علي حبيب الله *
لم تكن جولس المهجّرة في قضاء غزّة جنوبًا القرية الوحيدة الّتي تحمل اسمها “جولس”. ففي الجليل، وفي الشمال الساحليّ من قضاء عكّا، قرية باقية وعامرة بأهلها من الموحّدين الدروز إلى يومنا تعرف باسم جولس أيضًا، وكان يطلق عليها قبل النكبة جولس الجليل أو جولس عكّا. بينما جولس المهجّرة في الجنوب الساحليّ، كانت تعرف بـ”جولس عسقلان”، أسوة بأخواتها مجدل عسقلان، وحمامة عسقلان وجورة عسقلان كذلك، وكانت تتبع للمجدل تحديدًا، ولوائيًّا، فقد كانت تتبع لغزّة المدينة.
الموقع والتسمية:
إلى الشمال الشرقيّ على مسافة 29 كيلومترًا من غزّة المدينة كانت تقع جولس، وأيضًا على الاتّجاه نفسه إلى الشمال الشرقيّ، وعلى بعد 9 كيلومترات من مجدل عسقلان. كما كانت تقع في الجنوب الغربيّ على بعد 5 كيلومترات من السوافير الغربيّ، بينما من الغرب كانت تحدّ جولس وأراضيها قرية حمامة، ومن جنوبها مباشرة قريتي عبدس وبيت عفا المهجّرتين. فيما تحدّ جولس من الشرق والشرق الجنوبيّ قريتا كوكبا وعراق سويدان المهجّرتان أيضًا. كانت تتقاطع في جولس طريق المجدل – المسميّة المعبّدة والمؤدّية إلى القدس مع طريق معبّدة قادمة من أسدود شمالًا إلى قرى كوكبا وبرير جنوبًا. ممّا جعل موقعها هذا على تقاطع الطرق المؤدّية إلى مدن وقرى الجنوب ساحة اشتباك مع المنظّمات الصهيونيّة في عام النكبة، دارت فيها غير معركة عرفت بمعارك جولس.
ارتفعت جولس ما يقارب الـ 140 مترًا عن وجه البحر، وقد امتدّت القرية والأراضي المحيطة بها على مساحة قاربت 13,590 دونما ما بين أراضي زراعيّة حقول وبيارات، وأراض وعريّة اعتبرت مراعي لقطعان القرية. وكانت أرض جولس جالسة سهليّة أو سهويّة بالتعبير العامّيّ الّذي كان يستخدمه أهالي جولس لوصف قريتهم بحسب الحاجّ زيدان أبو سيف في مقابلة معه عن قريته على موقع فلسطين في الذاكرة.
يقول صاحب موسوعة “غزّة عبر التاريخ” إبراهيم سكيك، عن تسمية القرية جولس، إنّ مردّها إلى الـ”جلوس” لأنّها كانت مكان اجتماع وجلوس سكّان القرى المجاورة في المناسبات العامّة. وقلّما عرف أهالي جولس أصل ومعنى اسم قريتهم، إذ وعوا عليها وهي باسمها جولس، يقول الحاجّ زيدان أبو سيف عن قريته جولس. بينما صاحب موسوعة “بلادنا فلسطين” مصطفى الدبّاغ، يقول إنّ اسم القرية ربّما اشتقّ من “يوليوس” القائد الرومانيّ، الّذي أقام في المنطقة الّتي تقع فيها القرية في العصر الرومانيّ.
والقرية تحيط بها آثار رومانيّة فعلًا، منها معابد مقامة على عمدان رخاميّة بيضاء، وآبار مياه، وآبار لخزن زيت الزيتون وكذلك لحفظ وعتق نبيذ العنب، فضلًا عن جدران ومساطب مرصوفة بالفسيفساء، ورسومات لحيوانات وطيور وبقايا حمامات قديمة.
