبرى سوى بتوصيل رسائل التهديد. ولا يُمكن التعويل على أنصار السلام وصفقة عودة الرهائن في المجتمع الإسرائيلي، فالغلبة اليوم للمستوطنين وأحلام يقظتهم.

كذلك لا يُمكن التعويل على كثير من الدول العربية وبعض فئات مجتمعاتها، حتى لضغط حقيقي لوقف الحرب. خاصّة بعد أن أخذها التضليل الإعلامي الإسرائيلي الممنهَج («الهسبرة» الإسرائيليّة) إلى قناعات مفادها أن مقاومة الاحتلال إرهاب، ونصرة الشعب الفلسطيني مغامرة طائشة، وأن الصراع الأساسي في المنطقة ما زال بين المسلمين السنّة والشيعة، بل يذهب البعض إلى القول أنه بين الإسلام و«الحضارة المسيحية-اليهودية». هذا عدا انشغال البلدان العربية بصراعاتها الداخلية وبين بعضها البعض كما بديونها السيادية ومشاكلها الاقتصاديّة.

إن انتهى الأمر بصفقة لوقف الحرب أم بحرب إقليمية كبرى، وحدها هزيمة جنون القادة الإسرائيليين، ولو معنوياً ونسبياً، كي يرحلوا عن الحكم، كفيلة بألا تشبه الأيام القادمة «نكبة 1948» و«نكسة 1967»، ليس في فلسطين وحدها، بل في كل المشرق العربي. إذ لا يُمكن للسلام أن يأتي دون هزيمة التطرّف. ليس فقط تطرّف داعش وأخواتها بل أيضاً التطرّف الصهيوني.

* كاتب وباحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.