محمد هديب *
قبل اثنتي عشرة سنة من ميلادِ عالم الآثار واللاهوتي والمستعرب والخبير في اللغات القديمة الآرامية والعربية والعبرية واليونانية، الألماني غوستاف دالمان (1855-1941)، كان قسّ الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية ألكسندر كيث (1791-1880) يقرّر بصلف أنّ فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وامتدَّ العمر بدالمان ليعايشَ السياسي ونستون تشرشل، المدلّل في وسائل إعلامه بلقب “قاهر هتلر” وحائز جائزة نوبل للآداب عن مجرّد مذكرات سياسية.
وقفَ هذا الرجل أمام تحقيق لجنة بيل، لجنة التحقيق الملكية البريطانية لفلسطين (1936- 1937) التي أُنشئت إبّان الثورة الفلسطينية الكبرى ضدَّ الانتداب والهجرة اليهودية، وقال: “أنا لا أوافق على أنّ للكلب الموجود في المِذوَد (موضع علف الدواب) الحقّ النهائي فيه، على الرغم من أنّه ربما يُقعي هناك منذ فترة طويلة جداً”.
والرجلان، القس والسياسي، قدّما أشدَّ تلخيص للعقل الاستعماري الذي يقوم على التلفيق والدم، ضمن موجةٍ عارمةٍ احتشدت فيها الجمعيات والصناديق الاستكشافية من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة لإسقاط “علم آثار توراتي” على فلسطين يقضي مسبقاً بعدم وجود شعب، أو بوجود بدائي في أفضل الأحوال لا يستحقّ الذكر.
جاءت منذ نهاية القرن التاسع عشر سنواتٌ طويلة قضاها غوستاف دالمان معاكساً هذه الهجمة الظالمة، وقرّر، وهو اللاهوتي المؤمن بكتابه المقدّس، أنّ الدراسة الإثنوغرافية بالغة الدقّة لشعبٍ يعيش الآن على هذه الأرض طريقه لفهمِ ذلك التاريخ السحيق.
درّة ما أنجزه دالمان موسوعته التي ترجمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عشرة أجزاء، واحد منها عن القدس والباقي تحت عنوان “العمل والعادات والتقاليد في فلسطين”، وصرفت جهود الترجمة والبحث والمراجعة المضنية عشر سنوات من 2013 حتى 2023. وإذا قلنا إنّها موسوعة ضخمة فهي كذلك، غير أنّ العجيب هو الجَلَد الدؤوب والحفْر بدقّةِ الإبرة في توثيق الحياة الفلسطينية، في بناها الاجتماعية والثقافية والزراعية والعمرانية، من مضارب البدو إلى الفلاحين في بيوتهم ومواسمهم الزراعية إلى المدن.
منذ وطأتْ قدماه أرض فلسطين عام 1899 ودخوله القدس في 17 إبريل/ نيسان من ذلك العام، وقع أمرٌ لافتٌ للانتباه، وهو صدور كتابه “الديوان الفلسطيني” عام 1901، وجمع فيه نصوص الأغاني الشعبية الفلسطينية بشموليةٍ ومعرفةٍ، بفوارق النطق بين اللهجاتِ وملحقَة بنوتاتٍ موسيقية.
كيف أنجز هذا وهو الذي قضى في فلسطين شهريْن، ثم ارتحل إلى حلب سبعة أشهر، ثم عاد. وفي ذهابه وعودته، زار الأردن وجنوب لبنان، ثم استقرّ بعض الوقت في مصر؟ أي أنّ كتابه الهامّ، وهو لم يترجم بعد ترجمةً رسمية، جمع مادّته بصبر ومواظبة في بضعة أشهر.
والحديث إن كان في هذا المقام غير متعلّقٍ بـ”الديوان الفلسطيني”، إلا أنّ مفتاح المسيرة المعرفية لدالمان من خلال الشعر الشعبي يقطع بشكلٍ واضح بأنّه ليس من تلك الفصيلة التي اشتُهر عنها حملها معول الحفر بيد والتوراة بيد.
لقد دخل مباشرة في النسيج الاجتماعي منذ البداية، قبل أن يتلقّى أمر التعيين من الإمبراطور فيلهلم الثاني عام 1902 مديراً للمعهد الإنجيلي لدراسة الأرض المقدّسة في العصور القديمة حتى 1917. وهذا التكليف المموّل من قوةٍ عظمى في ذلك الوقت وضعَ دالمان في المجالِ الأصعب من البحث، إذ كان من سبقه يحفظون الدرس الديني من كتابٍ مقدّسٍ تجاه أرضٍ مقدّسة، وهذه القدسية أسهل ما يمكن أن تفعله دولٌ من طراز بريطانيا وفرنسا لنزعِ شرعية الوجود للسكّان الأصليين، وبناء مستوطنات مقدّسة كما الولايات المتحدة، والمستوطنات الإسرائيلية، ويحقّ فيهما ما قاله زعيم “هندي أحمر” إنّ “جلّادنا المقدس واحد”.