معالم وعوالم:
أحاطت بجولس وديان كانت تأتي من عند أقدام جبال الشرق، فوادي الخور كما يسمّيه الجوالسة، كان الأقرب إلى القرية، ويمرّ من شمالها متّجهًا غربه نحو البحر، لم يكن واديًا عميقًا، إلّا أنّه كان عريضًا، وداوم أهالي جولس على زرعه بالكرمة. أمّا وادي البيادر، فكان يمرّ من شماليّ شرق أراضي جولس ما بينها وبين السوافير الغربيّ، وأطلق عليه أهالي جولس تسمية وادي السوافير؛ لأنّه يفصلهم عنها، فيما أهالي السوافير الغربيّ أطلقوا عليه بدورهم تسمية وادي جولس. كان وادي البيادر بحسب ما يذكر مروان محمّد أبو سويرح في مقالته عن جولس المنشورة على موقع فلسطين في الذاكرة رافدًا مع وادٍ آخر في الناحية الشرقيّة من جولس، يشكّلان واديًا يمرّ بمحاذاة قرية حمامة غربًا بوادي “لبطح” الشهير.
وبحكم الموقع الكفريّ “الأثريّ” لجولس، فقد كثرت في محيطها الخرب الأثريّة، أشهرها خربة “صند حنّا” شماليّ القرية، نسبة لفرسان القدّيس “سانت حنّا” الّذين أقاموا فيها أيّام الغزو الصليبيّ للبلاد، وقد حرّف أهالي القرية تسميتها إلى صند حنّا، وكانوا آل الغصين من الرملة يملكون أراضي هذه الخربة. كما تملك آل الغصين أراضي خربة “وادي البيار”، والتي تقع شماليّ جولس أيضًا، وسمّيت كذلك نسبة لكثرة الآبار الرومانيّة والصليبيّة القديمة فيها.
يشير مروان محمّد أبو سويرح في مقالته، إلى خربة “أمّ العدس” في موقعها ما بين جولس وبلدة مجدل عسقلان على بعد أقلّ من ثلاثة كيلومترات من القرية في جنوبها الغربيّ. وبذكر أبو سويرح أنّها سمّيت كذلك، نسبة لجودة محصول العدس الّتي كانت تغلّه أرض الخربة قديمًا، وفي محيط الخربة مواقع أثريّة صليبيّة أقام عندها جيش الانتداب البريطانيّ في عشرينيّات القرن الماضي معسكرًا لقوّاته صار يعرف لدى أهالي القرى العربيّة المجاورة بـ “كامب خسة”. كما تحيط جولس، خرب أخرى مثل، خربة البزة، خربة الذراع وخربة الفرش. إضافة إلى “جورة المنايا” في غربيّ القرية، والّتي يقال بأنّ تسميتها بالمنايا أيّ الموت، نسبة للمعارك الطاحنة الّتي دارت عندها بين جيش صلاح الدين الأيّوبيّ والصليبيّين.
“يا ربّ بجاه النبيّ خير، ترزقنا رزقة الطير…”، كانت هذه أكثر دعوة تضرع إلى اللّه، دارت على ألسن نساء جولس، خصوصًا في أيّام الشدّة والملمّات وضيق العيش والمعاش. والنبيّ خير، هو من أشهر مقامات قرية جولس، وموقعه في الناحية الجنوبيّة منها. كان يزوره أهالي القرية، ويقصده أهالي القرى المجاورة أيضًا. ويضاء بزيت الزيتون في المناسبات الدينيّة والاجتماعيّة كما كان ملاذ المتوسّلين إلى اللّه والمتشكّين من قلّة الرزق وضيق المعاش للتشفّع به.
يذكر الحاجّ زيدان أبو سيف، بأنّ القيم على المقام حتّى عام النكبة، كان شخصًا من أهالي جولس يُدعى عبد اللطيف العبد يونس، ومع الوقت صار أهالي القرية يطلقون عليه عبد اللطيف النبيّ خير نسبة للمقام. وفي الأطراف الجنوبيّة من جولس كانت قبور إسلاميّة، أشهرها ضريح المجاهد الشيخ جبر، وكذلك ضريح الشيخ زيدان بحسب ما جاء في مقالة مروان أبو سويرح عن القرية.
