رزان شوامرة *
“من المؤسف أنّ دولة كبيرة ومستقلّة وقويّة مثل الصين أصبحت أداةً بيد بوتين”. بهذه الكلمات، هاجم أخيراً الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الصين، متّهماً إيّاها بتقويض قمّة السلام العالمية التي عُقدت في سويسرا الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، بعنوان “قمّة السلام الأوكرانية”. وأضاف أنّ “روسيا تفعل كلّ ما في وسعها لعرقلة قمّة السلام باستخدام “النفوذ الصيني في المنطقة”. جاء هجوم زيلينسكي بعد رفض الصين المشاركة في القمّة قائلاً “إنّها تعمل من أجل عدم حضور الدول إلى قمّة السلام، على عكس الولايات المتّحدة التي وعدت بإرسال مُمثّل رفيع المستوى وتُشجّع الآخرين على الحضور”. وتُعتبر هذه التصريحات انقلاباً أوكرانياً على المواقف الرسمية السابقة تجاه الصين. فإلى وقت قريب، كان زيلينسكي يسعى إلى إشراك الصين وسيطاً لإنهاء الحرب، وطلب إجراء مكالمة مع نظيرة الصيني، شي جين بينغ، التي جرت فعلاً في إبريل/ نيسان 2024، وعقّب عليها زيلينسكي قائلاً: “كانت مكالمة طويلة وذات مغزى، وتم إيلاء اهتمام خاص لسبل التعاون الممكنة لإرساء سلام عادل ومستدام في أوكرانيا”.
يحاجج المُفكّر الإنكليزي روبرت كوكس أنّ القبول (Consent) من الآخرين شرط أساس تسعى القوى العظمى إلى الحصول عليه في سعيها إلى تعزيز نفوذها وهيمنتها عالمياً، إلى جانب تفوقها المادّي (العسكري والاقتصادي)، وإنشائها مؤسّسات دولية. ومن ثم، تأتي أهمية القبول من درجة أهمّية العوامل المادّية التي تمتلكها الدولة، فمن دون قبول المجتمع الدولي دورها الصاعد، والاعتراف بها لاعباً دولياً، يصعب على الدولة ممارسة قوّتها عالمياً وتحقيق الهيمنة. سعت بكين في الحربين، الروسية الأوكرانية والإسرائيلية الفلسطينية، إلى تحقيق تفوّق نسبي في مجال “القبول” لمكانتها دولةً تسعى إلى تحقيق السلام العالمي، مقارنةً بواشنطن التي “تصبّ الزيت على النار”.
الصين والقبول الأوكراني:
للحصول على القبول، مارست الصين دبلوماسية خطابية محسوبة، فروّجت دورها دولةً راعيةً للسلام عبر انتقادها سياسات الولايات المتّحدة. في الحالة الأوكرانية، اتهمت الصين بشكل مباشر واشنطن بأنّها السبب وراء الدمار وزعزعة النظام الأمني في أوروبا. ولترسيخ هذه الصورة، استغلّت الصين مرور ذكرى عام على اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وأصدرت وثيقتين في فبراير/ شباط 2023، وهما “مبادرة الأمن العالمي” و”الهيمنة الأميركية ومخاطرها”. تأتي أهمّيتهما من تأكيد الصين أنّ الأمن قضية مُلحّة لجميع الشعوب، وبسبب الهيمنة الأميركية، وعقلية الحرب الباردة، يعيش المجتمع الدولي في حالة عدم استقرار، كانت السبب الرئيس في اندلاع الحرب الأوكرانية.
طرحت بكين نفسها، في الوثيقتين، راعيةً للأمن الدولي، مُؤكّدةً سعيها إلى “إعادة” الأمن والسلم الدوليَّين، ودعت الدول إلى الانضمام إليها في إيجاد نظام أمني مشترك جديد، وبديل من النظام الأميركي. تتحدّث الصين في الوثيقتَين مع شعوب العالم قائداً فعلياً يسعى إلى بناء مُستقبل البشرية في بيئة آمنة، فجاء في وثيقة الأمن “إنّ قضية الأمن تتعلّق برفاهية شعوب جميع البلدان، والقضية السامية للسلام والتنمية في العالم، ومستقبل البشرية”. وحظيت الوثيقة بإجماع المجتمع الدولي وقبوله، خاصّة أنّها تُركّز على الأمن المشترك. ركّزت الصين في الوثيقتَين على نقد سياسات واشنطن، خصوصاً مسألة عدم التدخّل في الشؤون الداخلية وعقلية الحرب الباردة. وفي وثيقة الهيمنة الأميركية، نصّبت الصين نفسها قائداً لحملة دولية رسمية هدفها حشد الإجماع الدولي ضدّ الولايات المتّحدة، وتُعتبر الأولى من نوعها، التي تفردها الصين، وتُعنون فيها واشنطن خطراً على رفاهية الشعوب وسيادة الدول. وجاء مضمونها بمثابة تذكير للعالم بتاريخ الهيمنة الأميركية وحاضرها الخطير على السلام الدولي.