حين نقرأ الآن ما كتبه دالمان في مقدّمته سنعرف كم هو مختلف، وكم تلزمنا قراءةُ ما أنجزه، لأهميته الكبرى في قراءةِ شعبٍ وأرضٍ معاصريْن، حتى وهو يضع الكتاب المقدّس للمقارنة والتمثل بوصفه لاهوتياً. لكنه يعود من فلسطين العربية التي يُؤمن بها. وعليه، لا تصبح الحيثيات الدينية مصدر قلق دائم لنا، تحديداً لأنّها غير مؤدلجة ولا تُكتب كما تُكتب تقارير الجواسيس الاستعماريين.
“العلم” المشتق من تاريخ إسرائيل الأسطوري القديم جعل من التوراة وثيقة مُلكية عقارية، بوصف عزمي بشارة. لذلك أخذت كتابة دالمان مكانتها الرفيعة، لأنه، بوصف بشارة أيضاً، “لم يتجاهل أهل البلاد، ولم يعدّهم ظاهرة عابرة”. ولنأخذ من دالمان هذه العبارة في مقدّمة الجزء الأوّل من موسوعته “على سكان فلسطين أولاً وقبل كل شيء وبفخر له ما يبرّره بشخصيتهم الفذّة وماضيهم إقامة معلم لثقافتهم من خلال رواية مطابقة للحقيقة دونما تلطيف أو تجميل قبل أن يقوم التأثير الأوروبي بتفسيخه والقضاء عليه”.
جرتْ دماءٌ كثيرة تحت الجسر مع ولادةِ مأساة فلسطين، وقبل أن يُراكم المؤرّخون والباحثون سردياتٍ تنقض الخرافات المستعلية العنصرية بشجاعةٍ علميةٍ وأخلاقيةٍ، كما فعل، بعد عقودٍ من النكبة الأولى، كتاب المؤرّخ كيث وايتلام “اختلاق إسرائيل القديمة… إسكات التاريخ الفلسطيني”، داعياً إلى التحرّر من قبضة الدراسات التوراتية. لا بل من بين هؤلاء علماء آثار إسرائيليون، مثل إسرائيل فلنكشتاين وزئيف هيرتسوغ اللذين لا يكفّان عن نفي أيّ شواهد أثرية توافق أسطورة أرض الميعاد.
لنأخذ أيضاً مثالاً ساطعاً يأتي على لسان دالمان في تثبيته أسماء المواقع العربية، فقد جاءت قائمة الأسماء التي وضعها سوسين (يقصد المستشرق السويسري ألبرت سوسين) ونُشرت بعد وفاته في 1899 كثيرة الأخطاء والبيانات غير الدقيقة، لأنّ ما فيها من معلوماتٍ لم يُؤخَذ من أفواه الناس مباشرة.
يلتزم منهج دالمان العلمي بجذريةٍ يعبّر عنها بالقول إنّ “الأصل أن يحدّد الباحث كيف يفهم الناس أسماء المواقع في الأماكن التي يستخدمونها. أما كيف يسمّى موقع في أماكن اخرى، أو كيف يسمّى الموقع في اللغة المكتوبة، فهذا أمر لا قيمة له مبدئياً”.
تنقسم الموسوعة إلى المجلد الأول في جزأين، الأول سَيْر السنة وسَيْر اليوم الخريف والشتاء (1927) والثاني الربيع والصيف (1928) تلاهما مجلد “الزراعة” (1932) و”من الحصاد إلى الدقيق” (1933) و”خبز وزيت ونبيذ” (1934) و”قماش النسج والغزل والنسيج والملابس” 1937، والسادس “حياة الخيمة وتربية المواشي وتصنيع الألبان واصطياد الحيوانات وصيد السمك” 1939، والسابع “البيت، تربية الدواجن، تربية الحمام، تربية النحل” 1940، والثامن “الحياة المنزلية والميلاد والزواج والموت” (2001). وصدر الكتاب الأخير بعد 60 عاماً من وفاة دالمان بمبادرةٍ من معهد غوستاف دالمان، وهو غير مكتمل وترِد فيه فصولٌ عن الولادة وتربية الأطفال والحياة البيتية وحسن الضيافة والموت والدفن. أما فصل العرس ومأدبة العرس فبقيت صفحاته فارغة كما تركها.
تمنّى دالمان لو أنّه أكمل كتاباته وهو مقيم في فلسطين، حتى يتثبّت أكثر من كلّ ما دوّنه. ومنذ 1927 بدأ كالمحموم يُتمّ جزءاً، وينتقل إلى آخر، إضافة إلى كتاب “القدس ومحيطها الطبيعي” الذي كتبه عام 1929، وآثار أخرى ككتاب “مائة صورة جوية من فلسطين” (1925).
يدفع بنا دالمان برفقٍ إلى فلسطين التي أحبّها في كلّ مواسمها، وجال فيها راجلاً وعلى الدوابّ، لم يترك شيئاً إلا اهتم، بل هام به، وهو الذي بقي يتذكّر ربيع البلاد ويصفه “كم هو فاتنٌ تألق زهر أرجوان فلسطين! فمن سبق له أن تمتّع به في الشمس الفلسطينية لا بد أن يشتاق إليه دائماً، وخير ممثلٍ له هو شقائق النعمان”.
* كاتب وصحفي أردني
المصدر: العربي الجديد