كما في جولس جامع وحيد في الربع القبليّ “الجنوبيّ” فيها، مقبّب وبمئذنة قصيرة، أقيم إلى جانب بئر البلد التاريخيّة، وذلك وفق التقليد الريفيّ الّذي كان متعارفًا عليه في قرى قضاء غزّة حيث تحفر البئر أوّلًا للشرب، ثمّ يبنى المسجد إلى جانبها لتكتمل بهما مقوّمات نشوء أيّ قرية. تأخّر بناء المدرسة على النظام الحديث في جولس إلى عام 1937، حيث أقيمت مدرسة للذكور فقط، وللمرحلة التأسيسيّة- الابتدائيّة، وللصفّ الرابع فقط. ويتذكّر الحاجّ زيدان أبو سيف مبنى المدرسة في الناحية الشرقيّة من القرية، المبني من غرفة واحدة من الطوب، وكان قبل تحويله إلى مدرسة دكّانًا لأحد الجوالسة. وقبل ذلك، كان فكّ أولاد جولس للحرف يتمّ عبر نظام الكتاب، وقد تحدّث إبراهيم سكيك في موسوعته عن كتاتيب جولس، الّتي كان يعمل فيها شيوخ القرية من آل النقلة ومحمّد خليل.
كانت جولس تقسم إلى أربعة أرباع، وهو تقسيم شائع في قرى ريف غزّة، والربع يعني حارّة من بين أربع حارّات، يقطن في كلّ حارّة منها حمولة كبيرة تتّصل بها عائلات أخرى أصغر منها. وفي جولس كانت أرباعها الأربعة تقسم على كلّ من حمائل، أبو سيف، عايد، سليم والعصّار. طبعًا كانت عائلات أخرى تسكن هذه الأرباع منها عائلات مصريّة كذلك، وقد وصل عدد سكّان القرية قبيل النكبة إلى نحو 1200 نسمة، بينما الحاجّ زيدان أبو سيف يقول إنّ عدد سكّانها كان أكثر من ذلك إلى نحو زاد عن 1500 نفر.
معركة جولس وتهجيرها:
أدّت جولس في حرب النكبة دورًا هامًّا على مسرح أحداثها، وذلك بحكم موقعها على ملتقى الطرق ما بين القرى العربيّة والمستعمرات الصهيونيّة. ففي الثالث والعشرين من آذار/ مارس عام 1948 أعدّ مجاهدو مجدل عسقلان والقرى المجاورة كمينًا للدوريّات الصهيونيّة، حيث فجروا فيه عدّة ألغام، أسفرت عن مقتل وجرح عدد من الصهاينة، كما اشتبك المجاهدون مع النجدات الصهيونيّة، واستشهد منهم ثلاثة من أهالي قرية حمامة.
وفي كتابه “النكبة الفلسطينيّة والفردوس المفقود” أشار عارف العارف إلى معركة جولس الشهيرة بعد دخول الجيش المصريّ جنوبيّ البلاد في عام 1948، وذلك في العاشر من تمّوز/يوليو، حيث هاجمت القرية الفرقة السادسة من الجيش المصريّ بقيادة جمال عبد الناصر الضابط في حينه، والرئيس المصريّ الراحل لاحقًا، غير أنّ العصابات الصهيونيّة تمكّنت من صدّ ذلك الهجوم بحسب العارف. غير أنّه، وبحسب رواية الهاغانا الصهيونيّة، فإنّ جولس كانت قد سقطت قبل بأسبوعين من الهجوم المصريّ، أي في أواخر شهر حزيران، وأخليت من أهلها في حينه.
لم يبق من جولس غير بعض بيوتها المبعثرة بين الصبّار والشوك، وشجر الجميز والدوم إلى اليوم. وقد أنشأت على أراضي القرية سنة 1949 مستعمرة “هوديا” الصهيونيّة.
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48