كانت الصين قد حقّقت بعضاً من القبول المرجوّ في الحالة الأوكرانية لاعباً دولياً من الممكن أن يُؤثّر في مجرى الأحداث. ردّ الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على الوثائق الصينية، قائلاً: “إنّ الصين تحترم تاريخياً سلامة أراضينا، ولذلك عليها أن تفعل كلّ شيء حتّى تغادر روسيا أراضي أوكرانيا… وأرغب في لقاء شي (جين بينغ)، لأنّ ذلك سيفيد بلداننا والأمن في العالم”. وفي تصريح آخر، دعا زيلينسكي نظيره الصيني إلى زيارة أوكرانيا، بقوله: “أريد التحدّث معه، لم نتواصل منذ بداية الحرب أبداً، ومُستعدّ لرؤيته هنا”. تشير هذه التصريحات إلى اقتناع أوكرانيا سابقاً بأنّ من يستطيع وقف الحرب ليس جو بايدن، بل الرئيس الصيني، وهو قبول واضح لدور الصين قوّةً عظمى صاعدة. ولكن، بعد القمة الأوكرانية، ورفض الصين المشاركة، اتّهم زيلينسكي الصين بوضوح بمشاركتها في العدوان على أوكرانيا، عبر توريدها أسلحة لروسيا خلال الحرب. وقال: “كيف تدعم الصين روسيا بعد فرض عقوبات عليها بسبب حرب أوكرانيا؟”.
يبقى السؤال: هل تستطيع الصين وقف الحرب؟ هل تمتلك أدوات القوّة للضغط على روسيا لوقف الحرب؟ وهل لديها رغبة حقيقية في إيقاف الحرب؟… لقد استخدمت واشنطن الخطاب نفسه، وقالت إنّها تأمل أن تقوم الصين بفعل ما يلزم لوقف الحرب الروسية على أوكرانيا. ولكن في السياق الأميركي، هل الدعوة كانت نابعة من اعتراف واشنطن بدور صيني متصاعد ومُؤثّر أم جاءت في سياق اتّهامها طرفاً متورّطاً في الحرب؟
الصين والقبول الفلسطيني:
بالانتقال إلى الحرب الإسرائيلية على غزّة، استغلّت الصين السلوك الأميركي أيضاً من أجل إبراز صورتها طرفاً يسعى إلى السلام في الشرق الأوسط. وقد انتقد المبعوث الصيني في الأمم المتّحدة، تشانغ جيون، واشنطن وحلفاءها بسبب التصويت ضدّ مشروع القرار البرازيلي في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزّة (أكتوبر/ تشرين الأول 2023؛ أيده 12 عضواً، وعارضته واشنطن، وامتنعت روسيا والمملكة المتحدة عن التصويت). قائلاً: “طريقة تصويتهم لا تُؤدّي إلّا إلى التشكيك في استعدادهم للسماح للمجلس باتخاذ أيّ إجراء، وفي صدقهم لإيجاد حلّ للمشكلة”. وفي تصريح آخر له بشأن الدعم الأميركي إسرائيل في استمرار الحرب، والقلق الصيني من توسّع الحرب إقليمياً بسبب هذه السياسات. قال تشانغ “لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السماح باستمرار القتال في غزّة وتصعيده، مهما كانت المُبرّرات، لن يُؤدّي إلى انتصار عسكري كامل لأيّ من الطرفَين، بل سيُؤدّي، على الأرجح، إلى كارثةٍ تعمّ المنطقة بأكملها”.
ولإثبات التفوّق الصيني على واشنطن أخلاقياً، وللتلميح بازدواجية المعايير الأميركية في الحربَين، قال تشانغ “نأمل أن تحافظ جميع الأطراف المعنية على الحياد، وأن تمارس نفوذها ممارسة فعّالة على الأطراف المعنية… ويتعيّن على الدول أن تتمسّك بالضمير الأخلاقي بدلاً من التشبّث بالحسابات الجيوسياسية، فضلاً عن المعايير المزدوجة”. ولوضع بكين دولةً تسعى إلى تحقيق سلام خالٍ من مصالح ذاتية، مقارنة بغيرها من الدول (الولايات المتّحدة)، قال تشانغ: “إنّ الصين ليس لديها مصلحة ذاتية في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. إنّ أيّ مبادرة تساهم في السلام سوف تحظى بدعم الصين القوي، وأيّ مسعى يُسهّل المصالحة الفلسطينية الإسرائيلية ستبذل فيه الصين قصارى جهدها”. من ثم، أظهرت الصين أنّها لا تمارس أدواراً تُعزّز الحرب وتُوسّع نطاقها، وأنّها لن تدعم طرفاً على حساب آخر.
منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صعّدت بكين نبرة انتقادها واشنطن، وصوّتت ضدّ مسودّة مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن، من دون الإشارة إلى الدعم العسكري والمادي الأميركي لإسرائيل أو عقلية الحرب الباردة، وبقي النقد محصوراً في إطار سياسات واشنطن في الأمم المتحدة. حيث قال تشانغ جون “المسوّدة لا تعكس أقوى الدعوات في العالم لوقف إطلاق النار وإنهاء القتال، ولا تساعد في حلّ القضية… إنّ مثل هذا التطبيق الانتقائي للقانون الدولي والمعايير المزدوجة لن يؤدّي إلا إلى دفع المزيد من المدنيين الأبرياء إلى حافة الموت”.
انتقدت بكين واشنطن بأنّها تمارس الانتقائية والازدواجية في التعامل مع القانون الدولي، واتهمتها بالمراوغة، وأكّدت أنّه ليس لها مصالح أنانية من الصراع كما لدى واشنطن، وأضاف تشانغ “ليس للصين مصالح أنانية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية… إنّ مثل هذا النهج المراوغ وغير الفعّال لن يُؤدّي إلّا إلى تسريع سقوط غزّة في كارثة إنسانية أكبر”. استمرّت الصين فيما بعد بتأكيد أنّ “عضواً” في مجلس الأمن هو سبب الفشل والعرقلة في التوافق على وقف إطلاق النار، ولكن بحذر، فقال تشانغ في تصريحَين منفصلَين: “يجب على مجلس الأمن أن يتخلّص من العرقلة والتدخّل من بعض الأعضاء… كان ينبغي للمجلس أن يعتمد قراراً أكثر شمولاً وقوّة قبل ذلك بكثير، ولأسباب معروفة للجميع، ولا سيّما العرقلة المُتكرّرة والمُستمرّة لعضو دائم في المجلس”. نجحت الصين عبر هذه السياسة الخطابية في تعزيز صورتها لاعباً إيجابياً ومهمّاً.
فلسطينياً، وعلى الصعيد الرسمي، قال وزير الخارجية رياض المالكي في مكالمة هاتفية مع نظيره الصيني وانغ يي “نُقدّم شكرنا العميق للصين لدعمها العدالة، وإرسال رسالة واضحة وقويّة، والوقوف بحزم مع الشعب الفلسطيني، وتقديم المساعدة الإنسانية الطارئة”. شعبياً، لاقت الصين قبولاً إضافياً بين النُّخَب الفلسطينية الأكاديمية. ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، تواصلت مجموعة من المُثقَّفين الفلسطينيين في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مع السفير الصيني في فلسطين، تسنغ جيشن، وسلّمته رسالةً مُوقّعة من شخصيات ومُؤسّسات أهلية ونقابية فلسطينية في لقاء معه في السفارة الصينية، وجاء فيها “إنّ ملايين الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها، ومئات ملايين الأحرار في العالم، الذين يحلمون بعالم أكثر عدلاً وبعيداً عن الهيمنة، يُعلّقون آمالهم على الصين بمكانتها ونفوذها كي تتحرّك وفق بوصلة العدالة والحرّية والكرامة الإنسانية، وتوقّف المجزرة ضدّ فلسطين والفلسطينيين الآن وفوراً”. أمّا عربياً، ففي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، قرّرت كلّ من مصر والسعودية والأردن وفلسطين وإندونيسيا ومنظّمة التعاون الإسلامي أن تكون بكين المحطّة الأولى لجولتهم الدولية التي هدفت إلى البحث عن سبل لوقف العدوان على قطاع غزّة. وكما في الحالة الأوكرانية، طالب وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية الصين بأن تؤدّي دوراً أكبر، إذ أشاروا إلى ضرورة توسيع التنسيق مع الصين، ليس من أجل وقف إطلاق النار فقط، بل أيضاً من أجل إقامة دولة فلسطينية على أساس حلّ الدولتَين. وفي السياق الإقليمي، دعوا الصين إلى أن تساهم مساهمة ريادية في تحقيق السلام والاستقرار الدائمَين في الشرق الأوسط.
فشلت الصين في تحقيق القبول في الملفّ الأوكراني بعد ما يقارب العامين من اندلاع الحرب الروسية. لقد اختبر زيلينسكي السياسة الخارجية الصينية خلال الحرب، واكتشف متأخّراً أنّ الصين لن تمارس أيّ ضغط يذكر على روسيا لوقف الحرب، وأن دبلوماسيتها الداعمة لاحترام سيادة الدول، بما فيها أوكرانيا، أقرب إلى الصوت منها إلى الفعل الحقيقي. فلسطينياً، حقّقت الصين قبولها، ومن غير المُرجّح أن يتغيّر الانطباع الإيجابي بشأن الصين، سواء في المستوى الرسمي الفلسطيني أو الشعبي.
* باحثة فلسطينية
المصدر: العربي الجديد